وجوه إصلاح التعليم
وإلى أن يمضي الزمن حكمه الذي لا بد منه، والذي قد يطول انتظاره وقد يقصر، لا ينبغي أن تظل الدولة جامدة ساكنة لا تصنع شيئًا، بل يجب أن تصنع شيئًا لتخفيف الشر إذا لم يتح لها استئصاله.
وأيسر ما يجب أن تصنعه الدولة لإصلاح الديوان من جهة، وإصلاح الصلة بينه وبين المدارس من جهةٍ ثانية، وحماية الوزراء من التغيير والتبديل الذي يفسد أمور التعليم من جهةٍ ثالثة، أن تستخير الله، وتعتمد عليه، وتُقدِم في حزمٍ وعزمٍ على ثلاثة أشياء، كلها عظيم الخطر، بعيد الأثر في إصلاح التعليم على اختلاف أنواعه؛ لأنه يرد الثقة إلى نفس الناظر والمعلم، ولأنه يضمن الاتصال والاستمرار في سياسة التعليم، ولأنه يجري في عروق الوزارة هذا الدم الجديد الذي أشرت إليه آنفًا، والذي هو خليق أن يجدد نشاط الوزارة ويشيع فيها بعض ما تحتاج إليه من القوة والحياة.
فأما أول هذه الأشياء الثلاثة فهو إنشاء المجلس الأعلى للتعليم أو إعادته، على أن تمثل فيه فروع التعليم كلها، ومنها التعليم العالي بالطبع، وعلى أن تمثل فيه عناصر ليست من وزارة المعارف ولكنها تتصل بالتعليم من قربٍ أو من بُعد، وتستطيع أن تشير في أمره بالقيم من الآراء، وعلى أن يكون من أهم اختصاصات هذا المجلس أن يشير على الوزير في كل ما يقدم عليه من أمرٍ خطيرٍ يمس التعليم، وأن يؤلف من بين أعضائه لجنة دائمة تهيئ له أعماله من جهة وتشير على الوزير في الحياة التعليمية اليومية من جهةٍ أخرى، وعلى أن يكون وحده — وهذا شيء ألح فيه أشد الإلحاح — المختص بتأديب المعلمين.
هذا المجلس إذا أنشئ ضَمِنَ لسياسة التعليم الاستمرار والاتصال وعصمها من التقلقل والاضطراب، وكانت من مشورته على الوزير مادة صالحة تبصره وتضيء له السبل أمامه فيما يقدم عليه من أمر، وفي وجوده إذا وجد إحياء لشخصية المعلمين، واعتراف بشأنهم، وإعلان لكرامتهم؛ فسيمثلون في هذا المجلس فيشعرون بأن أمورهم إلى أنفسهم، وسيحاكم المخطئ منهم أمام هذا المجلس فيشعر المعلمون بأنهم يقضون في أمورهم، ويشعر المخطئ بالأمن والثقة والكرامة، وليس هذا بالشيء القليل في إصلاح نفس المعلم وإخراجه من اليأس إلى الأمل، وليس هذا بالشيء الكثير على المعلم؛ فقد قدمت في غير هذا الفصل أن الدولة التي تطلب إلى المعلم أن ينشئ لها جيلًا كريمًا يجب أن تشعر المعلم بأنه كريم على نفسه وعلى الناس.
وقد اقتُرِح هذا النظام من الجامعة فيما أذكر على حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا فقبله وأمضاه واستصدر به مرسومًا بقانون، ولكن الوزارة التي جاءت بعده لم تمض هذا المرسوم بقانون، ومن أيسر الأشياء أن يعاد النظر فيه، ورب ضارة نافعة كما يقال، فقد كانت وزارة المعارف إن صدقتني الذاكرة أبت أن تجعل تأديب المعلمين من اختصاص هذا المجلس حرصًا من الديوان — فيما أظن — على الاستئثار بالسلطان، وليس في وجود هذا المجلس خير إذا لم يُردَّ إليه هذا الاختصاص؛ لأن ذلك هو الذي يرد الثقة إلى المعلم، ويكفل له الكرامة، ويشعره الأمن والاطمئنان.
