ماذا يُعلَّم في المدارس العامة
والآن ما الذي نريد أن نعلِّمه في هذه المدارس العامة لنصل بها إلى تحقيق هذه الغاية التي صورناها منذ حين، وهي إعداد الشباب للحياة الصالحة الكريمة المنتجة وتمكينهم من المضي في تثقيف أنفسهم وترقيتها سواء كان ذلك بالاختلاف إلى دروس التعليم العالي أم بالاعتماد على جهودهم الخاصة؟ للجواب على هذا السؤال أرجو أن يذكر القارئ ما قدمته من ألوان القول حين حاولت أن أحدد الغرض الذي يرمي إليه التعليم الأولي والوسائل التي تمكِّن من تحقيق هذا الغرض.
فواضح جدًّا أن التعليم العام يجب أن يحقق كل أغراض التعليم الأولي من جهة وأن يحقق أغراضًا أخرى أرقى وأرفع من هذه الأغراض من جهةٍ ثانية.
وإذَنْ فلا بد من أن يحقق التعليم العام قبل كل شيء هذه الوحدة الوطنية التي صورناها فيما مضى من القول، هذه الوحدة التي لا نفهمها ولا نحققها إلا إذا اعتمدت على استقلالنا الخارجي وعلى حريتنا الداخلية، وقد قدمنا أن الصبي يجب أن يعرف نفسه وأمته التي هو عضو من أعضائها وإقليمه الذي يعيش فيه ووطنه الذي يعيش به وله. وقدمنا أن هذا الصبي من أجل ذلك يجب أن يقرأ ويكتب ويحسب ويعرف تقويم الوطن وتاريخه ولغته، ويتعلم بعد هذا كله من بسائط العلم ما يمكنه من أن يعيش ويكسب القوت. وقد ذكرنا أمر التعليم الديني واختلاف الناس فيه، وبيَّنَّا رأينا فيما تقتضيه ظروف حياتنا المصرية في أول عهدها بالحرية والاستقلال.
فكل هذه الأشياء التي يجب أن يتعلمها الصبي في التعليم الأولي يجب أن يتعلمها في أول التعليم العام؛ لأنها مقدار مشترك بين أبناء الشعب جميعًا لا يصح أن يعرفه بعضهم ويجهله بعضهم الآخر، ولكن الصبية الذين يُرسلون إلى مدارس التعليم العام يتجاوزون هذه الأشياء إلى غيرها، ويتعلمون هذه الأشياء نفسها على أنها مقدمة، أو قل إنها أساس لأشياء أخرى تأتي بعدها فتقوى آثارها ونتائجها من جهةٍ وتعد لآثارٍ ونتائج غيرها من جهةٍ أخرى.
ومن أجل هذا يشترك التعليم الأولي والقسم الأول من التعليم العام في أشياء ويختلفان في أشياء؛ يشتركان في أنهما يكوِّنان نفس الصبي ويصلان بينه وبين بيئته المادية والمعنوية، ويبثان في نفسه الشعور بأنه فرد من جماعة، وعضو من أمة، وجزء من وطن، ثم يختلفان بعد ذلك في أن التعليم الأولي يمكن أن يكون غاية يقف عندها الصبي على النحو الذي صورناه في أول هذا الحديث، على حين هذا الجزء من التعليم العام ليس غاية ولا يمكن أن يكون غاية، وإنما هو مقدمة ينتقل منها الصبي ضرورة إلى ما بعدها فيجب أن يُهيَّأ في يسرٍ وتدريجٍ ولكن في دقةٍ وإتقانٍ لهذا الذي سينتقل إليه.
