الامتحانات وتيسير الامتحانات العامة
وهناك مشكلة عسيرة إلى أبعد حدود العسر، سخيفة إلى أقصى غايات السخف، يتأثر بها تعليمنا كله على اختلاف أنواعه وألوانه أشد التأثُّر، فيفسد بها أعظم الفساد، وهي لا تفسد التعليم وحده ولكنها تفسد معه الأخلاق، وتكاد تجعل بعض المصريين لبعض عدوًّا، وهي لا تفسد التعليم والأخلاق فحسب ولكنها تفسد السياسة أيضًا وتكاد تجعل التعليم خطرًا على النظام الاجتماعي نفسه، وأظنك قد عرفت هذه المشكلة، ولم تحتج إلى أن أسميها لك، فهي مشكلة الامتحان.
وكل ما أرجوه منك ألا تظن بي الغلو والإسراف، وأن تفكر معي مستأنيًا متمهلًا، وأنا واثق بأنك ستشعر بما أشعر به، وستؤمن معي بأن مشكلة الامتحان في مصر قد أصبحت خطرًا على التعليم وعلى الأخلاق وعلى السياسة، وعلى أشياء أخرى قد تستبين أثناء هذا الحديث.
الأصل في الامتحان أنه وسيلة لا غاية، وأنه مقياس تعتمد عليه الدولة لتجيز للشباب أن ينتقل من طورٍ إلى طور من أطوار التعليم، وهو مستعد لهذا الانتقال استعدادًا صحيحًا أو مقاربًا، هذا هو الأصل، ولكن أخلاقنا التعليمية جرت على ما يناقض هذا أشد المناقضة، ففهمنا الامتحان على أنه غاية لا وسيلة، وأجرينا أمور التعليم كلها على هذا الفهم الخاطئ السخيف، وأذعنا ذلك في نفوس الصبية والشباب، وفي نفوس الأسر، حتى أصبح ذلك جزءًا من عقليتنا، وأصلًا من أصول تصورنا للأشياء وحكمنا عليها، فالأسرة حين ترسل ابنها إلى المدرسة تفكر في تعليمه من غير شك، ولكنها لا تفهم هذا التعليم إلا مقرونًا بالامتحان الذي يدل على انتفاع الصبي به ونجاحه فيه، وهي من أجل ذلك تعيش معلَّقة بآخر العام، وبهذه الورقة التي ستأتيها من المدرسة أو من الوزارة لتنبئها بأن الصبي أو الفتى قد جاز الامتحان فنجح أو أخفق فيه.
ولا يكاد الصبي يبلغ المدرسة ويستقر فيها أيامًا حتى يشعر بأن أمامه غاية يجب أن يبلغها، وهي أن يؤدي الامتحان وينجح فيه.
يشعر بهذا في المدرسة من معلمه ومن أترابه، ويشعر بهذا في البيت من أبويه اللذين قد يجهلان من أمور التعليم كل شيء إلا أنه ينتهي إلى الامتحان.
وإذَنْ فالصبي منذ يدخل المدرسة موجه إلى الامتحان أكثر مما هو موجه إلى العلم، مهيأ للامتحان أكثر مما هو مهيأ للحياة، وإذَنْ فليس المهم عند الصبي أن ينتفع بالدرس، وأن يجد فيه اللذة والمتعة، وأن يستزيد منهما، وإنما المهم أن يستعد للامتحان وللنجاح فيه ليتفوق على أترابه أو ليحتفظ بمكانته بينهم، وليرضي أبويه ويسرهما ويحقق ما يعقدان به من أمل، وينوطان من رجاء، وليظفر بما يمنِّيانه من مكافأة وجزاء.
والصبي ليس مبالغًا في شيءٍ من هذا، وإنما هو صورة لرأي الأسرة ورأي المعلمين ورأي الأتراب ورأي وزارة المعارف بنوع خاص، وإذَنْ فقد استحالت المدرسة إلى مصنع بغيض يهيئ التلاميذ للامتحان ليس غير، وقد يجوز أن يجني التلاميذ من هذا المصنع شيئًا آخر غير الاستعداد للامتحان، ولكني أؤكد لك أن هذا ليس من عمل المدرسة، وإنما هو نتيجة لطبيعة الأشياء، فطبيعة العقل الإنساني والملكات الإنسانية كلها أنها تتأثر بما تزاول من الأشياء، وطبيعة العلم مهما يكن ممسوخًا جافًّا مشوهًا أنه يفيد الملكات الإنسانية إذا اتصل بها.