والأمر الثاني الذي يحسن أن تقدم عليه الدولة، معتمدة على الله، هو أن تعيد تنظيم مراقبات التعليم، ولعل الله يفتح على وزارة المعارف فتدع هذا اللفظ السمج، لفظ المراقبة وما يُشتق منه، إلى لفظٍ آخر سائغ سهل مقبول وهو لفظ الإدارة.
نقترح إذَنْ أن يُعاد تنظيم إدارات التعليم على اختلافها، فلا يستقل المدير أو المراقب بأمر إدارته أو مراقبته، وإنما ينشأ له مجلس صغير تكون له رياسته، على أن يؤلف هذا المجلس من بعض المعلمين في الإدارة أو المراقبة، ومن بعض العناصر البعيدة عن الديوان، ذلك أحرى أن يهون الأمر على المدير، وأن يخفف عنه بعض التبعات، وأن يشير عليه وعلى الوزارة عن بصيرةٍ وعلم، بما ينبغي الإقدام عليه أو الإحجام عنه.
ولنضرب لذلك مثلًا إدارة التعليم الثانوي، هذه الإدارة تنتفع من غير شك لو أُلِّف لها مجلس صغير من خمسة أعضاء هم: المدير واثنان يمثلان الجامعة واثنان يمثلان التعليم الثانوي نفسه، أحدهما مفتش والآخر ناظر أو معلم، فاللذان يمثلان التعليم الثانوي سيظهران المدير والوزارة على حاجة التعليم الثانوي وضروراته اليومية، واللذان يمثلان الجامعة سيظهران المدير والوزارة على ما يحتاج إليه التعليم العالي وينتظره من التعليم الثانوي وما قد يقترح من وجوه الإصلاح، وليس على الوزارة بأس من أن تقدم على هذه التجربة عامًا أو عامين، فإن رضيت عن نتائجها جعلتها أصلًا من أصول النظام في الديوان، وإلا ردت الأمر كما كان، وليس هذا الاقتراح جديدًا بالقياس إليَّ، وقليل مما أقترحه في هذا الحديث كله جديد بالقياس إليَّ، وإنما هي آراء رأيتها دائمًا، وألححت فيها، في المقالات والمحاضرات والأحاديث والتقارير، ويتاح لي الآن أن أصوغ منها ومن غيرها مذهبًا مطردًا مستقيمًا مستقلًّا في تنظيم الثقافة في مصر.
ليس هذا الاقتراح جديدًا بالقياس إليَّ، فقد اقترحته منذ سبع سنين في التقرير الذي قدمته إلى لجنة سياسة التعليم التي ألفها صاحب السعادة مراد سيد أحمد باشا حين كان وزيرًا للمعارف، والتي اجتمعت كاملة مرة واحدة لتسمع خطبة الوزير، ثم اجتمعت بعض لجانها الفرعية مرات، ولم تجتمع بعض لجانها الأخرى حتى تولى وزارة المعارف صاحب المعالي حلمي عيسى باشا فأهدى هذه اللجنة إلى النسيان.
إن بين الجامعة والتعليم الثانوي صلة طبيعية لا يستطيع باحث عن شئون الجامعة أو عن شئون التعليم الثانوي أن يجهلها أو أن يتغافل عنها، فالجامعة تستمد طلابها من تلاميذ المدارس الثانوية، وإذَنْ فمن أهم الأغراض التي ينبغي أن يقصد إليها من ينظم التعليم الثانوي أو يضع له سياسة، أن يكون هذا التعليم بحيث يعد الشباب إعدادًا حسنًا لدخول الجامعة على اختلاف كلياتها والاستفادة من دراستها العالية.