ولنضرب لذلك أمثلة تبينه وتجلوه؛ كلا الصبيين في التعليم الأولي وفي التعليم العام يجب أن يعرف البيئة الجغرافية التي نشأ فيها والتي يُهيَّأ للعيش فيها، فهذا المقدار من الجغرافيا يكفي لتلميذ المدرسة الأولية ويجب أن يعرفه تلميذ المدرسة العامة، ولكن معرفته له يجب أن تكون أعمق وأوسع من معرفة زميله بعض الشيء؛ لأن تلميذ المدرسة العامة هذا لا يتعلم الجغرافيا ليعرف مصر، ويتهيأ للعيش فيها فحسب، بل ليتعمقها مع الزمن ويتثقف فيها من حيث هي علم أوسع وأشمل وأعمق من مصر، ويجب أن يتثقف فيه الشاب المستنير إلى حدٍّ بعيد، فيجب إذَنْ أن يكون علم التلميذ في المدرسة العامة بجغرافيا مصر أعمق وأدق من علم زميله، وأن يتجاوز مصر بعض الشيء إلى بعض الأقطار التي تشتد بينها وبين مصر الصلة وتطرد بينها وبين مصر العلاقات، وقل مثل ذلك في التاريخ؛ فتلميذ المدرسة العامة لا يتعلمه ليعرف وطنه معرفة مجملة، وليصل حاضره بماضيه فحسب؛ وإنما يتعلمه لهذا ويجب أن يمضي في تعلمه لهذا، ثم يتعلمه بعد ذلك لأنه مادة من مواد الثقافة العامة التي لا يكون الشاب متحضرًا ولا مستنيرًا بدونها، ولأنه يصل بين قديم وطنه وقديم الإنسانية التي اتصلت بوطنه فأثرت فيه وتأثرت به، وما دام وطنه متصلًا في الحاضر وسيتصل في المستقبل بالإنسانية متأثرًا بها مؤثرًا فيها فلا بد من أن توصل حياة الحاضر والمستقبل في نفس الشاب بحياة الماضي كما هي متصلة في الواقع؛ ليستطيع الشاب أن يلائم بين نفسه وبين الحياة الواقعة حين يتصور الصلة بينه وبين الناس وحين يحكم عليها ويتصرف فيها. وقل شيئًا يشبه هذا فيما ينبغي أن يتعلمه الصبيان من أوليات العدد والحساب؛ أحدهما يتعلمها لأنها توسع عقله بعض الشيء ولأنها تنفعه في حياته العملية بنوعٍ خاص، والآخر يتعلمها لهذا ولأنها سلم يرقى فيه إلى ما هو أعمق وأدق من أصول الرياضة وإلى ما هو جزء مقوم للعقل وأصل أساسي من أصول المعرفة وسبيل موصلة إلى هذه المعرفة.
وعلى هذا النحو يختلف هذان النوعان من التعليم من وجوهٍ ويتفقان من وجوهٍ وينشأ عن هذا الاختلاف والاتفاق أن يُعنَى المشرفون على أمور التعليم بالاحتياط أشد الاحتياط، فقد تظهر التجربة والاختبار أن تلميذ المدرسة الأولية مستعد للمضي في الثقافة، خليق أن يتحول إلى التعليم العام ويمضي فيه إلى بعض غايته أو إلى أقصى غايته فينبغي أن تُهيَّأ له أسباب هذا التحول والانتقال، وذلك بالملاءمة بين هذين النوعين من التعليم إلى حد ما، وبإنشاء الممرات إن صح هذا التعبير بين هذين النوعين؛ ليستطيع الصبي أن يسلكها إن اقتضت التجربة أن ينتقل من التعليم الأولي إلى التعليم العام، وقد تظهر التجربة والاختبار أن تلميذ المدرسة العامة محدود القوة ضعيف الاستعداد لا يستطيع أن يمضي في الثقافة الراقية إلى حدٍّ بعيد، فهو قد ينصرف عنها إلى الحياة العاملة، وهو قد ينصرف عنها إلى لونٍ من ألوان التعليم الفني، فيجب أن يحتاط المشرفون على شئون التعليم أشد الاحتياط حتى إذا انصرف هذا التلميذ عن المدرسة لم يكن قد حصَّل من المعرفة أقل مما يحصِّله تلميذ المدرسة الأولية عادة.
وكل هذه مسائل دقيقة لا يكفي أن تُشرع لها القوانين وتوضع لها القواعد والأصول وتصدر بها المنشورات، وإنما يجب أن تلاحظ من قريبٍ وتراقب من كثب، ويجب من أجل هذا ألا تنقطع الصلة بين التعليم العام وبين غيره من ألوان التعليم، وهناك مسألة يجب أن نقف عندها بعض الوقت؛ لأنها في حاجةٍ إلى العناية وإن كانت في نفسها أوضح وأجلى من أن تحتاج إلى مناقشة أو جدال.
