العقل المصري والعقل اليوناني وتأثر كلٍّ منهما بالآخر
ولسنا في حاجةٍ إلى أن نقيم الأدلة على شيءٍ من هذا، فهذا كله أيسر من أن يحتاج إلى أن يُقام عليه الدليل، والتلاميذ عندنا يتعلمونه في مدارسهم والكتب التعليمية اليسيرة تذيعه لمن شاء أن يظهر عليه.
وهناك شيء آخر ليس أقل من هذا يسرًا ولا وضوحًا، وهو أن تبادل المنافع بين العقل المصري والعقل اليوناني في العصور القديمة قد كان شيئًا يشرف به اليونان، ويتمدحون به فيما يقولون من شعر، وفيما يكتبون من نثر، فمصر مذكورة أحسن الذكر في شعر القصاص اليونانيين، وهي مذكورة أحسن الذكر في شعر الممثلين اليونانيين، ثم هي مذكورة أحسن الذكر عند هيرودوت وممَّن جاء بعده من الكُتَّاب والفلاسفة.
وكان اليونان في عصورهم الراقية، كما كانوا في عصورهم الأولى، يرون أنهم تلاميذ المصريين في الحضارة وفي فنونها الرفيعة بنوعٍ خاص.
ثم جاء التاريخ فلم يكذب شيئًا من هذا ولم يضعفه، بل أيَّده وقوَّاه؛ فالتأثير المصري في فنون العمارة والنحت والتصوير عند اليونان شيء لا يُجحَد ولا يُمارى فيه، والتأثير المصري يتجاوز الفن الرفيع إلى أشياء أخرى تمس الفنون التطبيقية، وتمس الحياة العملية اليومية، وقد تمس السياسة أيضًا.
ومن الحق أن نعترف بأن مصر لم تنفرد بالتأثير في حياة اليونان، ولا في تكوين الحضارة اليونانية والعقل اليوناني، وإنما شاركتها في ذلك أمم شرقية أخرى، كان لها حظٌّ موفور من الحضارة والرقي، وهي هذه الأمم التي كانت تعمر هذا الشرق القريب.
هذه الأمم التي كانت كمصر مهدًا للحضارة في حوض البحر الأبيض المتوسط. وكما أن اليونان يعرفون الفضل لمصر في تكوين حضارتهم، فهم يعرفون الفضل للكلدانيين وغيرهم من هذه الشعوب الآسيوية التي تأثرت بالبحر الأبيض المتوسط.
فإذا أردنا أن نلتمس المؤثر الأساسي في تكوين الحضارة المصرية، وفي تكوين العقل المصري، وإذا لم يكن بد من اعتبار البيئة في تقدير هذا المؤثر، فمن اللغو والسخف أن نفكر في الشرق الأقصى أو في الشرق البعيد، ومن الحق أن نفكر في البحر الأبيض المتوسط، وفي الظروف التي أحاطت به، والأمم التي عاشت حوله.
وإذَنْ فالعقل المصري القديم ليس عقلًا شرقيًّا إذا فُهِم من الشرق الصين واليابان والهند وما يتصل بها من الأقطار، وقد نشأ هذا العقل المصري في مصر متأثرًا بالظروف الطبيعية والإنسانية التي أحاطت بمصر وعملت في تكوينها، ثم نما وربا، وأثَّر في غير الشعب المصري من الشعوب المجاورة، وتأثر بها، وكان من أشد الشعوب تأثرًا بهذا العقل المصري أولًا، وتأثيرًا فيه بعد ذلك العقل اليوناني.
فإذا لم يكن بد من أن نلتمس أسرة للعقل المصري نقره فيها، فهي أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم، وقد كان العقل المصري أكبر العقول التي نشأت في هذه الرقعة من الأرض سنًّا، وأبلغها أثرًا.
كل هذه الأوليات لا معنى لإضاعة الوقت في إثباتها، وإقامة الأدلة عليها، فقد فرغ الناس من ذلك منذ عهدٍ بعيد، ولكن الغريب أنهم برغم ذلك يستخلصون من هذه الحقائق الواضحة نتائج تناقضها كل المناقضة، وتباينها كل المباينة، وتبعد عنها أشد البعد، فأما المصريون أنفسهم فيرون أنهم شرقيون، وهم لا يفهمون من الشرق معناه الجغرافي اليسير وحده، بل معناه العقلي والثقافي، فهم يرون أنفسهم أقرب إلى الهندي والصيني والياباني منهم إلى اليوناني والإيطالي والفرنسي، وقد استطعت أن أفهم كثيرًا من الخطأ وأسيغ كثيرًا من الغلط وأفسر كثيرًا من الوهم، ولكني لم أستطع قط، ولن أستطيع في يومٍ من الأيام، أن أفهم هذا الخطأ الشنيع أو أسيغ هذا الوهم الغريب.