ولكن كثرة المتخرجين من المدارس الثانوية يذهبون إلى الجامعة أو إلى المدارس الخصوصية، فهم إذَنْ يهيئون أنفسهم للمضي في أنواعٍ من التعليم العالي مهما تختلف مناهجها وأغراضها فهي متفقة في أنها تعليم عالٍ يجب أن يهيأ له الطالب تهيئة حسنة، وأن يعد عقله ليكون من السعة والعمق والمتانة بحيث يستطيع أن يتلقى العلوم العالية فيثبت لها، ويستطيع التصرف فيها، آمنًا مستفيدًا. والذين يفرغون للحياة العملية يضطرون في حقيقة الأمر إلى هذا الفراغ وهم مكرهون عليه، يودون لو أتيح لهم المضي في الدرس، وينتهزون ما يسنح لهم من الفرص ليتصلوا بالتعليم العالي، فمنهم من يحاول الانتساب في كليةٍ من كليات الجامعة، أو مدرسة من المدارس الخصوصية، ومنهم من يتصل ببعض الجامعات الأوروبية والأمريكية يتلقون من دروسها بطريق المكاتبة، ومنهم من يعييه هذا وذاك فيبذل ما يستطيع من قوةٍ ليتم تعليمه، معتمدًا على القراءة في الكتب والمجلات، والاختلاف إلى ما يلقى من المحاضرات العامة.
فطبيعة التعليم الثانوي إذن تهيئ الطالب للمضي في الدرس العالي، وهي من هذه الناحية خليقة بعناية الجامعيين، وخليقة أيضًا بأن يفكر الذين يضعون سياستها في أن يمكنوها من أن تؤدي هذا الغرض على أكمل وجهٍ ممكن.
هذا إلى أن هناك صلة أخرى بين الجامعة والتعليم الثانوي ليست أقل خطرًا من هذه الصلة التي أشرت إليها، ففي الجامعة كليتان تستمدان الطلاب من التعليم الثانوي كغيرهما من الكليات والمدارس العليا، ولكنهما تمتازان بأنهما تهيئان هؤلاء الطلاب ليعودوا إلى التعليم الثانوي معلمين، بعد أن كانوا فيه تلاميذ.
فالصلة بينهما وبين التعليم الثانوي أقوى وأشد، فهما تأخذان منه، وتردان إليه، فيجب إذَنْ أن تكون عنايتهما بالتعليم الثانوي أشد جدًّا من عناية الكليات والمدارس الأخرى به، ولهاتين الصلتين نلاحظ أن الأسباب غير منقطعة في أوروبا بين الجامعة والتعليم الثانوي؛ فالتعليم الثانوي جزء من الجامعة في كثيرٍ من البلاد الأوروبية، بحيث متى أطلق اسم الجامعة فيها لم تفهم منه الكليات وحدها، بل فهمت منه الكليات والمدارس الثانوية، وربما كانت الجامعة الفرنسية أصدق الأمثال وأقواها لهذه الفكرة؛ ففي فرنسا عدد من الجامعات تتألف كل جامعة منه من الكليات الأربع ومدرسة أو مدارس ثانوية، حسب حاجة الإقليم الذي تقوم فيه الجامعة. والجامعة هي التي يؤدي الطلبة أمامها امتحان الشهادة الثانوية، وهذه الشهادة في فرنسا درجة من درجات الجامعة كالليسانس والدكتوراه، هي أول درجات الجامعة. وقد لا يكون النظام الإنجليزي ملائمًا للنظام الفرنسي، ولكن بين النظامين اتفاقًا واضحًا جدًّا من حيث إن الامتحان الذي يبيح للطلاب أن يقيدوا أسماءهم في الجامعات يؤدى أمام الجامعة في البلدين، ومن هنا يظهر أن في حياتنا التعليمية ضعفًا ظاهرًا كل الظهور، مصدره أن الشهادة الثانوية وُجدت في مصر قبل أن توجد الجامعة، فخيل إلى الذين كانوا يشرفون على سياسة التعليم أن هذه الشهادة شيء مستقل له قيمته الذاتية، فلما أنشئت الجامعة أصبحت هذه الشهادة مؤهلة للحاق بها دون أن يراعى ما يجب أن يتحقق من صلةٍ بين ما تمثله هذه الشهادة من التعليم وما يلقى في الجامعة من الدروس.
