الإيمان بمهمة التعليم والشعور بخطره وقدسيته
وأول ما ينبغي لذلك أن نصدر في عنايتنا بالتعليم العام، بل بالتعليم كله، عن الجد لا عن اللعب، وعن اليقين لا عن الشك، وعن الإيمان لا عن التردد.
وهذه خصلة لازمة للنجاح في كل شيءٍ كبيرًا كان أو صغيرًا، فالناس مدينون بالنجاح والتوفيق في أكثر ما ينجحون فيه ويوفقون إليه للثقة واليقين، وللإيمان والإخلاص أكثر مما هم مدينون بذلك لما ينفقون من قوةٍ وما يحتملون من مشقة وما يبذلون من جهدٍ ومال. ولقد أكثر وزير المعارف القائم منذ تولى هذه الوزارة، بل قبل أن يتولاها، بل قبل أن توكل إليه أمور الحكم، من ذكر الإيمان بما يسميه رسالة المعلم والتعليم، وألح في أن يؤمن المعلم لا أقول برسالته كما يقول الوزير، وإنما أقول بمهمته؛ لأني أوثر هذا اللفظ، ألح في أن يؤمن المعلم بمهمته، وأن يؤمن المشرفون على التعليم بمهمتهم أيضًا، والوزير محقٌّ في طلب الإيمان بقيمة التعليم وخطره من رجال التعليم على اختلافهم؛ لأن الإيمان وحده هو الذي يخفف الجهد مهما يثقل، ويهوِّن التضحية مهما تعسر، ويحببها إلى النفوس مهما تكن بغيضة كريهة بشعة، والإيمان كما يقال منذ أقدم العصور خليقٌ أن يزيل الجبال من مواضعها، وأن يرد إلى الإلف ما كان الناس يرونه غريبًا عجيبًا خارقًا للعادة شاذًّا عن المألوف، ولكن الإيمان لا يأتي عفوًا، ولا يُفرض على الناس فرضًا، ولا يذاع في قلوبهم ونفوسهم بقرارٍ يصدره مجلس الوزراء، أو قانون يشرعه البرلمان، وإنما يجب أن تُهيَّأ له أسبابه وتُبتغى له وسائله، وإنما يكون الإيمان بالتعليم وخطره وقدسيته حين يكون الإيمان بالوطن، وحين يصح في قلوب المعلمين والمشرفين على التعليم حب الوطن وإيثاره على النفس والمنفعة والمال، وحين يصح في عقول المعلمين والمشرفين على التعليم أن من حق الوطن عليهم وعلى الدولة أن يذاد عنه الجهل ويقوى فيه العلم، وتذكو فيه الثقافة، وأن يُحاط من جميع الطوارئ والعاديات بكل ما يمكن أن يحاط به مهما يكلف ذلك من تضحيةٍ، ومهما يفرض ذلك من جهدٍ، ومهما يقتضي ذلك من عناء.
وحين تنظر الدولة إلى التعليم على أنه غذاء للشعب لا يستطيع أن يعيش بدونه كما أن الطعام والشراب غذاء للشعب لا يستطيع أن يعيش بدونه، مع هذا الفرق الذي يظهر واضحًا جليًّا وهينًا يسيرًا، ولكننا مع ذلك لا نفطن له ولا نقف عنده، وهو أن الطعام والشراب وكل ما يتصل بحياة الجسم من العناية بشئون الصحة العامة ضرورة لازمة لتمكين الشعب من حياته الحيوانية التي يشارك فيها الخيل والبغال والحمير والدواجن، على حين أن التعليم ضرورة لازمة لتمكين الشعب من أن يكون إنسانًا ممتازًا من هذه الحيوانات مسيطرًا عليها وعلى غيرها من عناصر الطبيعة في البر والبحر والجو والسماء أيضًا.
أليس من الغريب في بلدٍ متحضر أن تُعنَى الدولة بشئون التجارة والزراعة والصناعة جادة غير لاعبة ومؤمنة غير مترددة، على حين لا تُعنَى بشئون التعليم إلا في شيءٍ من التكلف والابتسام وكثيرٍ من السخرية والاستهزاء، مع أن هذه الزراعة والتجارة والصناعة وغيرها مما يتصل بالحياة المادية لا سبيل إليها ولا وسيلة إلى إصلاحها وترقيتها وإعطاء الشعب أوفر حظٍّ منها وأصلحه إلا إذا وُجِد التعليم ووجد صالحًا ملائمًا ممكنًا للإنسان من أن يستغل الطبيعة إلى أبعد حدٍّ مستطاع.
