القراءة الحرة وإعراض التلاميذ والمعلمين عنها
إلغاء امتحان النقل وتيسير امتحان الإجازات العامة ومنح المعلم ما هو أهل له من الثقة ومنح التلميذ ما هو في حاجةٍ إليه من الراحة والفراغ، كل ذلك سيعين على حل مشكلة أخرى نشكو منها ونضيق بها ولا نعرف كيف نجد لها حلًّا، وهي مشكلة الإعراض عن القراءة الحرة السمحة التي لا تتقيد بمنهاج الدرس وبرنامجه ولا تقتصر على الكتب المقررة والمذكرات التي يمليها المعلمون.
هذه القراءة الحرة هي نصف التعليم العام ولعلها أن تكون أقصر من نصفه، ولعلها أن تفيد المتعلمين أكثر مما تفيدهم الدروس والكتب التي يُكرَهون على قراءتها إكراهًا؛ ذلك لأن الإنسان ينتفع بما يُقبِل عليه عن رغبةٍ وميلٍ أكثر جدًّا مما ينتفع بما يقبل عليه عن إكراهٍ وقسر؛ لأن الإنسان قد خُلق كذلك يؤثر الحركة الحرة على الحركة التي تُفرض عليه فرضًا، يخيل إليه حين يعمل حرًّا مختارًا أنه حر مختار حقًّا وأنه يأتي من الأمر ما كان يستطيع أن يدع لولا أن إرادته قد تعلقت به ودعت إليه. ولو أنك امتحنت التلاميذ الذين يتعلمون في المدارس الأجنبية في مصر والتلاميذ الذين يتعلمون في المدارس الأوروبية بوجهٍ عام، وأتيح لك أن ترد ما في نفوسهم من العلم وما في عقولهم من المعرفة وما في قلوبهم من الشعور والحس إلى أصوله ومصادره؛ لتبينت من غير مشقةٍ ولا جهدٍ أنهم مدينون بهذا كله على الأقل للكتب التي يقرءونها والنظرات الحادة التي يلقونها على ما حولهم من الحوادث والأشياء، وللأحاديث المختلفة التي يسمعونها ويشاركون فيها أكثر مما هم مدينون به لما يلقي عليهم المعلمون من الدروس وما يملون عليهم من المذكرات.
والواقع أن دروس المعلمين في المدرسة التي تستحق هذا الاسم يجب أن تكون إرشادًا لا تلقينًا، ودفعًا إلى استكشاف الحقائق واستنباطها لا فرضًا لهذه الحقائق على عقول الصبية والشباب، ولن يستطيع المعلم أن يرشد التلميذ، وينمي فيه ملكة البحث والحاجة إلى الاستطلاع ويقوم ما يعرض له من الخطأ في هذا كله إذا كان مضطرًّا إلى أن يعد التلميذ للنجاح في الامتحان؛ فأنت لا تستطيع أن تكلفه أمرين متناقضين، هما أن يعد لك أداة تؤدي الامتحان وتنجح فيه، وأن يعد لك في الوقت نفسه إنسانًا حرًّا مفكرًا يبحث ويستكشف ويدرس ويستنبط ويكوِّن لنفسه رأيًا فيما حوله من الأشياء.
ولو أن المعلم كان من القوة والبراعة والامتياز بحيث يستطيع أن يحدث المعجزات ويخلق المتناقضات وينشئ لك هذا الكائن الغريب الذي هو آلة قابلة من أحد وجهيه وقوة فاعلة من وجهه الآخر، لما استطاع التلميذ أن يستجيب له ولا أن يقبل منه ولا أن يتهيأ في وقتٍ واحد للامتحان الذي يفني القوة وللاستكشاف الذي يوجدها وينميها، فلا بد إذَنْ من أن تختار بين أن تكون المدرسة مصنعًا تشتغل فيه آلات لتصنع آلات مثلها وبين أن تكون المدرسة دارًا تُفتح فيها عقول التلاميذ وقلوبهم لإدراك الحياة وفهمها ولإدراك الطبيعة وفهمها، فإن اخترت الأولى فدع المدارس كما هي الآن ولا تكلف نفسك تجديدًا ولا إصلاحًا؛ فإنها تحقق هذا الغرض على أحسن وجهٍ ممكن، وإن اخترت الثانية فلا أقل من أن تمكِّن المدارس من تحقيقها ومن أن تزيل العقبات التي تعترض دون هذه الغاية الكريمة.