فأول شيء تجب العناية به — فيما أرى — عندما نفكر في وضع سياسة مستقيمة للتعليم إنما هو تحقيق الصلة المتينة بين الجامعة والمدارس الثانوية، ولما كان التعليم الثانوي قد وجد في مصر وتكونت نظمه وسننه قبل أن توجد الجامعة، وجرت العادة بأن يخضع هذا التعليم للسلطة المركزية في وزارة المعارف مباشرة، فليس من المعقول ولا من الممكن أن يفكر أحد في أن يجعل التعليم الثانوي تابعًا للجامعة، كما أن من المستحيل، ومن المخالفة لطبائع الأشياء، أن يفكر أحد في أن يجعل الجامعة تابعة للسلطة المركزية التي تشرف على التعليم الثانوي من قرب، وإنما يجب أن تمثل الجامعة في إدارة التعليم الثانوي، وأن تمثل وزارة المعارف في إدارة الجامعة، وأن تمثل الجامعة والتعليم الثانوي معًا في إدارة معهد التربية الذي يخرج المعلمين بالفعل للمدارس الثانوية.
فأما وزارة المعارف فقد روعي تمثيلها في الجامعة حين كوِّن مجلسها، وكذلك روعي تمثيل الجامعة والتعليم الثانوي في معهد التربية، ولم يبق إلا أن تمثل الجامعة نفسها — وكليتا الآداب والعلوم بنوعٍ خاص — في إدارة التعليم الثانوي.
والذي أراه أن إسناد إدارات التعليم في اختلافها لرئيسٍ واحد هو المراقب الذي يرجع في سلطته إلى وكيل الوزارة ثم إلى الوزير قد لا يكون من الملائم لحاجة التعليم وترقيته في عصر الانتقال الذي نحن فيه، وإنما السبيل المعقولة أن تسند إدارة التعليم على اختلاف فروعه إلى مجالس فنية تضع له الأنظمة، وتشرف على تنفيذها ويكون المراقب منها مكان الرئيس.
ولنضرب لذلك أمثالًا توضحه وتقيم الدليل على ضرورة التفكير فيه، فقد قدمنا أن الجامعة تشعر شعورًا واضحًا في جميع كلياتها بضعف الطلبة الذين ترسلهم إليها المدارس الثانوية، وهي تستطيع أن تدل على هذا الضعف، ولعلها تستطيع أن تدل على أسبابه، ولعلها تستطيع أن تعين على إزالة هذه الأسباب لو أن لها في إدارة التعليم الثانوي رأيًا مطاعًا.
والجامعة مثلًا تريد أن تختار من الذين تخرجهم المدارس الثانوية أكفأ الطلاب وأقدرهم على الدرس، وسبيلها إلى ذلك إما ترتيب النجاح في امتحان الشهادة الثانوية بحيث تقبل الناجحين حسب تفوقهم في حظوظهم من الدرجات، وإما فرض امتحان جديد على الطلاب.
والطريقة الأولى غير منتجة في حقيقة الأمر، فإن امتحان الشهادة الثانوية إنما يصلح مقياسًا لكفاية الطالب إذا كان هو في نفسه صالحًا، وهو لا يكون صالحًا إلا إذا كان التعليم الثانوي صالحًا من حيث نظمه، والذين يقومون بالتعليم فيه.
وإذا كانت الجامعة والوزارة تشكان معًا في صلاح التعليم الثانوي فهما تشكان بالضرورة في صلاح الامتحان الثانوي مقياسًا للكفاية.
وقد حاولت كلية الآداب في أول الأمر أن تمتحن الطلاب قبل قبولهم، فضاقت وزارة المعارف بهذا ذرعًا، وأعلن وزير المعارف في مجلس الجامعة أن هذا يغض من الشهادة الثانوية، ووعد بأن تشترك الجامعة في امتحان هذه الشهادات، ولكن هذا الاشتراك لم يتحقق إلا بطريقة ضئيلة لا تغني شيئًا، فلو أن للجامعة رأيًا في إدارة التعليم الثانوي لأمكن اتقاء هذا كله.
