الكتب التعليمية المقررة
وما دمنا قد وصلنا إلى الحديث عن القراءة الحرة التي لا تتصل بالمناهج والبرامج، فمن الخير أن ننتهز هذه الفرصة لنقف وقفة قصيرة عند مشكلة أخرى من مشكلات التعليم العام قد كَثُر فيها كلام الناس واشتدت بها عناية الوزارة واتصلت منها شكوى المعلمين، ولكنها مع ذلك لا تزال قائمة كما هي، معقدة كما هي؛ لأن الوزارة لم تأخذها بالحزم ولم تعالجها بما ينبغي لها من الشجاعة: وهي مشكلة الكتب التعليمية المقررة.
ولعلك تشعر بمثل ما أشعر به من أن هذه المشكلة دقيقة حقًّا؛ لأنها أقرب المشكلات إلى الأشخاص وأمسها بكثيرٍ من الذين يتسلطون على شئون التعليم وأمسها في الوقت نفسه بالدراهم والدنانير، وكل شيء يمس الدراهم والدنانير في حياة كحياتنا المصرية، فهو خطير دقيق والحديث فيه شائك لا يؤمن معه الزلل والإساءة إلى هذا أو ذاك.
ولكني مع ذلك سأقف عند هذه المشكلة وقفة قصيرة وسأقترح لها علاجًا أقل ما يوصف به أنه جريء يخالف المألوف ولكنه قريب من الحق والعدل، من الذي فرض على وزارة المعارف أن توزع الكتب والأدوات على التلاميذ؟ هذا هو السؤال الذي إذا أمكن أن نجيب عليه أمكن أن نحل هذه المشكلة حلًّا حسنًا، وإذَنْ فلنُعِده مرة أخرى.
من الذي فرض على وزارة المعارف أن توزع الكتب والأدوات المدرسية على التلاميذ؟ لم يفرض ذلك عليها أحد وإنما تبرعت به من عند نفسها، وأكبر الظن بل المحقق أنها رأت في القيام بذلك تيسيرًا على التلاميذ وأسرهم وضمانًا لحصول التلاميذ على ما يحتاجون إليه من الكتب والأدوات، ولكنها جعلت من نفسها بذلك تاجرًا لست أدري أيحسن التجارة أم لا يحسنها، ولكني أعلم أن التجارة ليست من شئون وزارة التعليم، وأن وضع وزارة المعارف نفسها موضع التاجر أو موضع الوسيط بين التاجر والمستهلك قد اضطرها إلى كثيرٍ من العنف والظلم وإفساد التعليم وتثبيط همم المعلمين والمؤلفين، ذلك إلى أنه قد عقَّد أمورها تعقيدًا شديدًا وحمَّلها أثقالًا تستطيع أن تخفف منها مشكورة موفورة، وهي إن فعلت ردت إلى التجارة حريتها واحتفظت هي بكرامتها ولاءمت بين حياتها وبين النظام الديمقراطي الذي يقال إنه يسيطر أو يريد أن يسيطر على حياة مصر. أخذ الوزارة نفسها بتوزيع الكتب والأدوات على التلاميذ يضطرها إلى عمليات تجارية ليست في حاجة إليها؛ فهي تستطيع أن تفرض على التلاميذ أن يحصلوا على ما لا بد من أن يحصلوا عليه من الكتب والأدوات، وأن تشتد عليهم في ذلك إلى أقصى غاية الشدة، وأن تقف عند هذا الحد لا تتجاوزه.
ولست أريد أن أدخل في تفصيل هذا العناء الثقيل الذي تتكلفه الوزارة في شراء الدفاتر والأقلام وما يشبهها من الأدوات وما يضطرها إليه ذلك كله من المزايدات والمناقصات وإجراء الصفقات الرابحة حينًا والخاسرة أحيانًا، فقد لا يكون ذلك متصلًا أشد الاتصال بالناحية الثقافية التي أخصص لها هذا الحديث، وإنما أقف عند الكتب وعند الكتب التعليمية وحدها، فلماذا تتكلف الوزارة شراء الكتب نسخًا من أصحابها أو شراء حق الطبع من المؤلفين ثم طبع الكتب التي اشترت حق طبعها وتوزيعها على التلاميذ؟ وما الذي يمنعها أن تريح نفسها من هذا التوسط بين المنتجين والمستهلكين بعد أن تعين الكتب التي لا بد من أن يحصل عليها التلاميذ في كل عام.