وهي مسألة اللغات الأجنبية، متى يُبدأ بدرسها في التعليم العام. أما مصر فقد جرت على البدء بتعليم هذه اللغات أو إحدى هذه اللغات على الأصح في المدارس الابتدائية التي هي أول التعليم العام، جرت على ذلك مع شيءٍ من الاختلاف والاضطراب في الرأي وفي العمل، فهل تدرس اللغة الأجنبية منذ السنة الأولى أم هل تدرس منذ السنة الثانية أم هل تدرس منذ السنة الثالثة؟ أما نحن فجوابنا في ذلك قاطع صريح وهو أن اللغة الأجنبية لا ينبغي أن تدرس في هذا القسم من التعليم العام لا في السنة الأولى ولا في الثانية ولا في الثالثة ولا في الرابعة، وإنما يجب أن يخلص هذا القسم من أقسام التعليم العام كما خلص التعليم الأولي للثقافة الوطنية الخاصة، إذا أردنا أن تخلص نفس الصبي لوطنه وأن تشتد الصلة بينها وبين هذا الوطن، وهذا الصبي سيتجاوز الوطن في الثقافة إلى أوطان أخرى مختلفة بعد زمنٍ قصير وسيشتد اتصاله بهذه الأوطان على نحوٍ غير مألوف في البلاد الأخرى كما سترى، فلا أقل من أن نحتفظ بهذا الطور من أطوار نشأته للثقافة الوطنية نخصه بها ونقصره عليها.
أضف إلى ذلك أننا نشكو مخلصين محقين من أن تلاميذنا لا يحسنون لغتهم العربية، ونحمل ذلك على اللغة نفسها أحيانًا وعلى مناهجها وكتبها أحيانًا، وعلى معلميها ومذاهبهم في التعليم أحيانًا، ولكننا لا نحمل ذلك على مصدرٍ لعله أن يكون من أهم مصادره، وسبب لعله أن يكون من أهم أسبابه؛ وهو أن التلميذ لا يكاد يدخل المدرسة حتى تتلقفه اللغة الأجنبية فتستغرق من وقته وجهده ونشاطه ما هو خليق أن يُنفق في تعلم اللغة الوطنية وإتقان غيرها من المواد التي تتصل بالثقافة الوطنية.
وإذا كان من الحق أن اللغة العربية عسيرة لأن نحوها ما زال قديمًا عسيرًا، ولأن كتابتها ما زالت قديمة عسيرة، ولأن مناهجها ما زالت بعيدة عن ملاءمة حاجة الصبي وطاقته، ولأن معلمها لم يهيأ بعد ليكون رفيقًا بها وبالتلميذ، قادرًا عليها وعلى التلميذ، إذا كان هذا كله حقًّا، وهو حق من غير شك، فأحرى أن نعنى باللغة العربية وأن نضمن فراغ التلميذ لها وانصرافه إليها وألا نشغله عنها بلغةٍ أجنبية لا يحتاج إليها الآن ويستطيع أن يتعلمها ويتعمقها حين ينمو عقله وجسمه وملكاته، وحين يستطيع أن يجمع بين تعلم اللغة الأجنبية والمضي في إتقان لغته الوطنية والمضي فيما أخذ فيه من الثقافة.
وقد كان يمكن الاعتذار من فرض اللغة الأجنبية على الصبية في أول عهدهم بالمدرسة أيام الإنجليز؛ لأن سيطرتهم على شئون مصر ربما كانت تقتضي ذلك، وقد كان يمكن هذا الاعتذار أيضًا حين كانت لغة الثقافة في المدارس هي الإنجليزية أو الفرنسية، فلم يكن بد من إعداد التلاميذ لهذه الثقافة بتعليمهم لغتها.