وفي كليات الجامعة علوم كثيرة منها ما يدرس لأن حاجة الحياة المصرية تدعو إلى درسه، ومنها ما يدرس لأن حاجة الحياة العقلية نفسها توجب العناية به، وقد وُضعت برامج التعليم الثانوي، وما زالت توضع، على اعتبار أن التعليم الثانوي مستقل بنفسه لا يهيئ للجامعة.
وينشأ عن هذا أن يصل الطلاب إلى الكليات، ويرغبون في الاتصال ببعض الأقسام، فإذا هم لم يُهيَّئُوا لها تهيئةً ما، فتضطر الكلية إما إلى إعدادهم إعدادًا أوليًّا قبل قبولهم في الأقسام، وإما إلى قبولهم في هذه الأقسام دون إعداد فيضيع وقتهم ووقت الأساتذة في غير طائل.
ولهذا اضطرت كلية الآداب والحقوق والطب إلى اشتراط سنة إعدادية على الأقل قبل أن تبيح للطلاب بدء الدراسة الجامعية الصحيحة، وهذه السنة الإعدادية بعيدة كل البعد عن أن ترضي حاجات الكليات إلى طلاب مثقفين حقًّا، فليس بد إذَنْ من أن تمثل الجامعة في إدارة التعليم الثانوي لتتقي هذا الشر الكثير الذي يعرِّض التعليم الثانوي والتعليم العالي معًا للخطر.
والشيء الثالث الذي لا بد من الإقدام عليه هو إصلاح التفتيش، وقد وقف الأستاذ نجيب الهلالي باشا في تقريره وقفة موفقة عند إصلاح التفتيش، فبين أن المفتش مثقل بالواجبات إثقالًا يمنعه من أدائها، ويمنع عمله من أن يكون نافعًا مجديًا، ولكنه لم يمضِ بهذا الأمر إلى أقصاه ولم يزد على أن اقترح رفع عدد المفتشين حتى يلائم عدد المدارس، وهو بطبيعة الحال حريص على أن يفرغ المفتش لعمله فيؤديه في أناةٍ ومهل، على أحسن وجه وأكمله وأنفعه، وأظن أنه لا يخالفني في أن زيادة عدد المفتشين وحدها لا تكفي لتحقيق هذه الغاية، وما دام المفتش مقيمًا في القاهرة متنقلًا في الأقاليم للتفتيش فسيكون عمله ناقصًا دائمًا، ولن يقف الشر عند هذا النقص بل سيتجاوزه دائمًا إلى سيئاتٍ أخرى، منها ما يتصل بالتعليم ومنها ما يتصل بالأخلاق، ومنها ما يتصل بالاقتصاد.
إذا أقام المفتش في القاهرة فسيعتقد أن عمله الأساسي في الديوان، وسيرى نفسه موظفًا بيروقراطيًّا ما أقام في القاهرة، وفنيًّا ما طوف في الأقاليم، وسيكون موزعًا بين هاتين الخصلتين من خصال العمل، وأكبر الظن أنه لن يحسن هذه ولا تلك.
ولكن هذا أهون الشر وأيسره، فانظر إلى شرٍّ آخر ليس هينًا ولا يسيرًا، ولكن استكشافه والوقوف عليه يحتاجان إلى شيءٍ من التروية والتفكير؛ لأنه يتصل بدخيلة النفس وسر الضمير، ذلك أن المفتش الذي ينتقل من القاهرة إلى أي مدينةٍ من مدن الأقاليم يشعر بمجرد سفره من القاهرة بأنه قد استحال شخصًا آخر، وبأنه منذ أخذ القطار وهو يريد التفتيش قد أسبغ على نفسه أو أسبغت عليه الوزارة سلطانًا جديدًا يجب أن يجعله مهيبًا رهيبًا، وأن يضاعف شخصيته ويضخمها حتى تملأ عين المعلم ونفسه؛ فهو متكبر برغمه لأنه سافر للتفتيش، وسافر من العاصمة، وسافر وقد تقمص الوزارة كلها! ولا تظن أن المفتش منفرد بهذا التقدير لنفسه والغلو في إكبار شخصيته، بل المعلم يشاركه في هذا أيضًا، فقد فطرنا على إكبار العاصمة وإكبار الديوان وإكبار الذين يفدون من العاصمة ممثلين للديوان ومكلفين التفتيش باسم الديوان.