ومهما أنسَ فلن أنسى مواقف الحيرة والعجز عن الفهم التي كنت أقفها منذ أعوام، أمام جماعة كانت تقوم في مصر، وكانت تسمي نفسها جماعة الرابطة الشرقية، وكانت تذهب في سيرتها وتفكيرها هذا المذهب الغريب، مؤثرة التضامن مع أهل الشرق الأقصى على التضامن مع أهل الغرب الأدنى. وأنا أفهم في وضوحٍ، بل في بداهة، أن نشعر بالقرابة المؤكدة بيننا وبين الشرق الأدنى، لا لاتحاد اللغة والدين فحسب، بل للجوار الجغرافي، وتقارب النشأة والتطور التاريخي، فأما أن نتجاوز هذا الشرق القريب إلى ما وراءه، فلا أفهم أن يقوم الأمر فيه على الوحدة العقلية، أو على التقارب التاريخي، وإنما أفهم أن يقوم على الوحدة الدينية، أو على تبادل بعض المنافع المؤقتة التي تتصل بالسياسة والاقتصاد.
ومن المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساسًا للوحدة السياسية ولا قوامًا لتكوين الدول.
فالمسلمون أنفسهم منذ عهدٍ بعيد قد عدلوا عن اتخاذ الوحدة الدينية واللغوية أساسًا للملك وقوامًا للدولة، وليس المهم أن يكون هذا حسنًا أو قبيحًا، وإنما المهم أن يكون حقيقة واقعة، وما أظن أحدًا يجادل في أن المسلمين قد أقاموا سياستهم على المنافع العملية، وعدلوا عن إقامتها على الوحدة الدينية واللغوية والجنسية أيضًا، قبل أن ينقضي القرن الثاني للهجرة، حين كانت الدولة الأموية في الأندلس تخاصم الدولة العباسية في العراق.
وقد مضى المسلمون بعد ذلك في إقامة سياستهم على المنافع، وعلى المنافع وحدها، إلى أبعد حدٍّ ممكن، فلم يأتِ القرن الرابع للهجرة حتى قام العالم الإسلامي مقام الدولة الإسلامية، وحتى ظهرت القوميات، وانتشرت في البلاد الإسلامية كلها دول كثيرة، يقوم بعضها على المنافع الاقتصادية والوحدات الجغرافية، ويقوم بعضها الآخر على ألوانٍ أخرى من المنافع، تختلف قوةً وضعفًا باختلاف الأقاليم والشعوب، وحظ هذه الأقاليم والشعوب من قوة الشخصية والقدرة على الثبات والمقاومة.
وكانت مصر من أسبق الدول الإسلامية إلى استرجاع شخصيتها القديمة التي لم تنسها في يومٍ من الأيام، فالتاريخ يحدثنا بأنها قاومت الفرس أشد المقاومة وبأنها لم تطمئن إلى المقدونيين حتى فنوا فيها، وأصبحوا من أبنائها، واتخذوا تقاليدها وسننها لهم تقاليد وسننًا.
والتاريخ يحدثنا كذلك بأنها قد خضعت لسلطان الإمبراطورية الرومانية الغربية والشرقية على كرهٍ مستمر، ومقاومةٍ متصلة، فاضطر القياصرة إلى أخذها بالعنف، وإخضاعها للحكم العرفي.
والتاريخ يحدثنا كذلك بأن رضاها عن السلطان العربي بعد الفتح لم يبرأ من السخط، ولم يخلص من المقاومة والثورة، وبأنها لم تهدأ ولم تطمئن إلا حين أخذت تسترد شخصيتها المستقلة في ظل ابن طولون، وفي ظل الدول المختلفة التي قامت بعده.
فالمسلمون إذَنْ قد فطنوا منذ عهدٍ بعيد إلى أصلٍ من أصول الحياة الحديثة، وهو أن السياسة شيء والدين شيء آخر، وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقوما على أي شيءٍ آخر.
وهذا التصور هو الذي تقوم عليه الحياة الحديثة في أوروبا، فقد تخففت أوروبا من أعباء القرون الوسطى، وأقامت سياستها على المنافع الزمانية، لا على الوحدة المسيحية، ولا على تقارب اللغات والأجناس.
لِنَعُدْ إلى ما كنا فيه منذ حين، فنلاحظ مرة أخرى أن العقل المصري القديم لم يتأثر بالشرق الأقصى، ولا بالشرق البعيد، قليلًا ولا كثيرًا، وإنما نشأ مصريًّا، ثم أثر فيما حوله وتأثر به، ولكن المصريين — كما قلنا — يُعرضون عن هذه الأوليات، ويرون أنفسهم شرقيين، فإذا سُئلوا عن معنى هذه الشرقية لم يحققوها، ولم يصلوا منها إلى شيء، وأما الأوروبيون فهم كالمصريين يقررون هذه الأوليات في كتبهم، ويُعلِّمونها في مدارسهم، ويبذلون الجهود الخصبة الشاقة في تحقيق الصلات بين المصريين القدماء والحضارة اليونانية التي هي أصل حضارتهم، ثم هم بعد هذا كله يعرضون عن الحق، ويتجاهلون هذه الأوليات، ويرون في سيرتهم وسياستهم أن مصر جزء من الشرق، وأن المصريين فريق من الشرقيين، وليس من المهم ولا من النافع الآن أن نبحث عن مصدر هذا التعنت الأوروبي الذي يرجع إلى السياسة وإلى المنافع قبل كل شيء، وإنما المهم أن نمضي في هذه الملاحظة التاريخية حتى يثبت لنا في وضوحٍ وجلاء أن من السخف الذي ليس بعده سخف اعتبار مصر جزءًا من الشرق، واعتبار العقلية المصرية عقلية شرقية كعقلية الهند والصين.