اليونانية واللاتينية
وهناك مسألة ليست أقل من هذه المسألة خطرًا ولكن وزارة المعارف لا تريد أن تقف عندها ولا أن تفكر فيها؛ لأنها غريبة بالقياس إليها، بل هي غريبة شاذة بالقياس إلى الكثرة العظمى من المثقفين المصريين مع أنها في نفسها من أوضح المسائل وأجلاها، وهي مسألة اللغتين القديمتين اليونانية واللاتينية.
ويجب أن نسجل هنا مع التقدير والأسف أيضًا أن صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا قد شعر بخطر هذه المسألة وهمَّ بحلها وكاد يوفق إليه، لولا أن الظروف السياسية فيما نظن ردته ردًّا عنيفًا عما كان يريد؛ فقد بدأ ماهر باشا بإدخال اليونانية واللاتينية والألمانية أيضًا في بعض المدارس الثانوية حين كان وزيرًا للمعارف، وكان تفكيره في هذا مستقيمًا كل الاستقامة؛ فإن الذي ينشئ الجامعة يجب أن يهيئ لها الطلاب الذين ينتفعون وينفعون بالاختلاف إليها، وكان ماهر باشا ينشئ الجامعة، وكان يريد أن يهيئ لها هؤلاء الطلاب، ولكنه أخطأ أو أخطأ المشيرون عليه فيما نظن، فاختار لتعليم هاتين اللغتين معلمين من اللاتينيين بلجيكيين وفرنسيين، وكان حقه أن يختارهم من الإنجليز؛ لأن استقلال مصر لم يكن قد تم بعد، برغم تصريح ٢٨ فبراير، ولأن الإنجليز ليسوا أقل من غيرهم قدرة على تعليم اليونانية واللاتينية، ولأن تلاميذنا أقدر على أن يستفيدوا من الإنجليز في اللاتينية واليونانية منهم على أن يستفيدوا من الفرنسيين والبلجيكيين، وما دام الأمر منتهيًا مهما يَطُل الوقت إلى أن ينتقل هذا التعليم إلى المعلمين المصريين فلم يكن بأس بأن نصانع الإنجليز حين كانوا خصومًا أقوياء، وليس من بأسٍ بأن نجاملهم ونرضيهم بعد أن أصبحوا حلفاء وأصدقاء ما دام ذلك ينفع ولا يضر. ولكن الذين أشاروا على ماهر باشا لم يفطنوا لهذا ولا لشيءٍ منه، فألغيت اللاتينية واليونانية من المدارس الثانوية، وحُوِّل بعض المعلمين إلى كلية الآداب، وكُلِّف بعضهم تعليم الفرنسية في القاهرة والأقاليم ورددنا إلى حيث كنا. وقد ترك ماهر باشا وزارة المعارف منذ عهدٍ بعيد، ولم يخطر لأحدٍ من الذين جاءوا بعده أن يفكر في هذه المسألة، ماذا نقول؟ لقد تعرض تعليم اللاتينية واليونانية في الجامعة نفسها لأعظم الأخطار وأشدها، واحتجنا وما زلنا محتاجين في إقراره وتقويته إلى جهادٍ متصل عنيف.
أُقر هذا التعليم في الجامعة على كرهٍ من نواحٍ كثيرة حين كان ماهر باشا وزيرًا للمعارف، وأُقر بالقياس إلى كليتي الآداب والحقوق، ولكن أشهرًا لم تمضِ على إنشاء الجامعة حتى كان صراع عنيف حول إقرار اللاتينية بالقياس إلى كلية الحقوق، وانتهى هذا الصراع بانتصار خصوم اللاتينية، وأُعفي طلاب الحقوق من درسها، وانتهينا إلى هذه النتيجة المضحكة التي تخزي مصر عند الأجانب من غير شك، وهي أن من الجائز جدًّا أن يوجد في الجامعة المصرية وفي أرقى كلية حديثة للحقوق في الشرق أستاذ أو أساتذة للفقه الروماني والفقه المدني وتاريخ الفقه لا يلم باللاتينية، ولا يستطيع أن يقرأ نصًّا من نصوصها مهما يكن يسيرًا.