المفتش كبير في نفسه كبير في نفس المعلم، ولكنه كبر يختلف في طبيعته اختلافًا شديدًا، ويؤدي إلى شر النتائج وأبغضها.
كبر المفتش في نفسه غرور؛ لأنه لا يعتمد إلا على أعراض باطلة، قد كان بالأمس معلمًا أو ناظرًا، وكان يهاب المفتشين، ويشفق منهم، ويمكر بهم، فلما أصبح مفتشًا لم يتغير في نفسه شيء، وإنما تغير منصبه وتغير وضعه، فجاءه كبره في نفسه من خارجٍ لا من داخل، من العاصمة التي يقيم فيها، ومن الديوان الذي يختلف إليه، ومن السلطان الذي يمثله.
وكبر المفتش في نفس المعلم خوف وإشفاق، وشكٌّ وارتياب؛ لأن المفتش يمثل الوزارة وسلطانها، ولأن المفتش يمثل هذا التقرير الذي سيُرفع بعد حين إلى الوزارة، وفيه ملاحظات أخص ما توصف به أنها لم تصدر عن الأناة والتثبت، ولا عن الروية والتبصر، وإنما صدرت عن العجلة والإسراع، وعن طائفةٍ من العواطف تتصل بالحب والبغض، وبالأنس والنفور، أكثر مما تتصل بالتعليم ومصالح التعليم.
وإذَنْ فلن يكون التفتيش تعاونًا بين المدرسة والمفتش، وإنما هو مراقبة من متسلطٍ على من تضطره الظروف إلى أن يخضع لهذا التسلط، وإذَنْ فلن يكون قوام التفتيش تبادل الحب وتبادل الاحترام، والاشتراك في تقدير التعليم والنصح له، وإنما سيكون قوامه تكلف السلطان، وتكلف الطاعة، وتكلف المجاملة بين ذلك، وفي النفوس ما فيها، والضمائر منطوية على ما هي منطوية عليه، ونتيجة هذا كله في التقرير الذي سيظهر بعد حين وفيه ما فيه.
أضف إلى هذا كله أن أسرة المفتش في القاهرة، فحياته في القاهرة لا في محل عمله، ولا في محل قريب من محل عمله؛ وإذَنْ فسيرى نفسه دائمًا على سفر، وسيعمل عمل المسافر لا عمل المقيم، وعمل المسافر قد يكون مضايقًا بغيضًا، ولكنه قد يكون مواتيًا محببًا إلى النفس، وربما جمع بين الأمرين.
فالمفتش المسافر بعيد عن أسرته ولعله كان يؤثر القرب منها في هذا الأسبوع؛ فذلك يضايقه ويغيظه، ولكن المفتش المسافر قد يكون في الصعيد أثناء الشتاء، وفي الإسكندرية حين يشتد القيظ؛ فذلك قد يسره ويرضيه، ولست أجهل أنه قد يكون في الصعيد أثناء القيظ، وفي الإسكندرية أثناء البرد، ولكن ذلك يخرجه على كل حالٍ عن طوره الطبيعي، ويجعله في وضعٍ غير عادي ولا مألوف.
والمفتش بعد هذا كله مسافر على نفقة الدولة، فهو يتقاضى أجرًا على السفر كما يتقاضى أجرًا على العمل، وقد يكون المفتش مترفًا فلا تكفيه نفقات السفر، وإذَنْ هو مضطر إلى أن ينفق من صلب مرتبه ليؤدي عمله، وقد يكون المفتش مقتصدًا، وإذَنْ هو يدخر من نفقات السفر ما يجتمع له آخر العام، فيمكنه من أن يرفه على نفسه وعلى أسرته أو من أن يدخر له ولها ما ينفع حين تكون الإحالة على المعاش.
وكل هذا يخرج المفتش عن طوره الطبيعي، ويحمله على أن يفكر في غير عمله، وعلى أن يستقبل هذا العمل بنفسٍ ليست فارغة له ولا مقصورة عليه.