فالتلاميذ يتعلمون في المدرسة أحيانًا ولكنهم يتعلمون برغمهم وبرغم المدرسة وبرغم المعلمين.
وعلى هذا النحو تمضي حياة التلميذ منذ يدخل المدرسة الابتدائية إلى أن يخرج من المدرسة الثانوية، فأما التعليم العالي فله قصة أخرى.
وأظنك توافقني على أن هذا كله شيء وأن التعليم شيء آخر، وأظنك توافقني أيضًا على أن تصور الامتحان على هذا النحو قلب للأوضاع، وجعل التعليم وسيلة بعد أن كان غاية، وجعل الامتحان غاية بعد أن كان وسلة، وحسبك بهذا فسادًا للتعليم، ولكن هذا لا يفسد التعليم وحده كما قلت، بل هو يفسد العقل والخلق أيضًا، وما رأيك في الصبي الذي ينشأ على اعتبار الوسائل غايات والغايات وسائل، فيفهم الأشياء فهمًا مقلوبًا، ويحكم عليها حكمًا معكوسًا؟! أتظنه يستطيع أن يفهم أموره الدراسية هذا الفهم المقلوب ويحكم عليها هذا الحكم المعكوس، ثم يفهم أمور الحياة فهمًا صحيحًا ويحكم عليها حكمًا مستقيمًا؟! كلا؛ لأن الله لم يجعل لرجلٍ قلبين في جوفه، ولا عقلين في رأسه، وإنما جعل له قلبًا واحدًا وعقلًا واحدًا، فإذا أفسدت المدرسة هذا العقل وذلك القلب فقد أفسدت التلميذ كله، وقضت عليه بأن يفكر تفكيرًا معوجًّا وأن يشعر شعورًا مختلطًا وأن يسير في الحياة سيرة ملائمة لهذا الاختلاط وذلك الاعوجاج.
ومن هنا لا ينبغي أن ننكر ما نراه من عناية شبابنا بالتافه من الأمر، وإكبارهم للسخيف، وإعراضهم عن عظائم الأمور، بل عجزهم عن الشعور بعظائم الأمور والأشياء ذات الخطر، لا ينبغي أن ننكر ذلك؛ لأن هؤلاء الشباب ينشئُون على العناية بالامتحان وهو تافه، وعلى إكبار الشهادة وهي سخيفة، وعلى الإعراض عن العلم وهو لب الحياة وخلاصتها.
ثم لا يقف الأمر عند هذا الحد، فما دام الامتحان غاية فالنجاح فيه هو غاية الغايات، إذَنْ فموسم الامتحانات هو من أهم المواسم الوطنية أثرًا في حياتنا وتغلغلًا في أعماق هذه الحياة، وهو من هذه الناحية يمس السياسة من قريب جدًّا فأين الحكومة التي لا تحفل بإرضاء الجمهور ولا تسلك إلى هذه الغاية كل سبيل؟ وأين الحكومة التي لا تتجنب إسخاط الجمهور ولا تبتغي إلى ذلك ما وسعها من الوسائل؟ فإذا ظهرت نتيجة الامتحان رديئة غير مرضية لكثرة التلاميذ وكثرة الأسر بالطبع، شاع السخط وعمت الشكوى واشتد الضغط على الحكومة، واضطرت الحكومة إلى أن تفكر في الأمر وتلتمس له علاجًا، وعلاجًا ديماجوجيًّا يتملق شهوة الأسر في نجاح أبنائها بالحق وبغير الحق. وأنواع العلاج كثيرة، منها المقبول المحتمل، ومنها الذي يُقبل على كُره وبشيء من المضض، ومنها الذي لا يطاق.