وكان مصدر هذا الخطأ المضحك أن الذين أشرفوا على تنظيم كلية الحقوق لم يفرقوا، ولم يخطر لهم أن يفرقوا بين الحقوق ليتخصص فيها ويصبح أستاذًا في الكلية يومًا ما، فالأول يستطيع إلى حدٍّ ما أن يستغني عن اللاتينية ولكن استغناء الثاني عنها لا يُتصوَّر إلا في بلدٍ لا يفهم الثقافة العالية على وجهها.
وكان الأستاذ ديجي من أشد المبغضين لتعليم اللاتينية في كلية الحقوق، وإليه يرجع هذا الفضل المخجل في حمل المصريين على إبعاد اللاتينية عن هذه الكلية، ومع ذلك فقد كان الأستاذ ديجي عميدًا لكلية الحقوق في جامعة بوردو، وكان بارعًا في اللاتينية براعة ظاهرة، وأذكر أننا كنا نختصم في هذه المسألة في مجلس الجامعة، وكان الحوار بينه وبيني شديدًا، فلما ألححنا في هذا الحوار رد عليَّ في بعض ما رد بجملةٍ لاتينية، فضحك المجلس وضحك الأستاذ ديجي نفسه من رجلٍ يحارب اللاتينية ويريد إلغاءها، ويحتج لذلك ويخاصم فيه باللغة اللاتينية نفسها.
ولست أدري كيف أُقِر موقف الأستاذ ديجي، ولكني أعلله بإحدى علل ثلاث أو بهذه العلل الثلاث مجتمعة؛ فقد كان الأستاذ ديجي من الديمقراطيين المتطرفين في فرنسا، وانحراف هؤلاء الديمقراطيين عن اللاتينية واليونانية معروف، ولكنهم لا ينحرفون عنهما في فرنسا إلا بمقدار، فهم لا يريدون أن تُفرَضا على كل الذين يختلفون إلى المدارس العامة كما كانت الحال في القرن الماضي، وإنما يكتفون بأن تُدرسا في هذا التعليم يختارهما من يشاء ويعرض عنهما من يشاء، على أن يختار مكانهما لغتين أوروبيتين إلى آخر نظامهم المعقد. وأكبر الظن أن الأستاذ ديجي حارب اللاتينية في مصر كما كان يحاربها في فرنسا، وهناك علة ثانية، وهي أن زعيم الداعين إلى تعليم اللاتينية في الجامعة لم يكن محببًا إلى الأستاذ ديجي ولا إلى كثرة الجامعيين المصريين، فلم يكن هذا الزعيم إلا الأستاذ جريجوار العميد الأول لكلية الآداب الحكومية؛ فحوربت اللاتينية في كلية الحقوق كيدًا لهذا الرجل الذي لم يكن يحسن الدفاع عن قضيته برغم إخلاصه وحسن نيته، ولعلك لا تحتاج إلى أن أذكر لك أن العلة الثالثة كانت سياسية صرفة، فقد رأيت إخفاق ماهر باشا حين أراد تعليم هاتين اللغتين في المدارس الثانوية.
وهناك علة رابعة لم أكن أحب أن أسجلها لولا أنها لا تخلو من ظُرفٍ وفكاهة؛ فقد كان بعض أساتذة الحقوق من المصريين يمانعون أشد الممانعة في تعليم اللاتينية لطلابهم؛ لأنهم هم لم يتعلموا اللاتينية، فكيف يعرف تلاميذهم ما لا يعرفون، ولم يستطع أحد في ذلك الوقت أن يفهم أن الواجب على كل جيل أن يهيئ الجيل الذي يأتي بعده ليكون خيرًا منه وأوسع علمًا وأعمق ثقافة، ولكننا قد أخذنا نفهم هذا الآن، ويخيل إليَّ أن كلية الحقوق نفسها قد أخذت تندم على تفريطها في اللاتينية، وهي على كل حالٍ قد أخذت توجه بعض المتفوقين من طلابها لا لدرس اللاتينية وحدها بل لدرس اليونانية والألمانية والإيطالية أيضًا.