والغريب أن كل هذه المعاني أوليات ليست محتاجة إلى جهدٍ أو إلى فضلٍ من التفكير لتظهر واضحة جلية! والغريب أيضًا أنها ليست كل شيء، بل هي بعيدة كل البعد عن أن تكون كل شيء، وهناك معانٍ أخرى ليست أقل منها دلالة على أن انتقال المفتشين للتفتيش من العاصمة ومن الديوان العام يخرجهم عن أطوارهم ويجعل إقبالهم على أعمالهم قليل النفع إن لم يكن محقق الضرر، وأكبر الظن أن الوزارة قد شعرت بهذا كله، وقدرته وفكرت فيه، ولكنها لم تطبَّ له إلى الآن، والطب له مع ذلك سهل، فما الذي يمنع أن نقسم مصر بالقياس إلى التعليم العام وإلى التعليم الفني إلى مراكز يستقر فيها المفتشون استقرارًا كما قسمت مصر هذا التقسيم بالقياس إلى التعليم الأولي؟
سيقال إن انتشار التعليم الأولي وكثرة مدارسه، وانتشارها في القرى، وإبعادها حتى تبلغ أحيانًا أقصى الريف شرقًا وغربًا، كل ذلك يجعل إقامة المفتشين على هذا التعليم الأولي في القاهرة سفهًا وحمقًا، وهذا حق، ولكن من الحق أيضًا أن مدارس التعليم العام والتعليم الفني منتشرة في أقطار مصر كلها، هي منتشرة في المدن لا في القرى، وإذَنْ فمن اليسير أن يقيم المفتشون في القاهرة، وأن يتنقلوا في الأقاليم لزيارتها.
ولكن المهم هو أن نعرف أيهما أحب إلى الوزارة وآثر عندها: الترفيه على المفتشين أم العناية بالتعليم والاقتصاد في أموال الدولة؟ فإن تكن الوزارة تؤثر الترفيه على المفتشين وإمتاعهم بالإقامة في العاصمة والاختلاف إلى الديوان العام فلا حديث لنا معها؛ لأنا نتحدث مع وزارة تعمل للشعب لا للأفراد، وللمصلحة لا للأشخاص، وإن كانت الوزارة تؤثر العناية بالتعليم على كل شيء، فهذه العناية تقتضي أن يقيم المفتشون بالقرب من المدارس التي يُكلَّفون تفتشيها، ذلك أحرى أولًا أن يوفر على الدولة مالًا كثيرًا لا لتنفقه في المرافق الأخرى بل لتنفقه على التعليم نفسه، وذلك أحرى ثانيًا أن يطهر نفوس المفتشين من الكبرياء، ويبرئ نفوس المعلمين من الإشفاق، ويقرب الآماد والمسافات المادية والمعنوية بين أولئك وهؤلاء، ويحقق بينهم تعاونًا لا يقوم على التسلط والإشفاق، وإنما يقوم على المعاشرة والمخالطة وما ينشأ عنهما من المودة والمجاملة اللتين قد تنتهيان إلى الحب والإخاء، وذلك أحرى آخر الأمر أن يفرغ المفتش للمدرسة أو المدارس التي يفتشها، فيصبح عاملًا فيها لا متسلطًا عليها، وشريكًا لنظارها ومعلميها في العمل والتبعات لا مسيطرًا عليهم، تسبقه النذر إليهم بالزيارة بين حينٍ وحين.
وقد كانت وزارة المالية — إن صدقتني الذاكرة — تسير سيرة وزارة المعارف فتجمع المفتشين في الديوان، ثم بدا لها فأقرت المفتشين في الأقاليم، ولست متتبعًا لأمور وزارة المالية بنفس الدقة التي أتتبع بها أمور وزارة التعليم، ولكني أرجو أن تكون وزارة المالية قد ثبتت على هذا النظام، وأرجو على كل حال أن تتخذه وزارة المعارف أصلًا من أصول سياسية التعليم فيها، ففي ذلك منافع لم أُحصِ منها إلا أقلها وأيسرها.