ولست أدري أيشعر الناس وتشعر الوزارة نفسها بما أشعر به وأجد في الشعور به ألمًا ممضًّا، وهو أن التلاميذ لا يعرضون وحدهم عن القراءة وإنما يشاركهم المعلمون في هذا الإعراض، ولعلي لا أخطئ إذا قدرت أن إعراض التلاميذ عن القراءة ربما كان نتيجة لإعراض المعلمين عنها؛ فالمعلمون في مصر لا يقرءون، هذه حقيقة ثابتة من إضاعة الوقت أن نتكلف إقامة الدليل عليها، هم لا يقرءون لأنهم لا يجدون الوقت للقراءة؛ فالمدرسة تستنفد ما يملكون من الوقت الخصب في جهودٍ لا تخلو من سخف، وهم لا يقرءون لأنهم لا يجدون الوقت للقراءة، فالوزارة قد اضطرتهم إلى وضع مادي ومعنوي يضيقون فيه بكل شيء ويضيقون فيه بأنفسهم قبل كل شيء، حياتهم المادية ضيقة محدودة قوامها العسر، وربما كان قوامها البؤس في كثيرٍ من الأحيان، فهم إذا فرغوا من جهدهم الدراسي فكروا في تدبير حياتهم هذه الضيقة العسيرة وفي التماس المخرج مما فُرض عليهم من الضيق والعسر.
وما رأيك في معلمٍ لا تريحه الدولة حتى من هذه النفقات التي يحتاج إليها ليعلم أبناءه، مع أنه ينفق جهده وحياته في تعليم أبناء الأمة، ولا تستحي الدولة آخر الأمر مع ضآلة مرتبه من أن تطلب إليه أجور ما يحتاج إليه أبناؤه من التعليم. ولقد رأيت معلمين يشقون أشد الشقاء وأمضَّه لأنهم لا يجدون ما ينفقون على تعليم أبنائهم، فهم مخيرون بين أن يعلموهم ويحرموهم من أجل ذلك ما هم في حاجةٍ إليه من ضرورات الحياة وبين أن يحرموهم التعليم ليمنحوهم اللباس والغذاء، فكيف تريد من رجلٍ يقسم وقته بين جهود الدرس ومحاربة البؤس أن يفرغ للقراءة والتزيُّد من الثقافة؟
وحياتهم المعنوية مظلمة قاتمة قوامها الذل والرق والشعور بأنهم قد حرموا أشد الأشياء اتصالًا بمهنتهم وهو الثقة بهم والكرامة في نفوسهم وفي نفوس الذين يشرفون عليهم من الرؤساء؟ كل هذا يصد المعلم عن العلم ويزهده في القراءة ويرغبه عن الثقافة ويضطره إلى هذه الحياة الجامدة التي يحياها.
وكثيرًا ما كنت أضيق باختلاف المعلمين إلى القهوات والأندية وإضاعتهم الوقت في هذه الأحاديث الفارغة عن الدرجات والمرتبات وعن المفتشين وكبار الموظفين، ولكني مضطر بعد أن داخلتهم وبلوت أمورهم من قربٍ إلى أن أرحمهم وأعتذر عنهم وألوم الدولة التي تضطرهم إلى هذا الجمود.
ومهما يكن الملوم في ذلك فالمحقق هو أن المعلمين في مصر لا يقرءون، وهم من أجل ذلك لا يقفون عند ما حصَّلوا في المدارس حين كانوا طلابًا فحسب، بل ينسون أكثره ويقفون عند المناهج والبرامج التي يكلفون تعليمها في المدارس، يرددونها إذا أصبحوا ويرددونها إذا أمسوا حتى يصبحوا مناهج وبرامج تأكل الطعام وتمشي في الأسواق وتختلف إلى المدارس وجه النهار وإلى الأندية والقهوات آخره وأول الليل، فكيف تريد من هذا المعلم الذي لا يقرأ أن يدفع التلميذ إلى القراءة ويرغبه فيها ويزينها في قلبه ويحاسبه عليها آخر الشهر أو آخر العام؟ ستقول: فهبنا رفَّهنا على المعلم والتلميذ وحططنا عنهما عبء الامتحان الثانوي وهيَّأنا لهما الفرص للقراءة فماذا يقرءون؟ فأجيبك بأن هذه قصة أخرى كما يقول كيبلنج ولكني سأعرض لها في موضعٍ آخر من هذا الحديث.
فأما الآن فحسبي أن توافقني على أن من أوجب الواجبات أن نبرئ المدرسة من الركود الذي اضطررناها إليه اضطرارًا وأن نردها إلى الحياة، ولا سبيل إلى ذلك إلا إذا هيَّأنا المعلم والتلميذ لتجديد أنفسهما بهذه القراءة الحرة التي لا يحتملها البرنامج ولا يفرضها القانون.