مهما يكن من شيءٍ فقد طُردت اللاتينية من كلية الحقوق طردًا عنيفًا، ثم حوربت في كلية الآداب نفسها، وحوربت معها اليونانية حربًا عنيفة طويلة ملتوية لا حاجة إلى تفصيلها الآن، ولكنهما ثبتتا لهذه الحرب ثباتًا حسنًا، ثم أُخرجت من كلية الآداب سنة ١٩٣٢، وما هي إلا أن ألغى صاحب المعالي حلمي عيسى باشا قسم الدراسات القديمة إلغاء، وظلت اللاتينية واليونانية مع ذلك تدرسان في الكلية لغتين إضافيتين على أنهما من وسائل البحث الجامعي، فلما عدت إلى الكلية في أواخر سنة ١٩٣٤ عادت الحرب حول اللاتينية واليونانية جذعة، وانتهت بأن أعاد نجيب الهلالي باشا ما ألغاه حلمي عيسى باشا، واستأنفت اللاتينية واليونانية حياتهما خصبة مبشرة بالخير في كلية الآداب.
فهذا كله على إيجازه يصور لك في وضوحٍ ما تلقاه اللاتينية واليونانية في مصر من المقاومة، وأنا مع ذلك مؤمن أشد الإيمان وأعمقه وأقواه بأن مصر لن تظفر بالتعليم الجامعي الصحيح ولن تفلح في تدبير بعض مرافقها الثقافية الهامة إلا إذا عنيت بهاتين اللغتين، لا في الجامعة وحدها بل في التعليم العام قبل كل شيء، والأدلة على ذلك تظهر لي يسيرة هينة، وجلية واضحة، ومن أغرب الأشياء في نفسي وأبعدها عن فهمي ألا يفطن لها ولا يهتدي إليها الذين ينهضون بشئون مصر ويقومون على تدبير أمورها والذين يشرفون على التعليم فيها بنوعٍ خاص، وأكبر الظن أن مصدر هذا إنما هو أن الجيل الحاكم والمرتقي إلى الحكم لا يتقن العلم بالشئون الثقافية في أوروبا، ولا يكاد يعرف منها إلا ظواهرها، وظواهرها القريبة اليسيرة التي لا يحتاج فهمها ولا العلم بها إلى جهدٍ ولا عناء، منهم من تعلم في المدارس المصرية وانتهى إلى غاية التعليم العالي المصري أيام الاحتلال، ثم وقف عند ذلك ولم يتجاوزه، فلم يعرف من حقيقة التعليم شيئًا أو لم يكد يعرف منه شيئًا، ثم دفع إلى شئون الحياة العامة فجاهد فيها منتصرًا حينًا ومهزومًا حينًا آخر، وشغل بهذا الجهاد السياسي عن غيره من الشئون، وانتهى به الأمر إلى أن اعتقد أن السياسة هي كل شيء، وأن مقاومة الإنجليز ومخاصمة الأحزاب هما أقصى ما ينتهي إليه جهد الرجل المصلح في هذا الطور من أطوار الحياة المصرية، ومنهم من اتصل بالجامعات الأوروبية قبل أن يتم التعليم العالي في مصر أو بعد أن أتمه، فدرس فيها وظفر ببعض إجازاتها، ولكنه درس فيها عجلًا، وظفر بأيسر إجازاتها وأهونها، وانتفع في هذا كله بنظام المعادلات التي تقره الجامعات الأوروبية لتيسر على الأجانب الاختلاف إليها وترغبهم في الاتصال بها، وتنشر بهذا كله الدعوة لبلادها وتعليمها وإجازاتها في البلاد الأجنبية.
ومن هؤلاء من أرسلتهم وزارة المعارف نفسها إلى أوروبا وقد رسمت لهم مناهج الدرس فيها وبرامجه، وعينت لهم الجامعات والمدارس التي يتصلون بها والدرجات والإجازات التي يجب أن يحصلوا عليها، وحسبك بوزارة المعارف حين ترسم المناهج والبرامج وتختار الجامعات والمدارس وتعين الدرجات والإجازات وهي إلى الآن لا تزال تجهل من أمور التعليم العالي في أوروبا أكثر جدًّا مما تعلم، وقد كانت قبل الاستقلال خاضعة لسلطان الإنجليز وكان أبغض شيء إلى الإنجليز أن يتصل المصريون بالتعليم الأوروبي العالي، فلما أُكرهوا على أن يخلُّوا بين المصريين وبين ذلك رسموا لهم المناهج والبرامج مضيقين لا موسعين ومخادعين لا ناصحين، وما زلنا نذكر ذلك العهد الذي كان المصريون يبتهجون فيه أشد الابتهاج حين يظفر أحدهم بأيسر الدرجات الجامعية في أوروبا، والذي كانت تقنع فيه وزارة المعارف بالدبلومات أولًا ثم بالبكالوريوس بعد ذلك، والذي كانت تسخط فيه وزارة المعارف أشد السخط وأقساه على الذين يعجبهم العلم وتخلبهم الدرجات الجامعية، فيتجاوزون أو يحاولون أن يتجاوزوا ما رُسم لهم من خطةٍ وما وُضع لهم من منهاج.