إن الذين يُذكر لهم التعليم العام أو التعليم العالي فيرفعون أكتافهم ويهزون رءوسهم، ويقولون: أعدد لنا الزراع والتجار والصناع فنحن إليهم أحوج منا إلى الذين يخرجون من الجامعة ومدارس التعليم العام قصار النظر، ضعاف العقول، محدودي الأفق، يقولون عن غير علمٍ ويصدرون عن غير فهمٍ ويتحدثون عن غير بصيرةٍ ولا روية، فلن نستطيع أن نخرج لهم رجال الزراعة والصناعة والتجارة والأعمال بوجهٍ عام إلا إذا أخرجنا لهم قبل كل شيء هؤلاء المثقفين الممتازين والمتوسطين الذين يفهمون الحياة وحاجاتها وضروراتها والذين تعرض لهم مشكلات هذه الحياة فيعرفون كيف يأخذونها وكيف يروضونها وكيف يظهرون عليها وكيف ينفذون منها.
نعم، وإنما يشيع الإيمان بالتعليم وخطره في نفوس المعلمين والمشرفين على التعليم، حين تُمحى من قلوب المسيطرين على الأمر هذه العواطف البغيضة التي لا تلائم الديمقراطية ولا تستقر مع المساواة والحرية في نفسٍ واحدة، هذه العواطف التي تصور لكثيرٍ من المسيطرين على الأمر أن الشعب جزء من هذه المادة التي تُستثمر وتُستغل، هي كالأرض التي تُزرع وكالماء الذي تُروى به الأرض، وكالحيوان الذي تُحمل عليه الأثقال، وكالمادة التي تُتخذ منها الأدوات، حقه على سادته وملاكه أن يدبروا له من الطعام والشراب واللباس ما يحميه من العاديات ويمكنه من العمل ويمكنهم هم من استغلاله واستثمار جهده، شأنه في ذلك شأن الأرض إذا أدركها الضعف وشأن الآلة إذا أدركها العطب، فكما أنك خليقٌ أن تصلح الأرض وتحميها من الضعف لتستثمرها، وكما أنك خليقٌ أن تصلح الأداة إذا أدركها الفساد أو نالها العطب لتستخدمها لما هُيئت له من المرافق، فأنت خليقٌ أن تطعم الشعب وتسقيه وتذود عنه الأوبئة والآفات لتسخره بعد ذلك في الزراعة والتجارة والصناعة وما يغل عليك الثروة الغزيرة آخر العام والنعمة المتصلة آناء الليل وأطراف النهار، على حين يحتمل الشعب في سبيل ذلك ألوان البؤس وضروب الشقاء، بل حين تُمحى من نفوس المسيطرين على الأمر من الحكام والأغنياء هذه العواطف التي يرونها راقية ممتازة وأراها مهينة مخزية، عواطف الرحمة للشعب والرفق به والعطف عليه والإحسان إليه كما نرحم الحيوان ونرفق به ونعطف عليه ونحسن إليه، فالشعب ليس في حاجةٍ إلى أن يرحمه فريقٌ من أبنائه أو يرفق به أو يشمله بالعطف والإحسان، وإنما الشعب صاحب الحق، وصاحب الحق المطلق المقدس في أن تشيع المساواة والعدل بين أبنائه جميعًا، وإذا كانت الظروف التاريخية لحياة الناس قد فرقت بينهم في الغنى والفقر، وإذا كانت الظروف الطبيعية قد فرقت بينهم في المقدرة والكفاية فهم مشتركون في مقدارٍ لا يختلفون فيه، وهو أنهم ناسٌ قد خُلقوا من ترابٍ وسيُردُّون إلى التراب كما يقول الحديث الشريف.