بل لست أقف عند هذا الحد، وإنما أسأل: لماذا تقرر الوزارة في هذه المادة أو تلك كتابًا بعينه تشتريه نسخًا أو تشتري حق طبعه فتضع نفسها موضع الريبة وإيثار هذا المؤلف أو ذاك بالعطف والبر؟ وما بالها بعد أن تضع مناهج التعليم وبرامجه واضحة جلية بريئة من اللبس والغموض، ما بالها لا تترك الناس أحرارًا يؤلفون الكتب التي تطابق هذه المناهج والبرامج وتكتفي هي بتأليف لجان تدرس هذه الكتب بعد تأليفها وطبعها وتعلن أن هذا صالح للدرس وهذا غير صالح، ثم تقف مهمتها عند هذا الحد؟
ألست ترى معي أنها إن فعلت أراحت نفسها من همٍّ ثقيل مادي ومعنوي وخلقي أيضًا؟ ألست ترى معي أنها إن فعلت ردت إلى العلم والتأليف حرية هما في أشد الحاجة إليها وفتحت للمعلمين والمؤلفين من أبواب النشاط الخصب ما قد أُغلق في وجوههم إلى الآن؟ لماذا تُعرِّض الوزارة نفسها لأن تُتَّهم بين حينٍ وحينٍ بأنها تحابي هذا الموظف أو ذاك وتؤثر هذا المفتش أو ذاك؛ لأنها اشترت كتابه نسخًا أو اشترت حق الطبع فأغنته وأغدقت عليه من مال الدولة؟ ولعلها لم تحابِهِ ولم تؤثره ولعلها لم تُغنِهِ ولم تغدق عليه ولعلها أن تكون قد ظلمته وشقَّت عليه.
حَسْبُ الوزارة أنها ستضطر دائمًا إلى تموين مكتبات المدارس ليقرأ المعلمون والتلاميذ ولتيسر لهم القراءة الحرة، فأما هذه الكتب التي تحتمها المناهج والبرامج وتفرضها نظم التعليم، فقد تستطيع الوزارة في غير حرجٍ بل في أيسر اليسر لها وللناس أن تنفض يدها من بيعها وشرائها وتوزيعها على التلاميذ.
وإذا أراحت الوزارة نفسها من هذا العناء فهي واصلة إلى نتيجة نفسية حسنة جدًّا إن صح هذا التعبير؛ ذلك أنها ستخفض النفقات الدراسية بمقدار ما ستخفف عن نفسها من العبء المالي الذي تقتضيه هذه التجارة السخيفة، وسيحمد الناس لها تخفيض هذه النفقات وإن كان قيامها بتوزيع الكتب ييسر على الناس تيسيرًا شديدًا، ولكن الناس فُطروا على هذا الخلق، تخدعهم الظواهر، ويكرهون أن يؤدوا أموالهم إلى الدولة مهما تكن الدولة رفيقة بهم، منصفة لهم.
ومما لا شك فيه أن كثيرًا من الآباء سيرضون بل سيبتهجون حين يرون القسط الدراسي قد خُفِّض شيئًا، ولعلهم لا يخطئون، فمن يدري! لعلهم يستطيعون أن يشتروا لأبنائهم هذه الكتب بثمنٍ يسير، ولعل تلاميذ السنة الثانية أن يشتروا من تلاميذ السنة الثالثة كتبهم التي لم يصبحوا محتاجين إليها بعد أن انتقلوا إلى فرقةٍ أخرى، ولعل ذلك لا يكلفهم مالًا كثيرًا.
والغريب أن هذا النحو قد جُرِّب، فلم تطلع الشمس من المغرب، ولم تقع السماء على الأرض، ولم تفسد أمور التعليم، ولعلها ازدادت صلاحًا؛ فقد كانت الوزارة توزِّع الكتب على الطلاب في المدارس العالية، فلما أنشئت الجامعة ألغت توزيع الكتب على الطلاب فلم يُحدِث ذلك اضطرابًا ولا فسادًا، وعنيت الجامعة بمكتبتها فنجحت في تكوينها وتنميتها نجاحًا عظيمًا وأغنت كثيرًا من الطلاب عن شراء كثيرٍ من الكتب.
ستقول: ولكن طلاب الجامعة غير تلاميذ المدارس. فما رأيك في أن المدارس الأوروبية تعامل تلاميذها على هذا النحو، لا توزع عليهم الكتب والأدوات، وإنما تبين لهم ما يحتاجون إليه منها وتشتد عليهم في شرائه فيشترونه جديدًا أو قديمًا، غاليًا أو رخيصًا، ولا يفسد لذلك أمر من أمور التعليم؟!
نعم، خير نصيحة تُقدَّم إلى وزارة المعارف هي أن تدع التجارة للتجار، والتأليف للمؤلفين، وأن تكتفي بامتحان الكتب والدلالة على الصالح منها، وترك المعلمين والتلاميذ أحرارًا فيما يقرءون ويدرسون ما داموا لا يتجاوزون المناهج والبرامج، وحسبك ما لا بد لها من تموين المكتبات وإنشاء المعامل وإطعام التلاميذ، فلا بد مما ليس منه بد، والخطأ كل الخطأ أن تثقلنا الأعباء فلا نتخفف منها بل نضيف إليها.