وقد عاد هؤلاء جميعًا من أوروبا وتولوا الأمور العامة في مصر وهم لا يعرفون من الحياة العقلية الأوروبية إلا ظواهرها وأشكالها، ومنهم من يعرف ذلك معرفة ناقصة مبتورة ولكنهم قد عرفوا الحياة الأوروبية المادية معرفة حسنة، واستمتعوا بلذاتها وطيباتها وقارنوا بينها وبين حياتنا المصرية الغليظة المهملة التي لا تخلو من خشونةٍ وشظف، والتي لا تخلو مع ذلك من لذةٍ ومتاع، فمنهم من قلد أوروبا فأسرف في التقليد، ومنهم من رجع إلى الحياة المصرية فأسرف في الرجوع وألقى عن نفسه الطلاء الأوروبي، ومنهم من توسط بين ذلك واختار لنفسه مزاجًا من الحياتين فيه لذة ومتاع وفيه ترف واستمتاع، وقليل جدًّا منهم من تأثر بالحياة العقلية الأوروبية وتعمقها في أثناء إقامته في أوروبا ثم احتفظ بهذا التأثر والتعمق بعد أن رجع إلى مصر. والمحقق أن أولئك وهؤلاء الذين تخرجوا في الجامعات الأوروبية أو تعلموا في المدارس المصرية لم ينظروا إلى التعليم نظرة التعمق والجد، وإنما أخذوه أخذًا رفيقًا لا يكلفهم جهدًا ولا يحملهم مشقة.
ثم أضف إلى هذا كله أن بين الذين ذهبوا إلى أوروبا وعادوا منها وبين الذين أقاموا في مصر واتصلوا بأوروبا بعض الاتصال من ألمَّ إلمامًا يسيرًا بل إلمامًا ناقصًا مشوهًا بهذه الخصومة التي قامت في أوروبا منذ أواخر القرن الماضي بين الديمقراطيين والمتطرفين من جهة، وبين المعتدلين والمحافظين من جهةٍ أخرى حول تعليم اللاتينية واليونانية.
قرءوا كتبًا ترجمها لهم فتحي زغلول — رحمه الله — وألفها جوستاف ليبون أو أدمون دي مولان، وقرءوا فصولًا ومقتطفات في الصحف والمجلات العربية والأجنبية، وقرءوا في تلك الكتب وهذه الفصول والمقتطفات أن فلانًا وفلانًا من الرجال الممتازين في السياسة والعلم بين الأوروبيين يمقتون اليونانية واللاتينية ويقاومون تعليمهما في المدارس ويؤثرون عليهما اللغات الحية من ناحية والعلوم التجريبية من ناحيةٍ أخرى؛ ففهموا ذلك على غير وجهه، واستقر في نفوسهم أن التجديد يقتضي بغض هذه الأشياء القديمة، وإيثار العلم التجريبي الذي يمكن من الاختراع والسيطرة على الطبيعة، واللغات الحية التي تنفع في التجارة وفي تدبير مرافق الحياة، ولم يخطر لهم أن يتعمقوا هذه الخصومة ولا أن يتبينوا موضوعها وغايتها، ولو قد فعلوا لعرفوا أن موضوع هذه الخصومة لم يكن ضرورة هاتين اللغتين للثقافة والحضارة، وإنما كان ضرورة فرض هاتين اللغتين على جميع التلاميذ الذين يختلفون إلى المدارس الثانوية ويتصلون بالتعليم العالي على اختلاف فروعه وألوانه، ولا سيما بعد أن انتشر التعليم وطمعت فيه الطبقات كلها؛ طبقات الأغنياء والفقراء وأوساط الناس.