أنواع العلاج كثيرة، فقد يجوز أن يعاد الامتحان في أول العام الدراسي المقبل للذين رسبوا في آخر هذا العام حتى لا نضيع عليهم سنة من حياتهم.
وقد يجوز أن يعاد الامتحان للراسبين في بعض المواد دون بعضها الآخر: في المواد التي رسبوا فيها مثلًا أو في المواد التي يختارونها إن كانوا قد رسبوا في المجموع، ولم يرسبوا في مادةٍ بعينها، وهناك طريقة أخرى أيسر وأهون وأحب إلى التلاميذ والأسر، وهي تخفيض الدرجات التي ينجح بها الطلاب في الامتحان، وهناك طريقة أخرى أيسر وأهون من هذه وأحب إلى التلاميذ والأسر أيضًا، وهي تخفيض درجات النجاح بعد أن يتم الامتحان بحيث ينجح الراسبون بأمرٍ من الحكومة لا بقرارٍ من لجنة الامتحان، وكل هذه الطرق قد جربناه وبلونا حلوه ومره، وعرفنا نتائجه في قيمة التعليم والتربية، وفي الأخلاق، وفيما يكون بين المعلمين والمتعلمين من صلة ثم في السياسة والنظام آخر الأمر.
والغريب — بل لا غرابة في ذلك — أننا أخذنا نجرب هذه الطرق الخطرة على التعليم والأخلاق والسياسة منذ منَّ الله علينا بالنظام الديمقراطي وبالحياة النيابية التي نحبها ونفتديها بالمُهج والنفوس! وتعليل ذلك يسير؛ فالسياسة في الحياة الديمقراطية محتاجة إلى الجمهور، وهي مضطرة إلى أن ترضيه، فإذا كانت حاجتها إلى الشباب، وإلى الشباب الذي يختلف إلى المدارس بنوعٍ خاص، كان الأمر أظهر من أن يحتاج إلى بيان، ولكن ذلك لا يمنعه أن يكون شنيعًا منكرًا، مفسدًا للتعليم، مفسدًا للأخلاق، مفسدًا للسياسة، مسيئًا للسمعة الوطنية في الخارج أيضًا.
وكل هذا يأتي من أننا أكبرنا الامتحان أكثر مما ينبغي، وجعلناه غاية وحقه أن يكون وسيلة، وسيلة هينة ضئيلة الشأن، وليس هذا كل ما في الامتحان من شر، فللامتحان آثار سيئة تصل إلى الأخلاق من طريقٍ قريبة يسيرة جدًّا، أظهرها الغش الذي يأتي من حرص التلميذ على أن ينجح بأي حالٍ من الأحوال.
وليس الغش هو الذي يُقترف ويُضبط أثناء الامتحان فحسب، بل هناك غش آخر لعله أشد من هذا خطرًا، غش خفي نحسه ولا نكاد ندل عليه، ولعل أخلاقنا الدراسية أن تبيحه أحيانًا، غش يشترك فيه المعلمون والمتعلمون حين يهيئ المعلمون تلاميذهم تهيئة خاصة لأداء الامتحان، وحين يقفون بهم فيطيلون الوقوف عند هذا الجزء أو ذاك من أجزاء البرنامج، وحين يعيدون معهم المقرر فيلحون عليهم في استذكار هذه المسألة أو تلك، وحين يخضعونهم لامتحان التجربة أو الامتحان الأبيض كما يقول الفرنسيون قبل الامتحان النهائي، وحين ينشرون لهم الكتب التي تشتمل على نماذج للأسئلة التي يمكن أن تعرض في الامتحان.
كل هذا غش يختلف قوة وضعفًا، ولكنه مفسد للتعليم، ومفسد للأخلاق أيضًا.
وأنا أعلم أن الامتحان شر لا بد منه، ولكن الغريب أننا لا نتخفف من هذا الشر ولا نكتفي منه بأقل قدرٍ ممكن، وإنما نتزيد منه ونثقل به المعلمين والمتعلمين، فنضطرهم إلى الشر ما وسعنا ذلك.