وإذَنْ فلا بد من أن تزول من نفوس السادة والقادة والرؤساء والمسيطرين عواطف الاستعلاء على الشعب وعواطف الإحسان إلى الشعب؛ لأن الإحسان على هذا النحو مظهر من مظاهر الاستعلاء، ولا بد من أن تقوم مقام هذه العواطف عواطف الإيمان بالمساواة والعدل بين أبناء الشعب، ومن أن تصبح هذه العواطف جزءًا من تصورنا للأشياء وحكمنا عليها، وجزءًا مقومًا لشعورنا الوطني، حينئذٍ نؤمن جميعًا بأن من حقنا جميعًا أن نحيا حياة صالحة كريمة، وحينئذٍ نؤمن جميعًا بأن التعليم على اختلاف ألوانه والثقافة على اختلاف ضروبها سبيلنا جميعًا إلى هذه الحياة الصالحة الكريمة، وحينئذ نؤمن بأن للتعليم خطرًا وقيمة هما خطر الحياة وقيمتها، وحينئذ يشعر المعلم بأنه عامل من العوامل الأساسية في الحياة؛ في الحياة الخاصة وفي الحياة العامة، له ما لهذه الحياة من خطرٍ ولعلمه ما لهذه الحياة من قيمة، فهو إذَنْ ليس أداة تُسخَّر ولا آلة تُستَغل، وإنما هو أمين الشعب على أبناء الشعب؛ ينقل إليهم تراثه القديم ويشيع في نفوسهم آماله المستقبلة ويهيئهم لحماية هذا التراث وتحقيق هذه الآمال.
يومئذٍ ويومئذٍ فحسب، يتحقق ما يريده هيكل باشا وما نريده نحن معه من إيمان المعلمين والمشرفين على التعليم بمهمتهم الخطيرة.
ويومئذٍ ويومئذٍ فحسب، يقبل رجال التعليم على التعليم عن يقينٍ وثقة، وعن استعدادٍ للتضحية واحتمالٍ للجهد، فأين نحن من هذا اليوم؟ أظن أننا بعيدون عنه بُعدًا شديدًا، فلنعتصم مع ذلك بالرجاء، ولنحمِ أنفسنا من اليأس ولنطالب بأيسر ما يمكن أن نطالب به لنبلغ بالتعليم غاية قريبة من غايته بعض الشيء إن لم نستطع أن نبلغ به هذه الغاية، وأيسر ما نطلبه الآن ألا نعالج أمور التعليم ساخرين منها هازئين بها متكلفين لما نبذل فيها من جهد، أيسر ما نطلبه أن نُعنَى بعقول أبنائنا كما نُعنَى بزراعة القطن.
إن أمور مصر كلها تضطرب حين تعرض للقطن آفة من الآفات وحين تكسد السوق وينخفض السعر، هنالك تضطرب الحكومة ويضطرب البرلمان وتقلق الصحف ويتغلغل القلق في البيوت والقصور.
أفئن عرضت للتعليم آفة تفسده وتفسد النشء الذين هم أبناؤنا وخلفاؤنا على أرض الوطن وتراثه ومستقبله، لا نحفل بها ولا نهتم لإصلاحها كما نحفل بدودة القطن وكما نهتم لاضطراب الأسواق؟!
كلا، ليس كثيرًا أن نطلب إلى الدولة وإلى رجال التعليم أن تكون عنايتهم بتثقيف الشباب وتنشيئه وحمايته من الجهل والفساد كعنايتهم بتنمية القطن وتذكيته وحمايته من البوار والكساد.
نعم، وأيسر ما نطلبه أيضًا ولن نسرف في طلبه مهما ألححنا ومهما كررنا القول وأعدناه أن يشعر المعلم شعورًا قويًّا بهذه العناية وبأنه شريك فيها، ومحقق لها، ليشعر بما ينبغي له من العزة والكرامة.
وقد تعود صديقي هيكل باشا وتعودت أنا أيضًا منذ كنا نعمل معًا في السياسة أن نشبه التعليم بالقضاء، والمعلمين بالقضاة وأن نطالب بالكرامة والطمأنينة للذين نأمنهم على إذاعة العلم والمعرفة في أبناء الشعب كما نطالب بالكرامة والطمأنينة للذين نأمنهم على تحقيق العدل بين الناس.
ويخيل إليَّ أن صديقي هيكلًا ما زال يشبه التعليم بالقضاء والمعلمين بالقضاة بعد أن تولى وزارة المعارف، فلعله يمضي بهذا التشبيه إلى غايته ويجعله حقيقة لا تشبيهًا ولا مجازًا، ويبلغ من الدولة حكومتها وبرلمانها، أن تسوي بين رجال القضاء ورجال التعليم، حينئذٍ نستطيع أن نطالب المعلم بأن يخلص لمهمته وينصح لتلميذه ويحتمل في سبيل ذلك المشقة والجهد والعناء، وحينئذٍ نقرب من الإيمان بمهمة التعليم، ولعل ذلك يقربنا من إصلاح التعليم شيئًا ويقربنا من تحقيق الغاية من التعليم.