كان موضوع الخصومة في حقيقة الأمر هذه المسألة: أيجب أن يُهيَّأ الناس جميعًا للعلم والتخصص ليصبحوا جميعًا قادة للرأي ومدبرين للأمور العامة، أم يجب أن يتهيأ بعضهم لحياة العلم والتخصص، وأن يُهيَّأ أكثرهم للحياة العاملة التي تيسر لهم الاضطراب في طلب الرزق وكسب القوت؟ فإن تكن الأولى فلا بد من اللاتينية واليونانية؛ لأنهما أساس من أسس العلم والتخصص، وإن تكن الثانية فكثرة الناس محتاجة إلى التعليم الفني من جهة، وإلى التعليم العام الحديث الذي يعرض عن اللاتينية واليونانية إلى اللغات الحية والعلوم التجريبية بشرط أن تظل اللاتينية واليونانية مفروضتين على كل من يريد العلم الخالص والتخصص فيه، وواضح جدًّا أن وضع المسألة على هذا النحو صحيح لا غبار عليه، وأن من الخطأ وإضاعة الوقت والجهد أن تُفرض اللاتينية واليونانية على كل من يختلف إلى المدارس العامة وإلى الجامعة؛ فإن كثرة هؤلاء لن يحتاجوا إلى هاتين اللغتين حين يعملون في مرافق الحياة اليومية، ولكن أصحابنا لم يقفوا عند شيءٍ من هذا ولم يفكروا فيه، وإنما أخذوا الأمور على ظاهرها واطمأنوا إلى أن اللاتينية واليونانية عبء ثقيل لا معنى لإرهاق الشباب به ولا لتحميلهم إياه.
وإذا كان الأوروبيون أنفسهم يريدون أن يتخلصوا منه وهم يتخلصون منه بالفعل مع أن هاتين اللغتين تتصلان بحياتهم ولغاتهم وحضارتهم أشد الاتصال، فما بالنا نحن نثقل أنفسنا به ونضطر أبناءنا إليه؟!
بهذا الحديث وفي لهجةٍ أشد من هذه اللهجة قوبلت حين طلبت إلى مجلس إدارة الجامعة المصرية القديمة إضافة هاتين اللغتين إلى مواد الدراسة في كلية الآداب، ولكني ألححت ومضيت في الإلحاح حتى أجابتني الجامعة القديمة إلى ما أردت لتستريح من إلحاحي عليها، لا لتحقق رأيًا اقتنعت به واطمأنت إليه، ومع ذلك فقد أجابتني ولم تجبني؛ فقررت تعليم هاتين اللغتين على هامش الدراسة الجامعية لا على أنهما جزء من المنهاج.
وبهذا الحديث قوبلت في الجامعة المصرية الحكومية وما أزال أُقابَل كلما طلبت التزيد من العناية بهاتين اللغتين في كلية الآداب.
ومن المحقق أن فرع الدراسات القديمة في كلية الآداب يحتمل احتمالًا ولا يقتنع بضرورته وفائدته إلا قلة من الجامعيين المصريين، والطريف أن وقتًا من الأوقات قد مضى على كلية الآداب كان فيه بعض الأساتذة من الإنجليز يؤيدون مقاومة هاتين اللغتين تأييدًا عنيفًا، وكان أشدهم غلوًّا في ذلك أستاذ من أساتذة ليفربول هو الأستاذ كوبلند الذي تخصص في تاريخ القرون الوسطى والذي تقوم حياته العلمية كلها على اللاتينية.
وأذكر أني حاورته ذات يوم في ذلك في أثناء جلسة من جلسات مجلس الكلية، فلما اشتد الحوار وكادت كفته ترجح سألته: أتعرف جامعة إنجليزية تُهمَل فيها اللغة اللاتينية؟ قال: لا. قلت: فما بالك تريد أن تكون الجامعة المصرية بدعًا من جامعاتكم؟ قال: لأن مصر لم تبلغ بعد أن تكون كإنجلترا. وكان جوابه هذا الصريح كافيًا لتحوُّل الكثرة عنه وانضمامها إليَّ.
والسؤال الذي يجب أن نلقيه وأن نجيب عنه في صراحةٍ وإخلاص وفي وضوحٍ وجلاء هو هذا السؤال: أنريد أن ننشئ في مصر بيئة للعلم الخالص تشبه أمثالها من البيئات العلمية في أي بلد من البلاد الأوروبية الراقية أو المتوسطة أم لا نريد؟ فإن كانت الثانية فقد خسرت القضية، وليست مصر في حاجةٍ إلى يونانية ولا إلى لاتينية، وليست مصر في حاجةٍ إلى الجامعة وإلى كلياتها، بل حسبها أن تعود إلى عهدها أيام الاحتلال، وأن تسير سيرة المستعمرات وتكتفي ببعض المدارس العالية لتخريج من تحتاج إليهم من الموظفين. وإن كانت الأولى فقد ربحت القضية، ولا بد من العناية بهاتين اللغتين لا في الجامعة وحدها بل في المدارس العامة أيضًا.