وهناك شرٌّ آخر ليس أقل من هذا كله خطرًا؛ لأنه يفسد رأي المعلم في نفسه وفي تلاميذه وفي الوزارة وفي التعليم قبل كل شيء، وهذا الشر يأتي من تصور وزارة المعارف للامتحان، ومن هذه العناية الهائلة التي تهبها له وتقفها عليه، فالامتحان في وزارة المعارف عمل خطير يوشك أن يكون مقدسًا، قوامه الحذر الذي لا يوصف، والحرج الذي لا حد له، والشك في كل شيء وفي كل إنسان، فكيف تريد من المعلم أن يثق بنفسه إذا شكت فيه الوزارة إلى الحد الذي يعرفه كل من مارس شئون الامتحان في مصر؟
وقد تسألني عن هذه المشكلة بعد أن صورتها هذا التصوير البشع المخيف: كيف السبيل إلى حلها؟ فأجيبك بأن الامتحان شر لا بد منه، فلنتخفف من هذا الشر ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا، ونجعله وسيلة لا غاية، ولنصطنع بعض الجراءة، ولنرد إلى المعلمين ما هم أهل له من الثقة، ولنقدر آراءهم في تلاميذهم كما نقدر الامتحان أو أكثر مما نقدر الامتحان، ومعنى ذلك أن نلغي امتحان النقل في مدارس التعليم العام إلا أن تقضي به الضرورة، والمدرسة وحدها هي التي تقرر هذه الضرورة.
وأنا أعلم أن هذا الاقتراح قد يقع من وزارة المعارف موقعًا غريبًا، وقد ينكره بعض الفنيين فيها أشد الإنكار، ولكني مع ذلك لا أبتكره ولا أخترعه من عند نفسي، وإنما هو نظام شائع في كثيرٍ من البلاد التي سبقتنا إلى التعليم الحديث، وهو النظام المقرر في فرنسا، وفي المدارس الفرنسية القائمة بمصر، ومن المحقق أننا نكون سعداء حقًّا يوم ينتج تعليمنا العام ما ينتجه التعليم العام في أوروبا وفي فرنسا خاصة.
إذا ائتمنت المعلم على التلميذ فامنحه ما يلائم هذه الأمانة من الثقة، واطلب إليه أن يختبر تلاميذه في المادة التي يُدرِّسها لهم بين حينٍ وحينٍ مرة على الأقل كل ثلاثة أشهر، وأن يمنحهم درجات على الاختبار، فإذا كان آخر العام فلتراجع هذه الدرجات ليرى أيستحق التلميذ بحكمها أن ينتقل إلى الفرقة الأخرى أم لا يستحق، فإن كانت الأولى أقبل التلميذ فرحًا مبتهجًا على إجازته الصيفية، ثم على عامه الدراسي الجديد، وإن كانت الثانية امتحن التلميذ امتحان النقل في المواد التي لا بد من أن يمتحن فيها، فإن نجح فذاك، وإن رسب أعاد عامه الدراسي.
وأظن أن هذا الاقتراح إن أخذت به الوزارة يريحها ويريح المدارس ويريح المعلمين والتلاميذ والأسر من عبءٍ ثقيل بغيض، ويتيح للوزارة وللمدارس أن تفرغ للتعليم الذي هو أهم من الامتحان، ويتيح للتلاميذ أن يفرغوا للتحصيل الذي هو أهم من أداء الامتحان، وحَسْبُ الوزارة أن تُعنَى وحدها، أو مشتركة مع الجامعة، بالامتحانات العامة التي يظفر الناجحون فيها بالإجازات. وهذه الامتحانات نفسها كما هي الآن عسيرة معقدة، تحتاج وتحتمل كثيرًا من التيسير والتسهيل إن نظرت الوزارة إلى الامتحان على أنه وسيلة، وسيلة يسيرة لا غاية، وإن أخذت الحكومة بالقاعدة التي أخذت بها البلاد الأوروبية من قبل، التي جعلنا نفكر فيها منذ أعوام، وهي أن الإجازات الدراسية لا تمنح أصحابها حقوقًا مالية ولا تؤهلهم للمناصب، وإنما تُكتسب المناصب بالمسابقات.