فأما الآن وقد كفت يد الإنجليز عن أمور التعليم، فأما الآن وقد أصبحت اللغة العربية لغة الثقافة فلا يمكن الاعتذار عن المضي في هذا الخطأ إلا بأنه استمرار لما كان وإهمال لما ينبغي من الإصلاح، أضف إلى هذا كله أنه إذا فُهم أن تعنى المدارس الأوروبية بتعليم الصبية اللغات الأجنبية في أول عهدهم بالمدارس وهي في ذلك أدنى منا إلى الاعتدال والقصد، فقد لا يُفهم إسراعنا إلى ذلك وإصرارنا عليه لأمرين خطيرين: أحدهما أن للصبية الأوروبيين من دورهم ومنازلهم وبيئاتهم خارج المدرسة مدارس يتعلمون فيها لغتهم الوطنية ويتثقفون فيها بثقافتهم القومية، وأن لهم من أمهاتهم وآبائهم ومن أخواتهم وإخوانهم معلمين ومثقفين يحببون إليهم هذه الثقافة وتلك اللغة ويزودونهم منها بحظوظٍ قد تكون أبقى وأرقى وأكثر وأوفر مما يتعلمونه في المدرسة.
وأين نحن من هذا وبين المدرسة والبيت من الفرق ما تعلم وبين الأسرة وجماعة المعلمين من البَون ما تقدِّر، حتى إن كثيرًا من الناس ليقولون إن اللغة العربية التي يتعلمها الصبي في المدرسة لغة أجنبية بالقياس إليه؛ لأنه كان لا يتكلمها ولا يسمعها مع الذين يعلمونه اللغة العربية نفسها فضلًا عن الذين يعلمونه الجغرافيا والتاريخ وغيرهما من العلوم؟ أفلا يكون من الحق والإنصاف والرفق بالصبي والنصح للغة العربية نفسها أن نمد للصبية في هذا الوقت الذين يفرغون فيه للغتهم الوطنية قبل أن تأتي لغة أخرى أو لغات أخرى فتزاحمها على عقولهم وقلوبهم وعلى ملكاتهم وأذواقهم.
والأمر الثاني أن بين اللغات الأوروبية مهما نختلف من التوافق والتقارب حظًّا يختلف قوة وضعفًا باختلاف منازل بعضها من بعض، ولكنه على كل حال ييسر درسها على الصبية الأوروبيين ويمنحهم شيئًا من اللذة والمتاع، وربما أعانهم على لغتهم الوطنية نفسها، وليس بين اللغة العربية واللغات الأوروبية من هذا التوافق والتقارب في المادة والمنطق قليل ولا كثير، فإذا أخذ الصبي الفرنسي بدرس الإيطالية أو الإسبانية لم يجد في ذلك من الجهد ما يجده الصبي المصري حين يدرس لغة أوروبية؛ لما بين الفرنسية والإيطالية والإسبانية من التقارب ولما بين اللغة العربية وأي لغة أوروبية من التباعد، وإذا أخذ الصبي الإنجليزي بدرس الألمانية كان ذلك أيسر عليه وأدنى إليه وأنفع له إذا قيس إلى الصبي المصري حين يؤخذ بدرس إحدى هاتين اللغتين أو أي لغة أوروبية أخرى.
هذا التباعد بين لغتنا العربية واللغات الأوروبية التي نريد أن نتعلمها خليق أن يحملنا على ألا ندخل الاضطراب والاختلاط على الصبي أثناء تعلمه لغته الوطنية الصعبة بتعليمه لغة أجنبية بعيدة عنها أشد البعد مخالفة لها أشد الخلاف قبل أن يتمكن من هذه اللغة الوطنية إلى حدٍّ ما، وهو في الوقت نفسه يحملنا على ألا نسرع بإقحام اللغة الأجنبية على نفس الصبي وملكاته وذوقه قبل أن تتقدم نفسه وملكاته وذوقه في النضج إلى حدٍّ معقول؛ حتى لا تفنى شخصيته اللغوية والأدبية الناشئة في هذه اللغة الأجنبية، وحتى لا يضطرب عليه الأمر اضطرابًا ينتج أقبح الآثار في حياته الثقافية حين تتقدم به السن وحين يحتاج إلى أن يعبِّر عما في نفسه ويفهم ما يعبر به غيره، وحين يدعو إليه لغته العربية فلا تواتيه ولا تستجيب له؛ لأن الإلف لم يتحقق بينه وبينها أثناء الصبا، ولأنه شُغِل عنها وأُكرِه على ألا يمنحها من نفسه إلا جزءًا يسيرًا.