ويظهر أن مصر قد أجابت على هذا السؤال في صراحة وإخلاص وفي وضوح وجلاء منذ ثلاثين عامًا حين أنشأت — برغم الاحتلال وعلى كُرهٍ منه — جامعتها المصرية القديمة؛ فهي إنما أنشأت تلك الجامعة لترتفع بالشباب المصريين عن ذلك التعليم الآلي الذي فرضته عليهم الظروف، ولترقى بهم إلى تعليمٍ حر مستقل يهيئهم أو يهيئ بعضهم على الأقل ليكونوا علماء أحرارًا مستقلين، ومن أراد الغاية فقد أراد الوسيلة التي تؤدي إليها، وإلا كان عابثًا هازلًا كما قلنا ألف مرة ومرة، وكما يقول الناس جميعًا.
والظاهر أن مصر لا تريد أن تعبث ولا أن تهزل حين تقرر أنها تريد أن تكوِّن من شبابها علماء أحرارًا مستقلين، يشبهون أمثالهم في الأمم الأخرى ويثبتون لهم، ويشاركونهم في الإنتاج العلمي الحر المستقل الذي لا تقوم الحضارة بدونه ولا تستطيع أن تثبت ولا أن تنمو إلا إذا اتخذته لها أساسًا.
وإذَنْ فقد رسمت مصر لنفسها طريق الاستقلال العلمي، وفرضت على نفسها أن تجاري غيرها من الأمم الحية في ميدان العلم كما تجاريها في ميدان السياسة والاقتصاد.
وإذا كان كل هذا حقًّا فليس على مصر إلا أن تنظر إلى الأمم الحية الراقية كيف تسلك طريقها إلى تكوين العلماء الأحرار المستقلين، ثم تسلك نفس هذه الطريق التي تسلكها هذه الأمم؛ فإن فعلت ذلك كانت خليقة أن تُوفَّق إلى ما تريد، وإن لم تفعله ظلت كما هي عيالًا على أوروبا وإن خدعت نفسها بأوهام الاستقلال في العلم.
والغريب أن المثقفين جميعًا يضحكون منك، ويهزءُون بك إن زعمت لهم أننا نستطيع أن ندرس الطبيعة والكيمياء وغيرهما من العلوم التجريبية دون أن نحتاج إلى المعامل والأدوات التي يعتمد عليها الأوروبيون حين يدرسون هذه العلوم وحين يعلمونها للشباب؛ لأنهم يرون هذه المعامل والأدوات وسائل أساسية لا يستقيم بدونها درس العلوم التجريبية.
فإذا زعمت لهم أن هناك علومًا أخرى لا تحتاج إلى المعامل والأدوات ولكنها تحتاج إلى وسائل ليست أقل بالقياس إليها خطرًا من المعامل والأدوات بالقياس إلى العلوم التجريبية؛ لم يسمعوا لك ولم يفهموا عنك فضلًا عن أن يجيبوك إلى ما تدعوهم إليه.
وأغرب من ذلك أن هؤلاء المثقفين لا يترددون في الإيمان بأن العلوم التجريبية لا تستقيم للذين يدرسونها ويعلمونها إلا إذا أخذوا بحظوظٍ معقولة من الرياضة، فإذا زعمت لهم أن العلوم الأدبية لا تستقيم لأصحابها إلا إذا اتخذوا إليها وسائل تقع منها موقع الرياضة من العلوم التجريبية لم يسمعوا لك ولم يفهموا عنك فضلًا عن أن يجيبوك إلى ما تدعوهم إليه.
وأشد من هذا غرابة وأكثر منه ظُرفًا أن هؤلاء المثقفين لا يترددون في أن يُعلِّموا مبادئ الرياضة والعلوم التجريبية للذين يريدون أن يتخصصوا في العلوم الأدبية، بل في اللغة العربية نفسها، لا يرون بذلك بأسًا ولا يجدون فيه حرجًا، فإذا زعمت لهم أن هناك وسائل أمسَّ بالعلوم الأدبية من مبادئ الرياضة والطبيعة والكيمياء لم تلقَ منهم إلا إعراضًا وازورارًا، ولا نحب أن يُحمل كلامنا هذا على غير وجهه فنحن مؤمنون بأن مبادئ الرياضة والعلوم التجريبية لازمة لكل مثقفٍ؛ لأنها أصل من أصول الثقافة الحديثة، ولكنا مؤمنون أيضًا بأن هناك وسائل إلى العلوم الأدبية هي أشد بها مساسًا وأقوى بها صلة وألزم لها من مبادئ الرياضة والطبيعة والكيمياء، ومصدر هذا الازورار الذي تجده من المثقفين المصريين حين تذكر لهم اللاتينية واليونانية والإقبال الذي تجده منهم حين تذكر لهم الرياضة والعلوم التجريبية والمعامل والأدوات هي العادة لا أكثر ولا أقل؛ فهم قد نشئُوا على أن الرياضة والعلوم التجريبية من أصول الثقافة الحديثة، وهم قد نشئُوا على أن المعامل والأدوات لا بد منها لدرس الرياضة والعلوم التجريبية، فآمنوا بذلك إيمانًا لا يعرض له الشك، ولكنهم لم يتعلموا اللاتينية ولا اليونانية ولم يسمعوا بهما في أثناء اختلافهم إلى المدارس العامة، وقد رأوا مصر تعيش عيشتها الحديثة من غير هاتين اللغتين، فلم يترددوا فيما انتهوا إليه من الاقتناع بأن تعليم هاتين اللغتين تزيُّد لا حاجة إليه ولغو لا خير فيه، ومع ذلك فالحق علينا لهم ولمصر أن نصدقهم ونصدقها، وأن ننصح لهم وننصح لها، وأن ننبئهم بهذه الحقيقة الواقعة التي يستطيعون أن يمتحنوها ويتبينوا صحتها متى شاءوا وكيف شاءوا؛ وهي أن التعليم العالي الصحيح لا يستقيم في بلدٍ من البلاد الراقية إلا إذا اعتمد على اللاتينية واليونانية على أنهما من الوسائل التي لا يمكن إهمالها ولا الاستغناء عنها، وإنا لا نعرف جامعة خليقة بهذا الاسم في بلدٍ راقٍ خليقٍ بهذا الوصف لا تشترط اللاتينية واليونانية إحداهما أو كلتيهما على أنهما شرط أساسي لبعض الدراسات، وللدراسات الأدبية والفقهية بنوعٍ خاص.
فإذا لم يكن لنا بد من أن نسلك إلى الرقي العلمي سبيل غيرنا من الأمم فليس لنا بد من أن نُعلِّم هاتين اللغتين القديمتين لبعض الشباب المصريين الذين يهيئون أنفسهم لبعض فروع التعليم العالي، وإذا قصَّر التعليم العام في ذات هاتين اللغتين فقد عجز عن أداء مهمته ولم يحقق الغاية التي أُنشئ من أجلها والغرض الذي طُلِب إليه.
قد يقال إن هاتين اللغتين تُدرسان في كلية الآداب وهذا يكفي، فنقول: كلا، إنهما تدرسان في كلية الآداب وهذا لا يكفي، بل هو بعيد كل البعد عن الكفاية؛ فاللغات الحية الأوروبية تُدرس في كلية الآداب واللغة العربية تُدرس في كلية الآداب، ولم يَقُل أحد إن هذا يعفي التعليم العام من درس هذه اللغات وإعداد الطلاب لدرسها في التعليم العالي. والتاريخ والجغرافيا يدرسان في كلية الآداب ولم يَقُل أحد إن درسهما في هذه الكلية يعفي من إعداد الطلاب لهما في التعليم العام، ولا بد من أن نفطن لهذه البديهية التي لا نقف عندها عادة، وهي أن العلوم التي يتخصص فيها الطلاب حين يختلفون إلى الجامعة والتعليم العالي تنقسم قسمين: أحدهما ما يستأنف درسه استئنافًا في الجامعة والمدارس العليا دون أن يسبق درسه مبسطًا سهلًا في المدارس العامة كالحقوق، وكثير من العلوم التي تدرس في كلية الطب، ومنها ما تدرس أولياته ومقدماته في المدارس العامة ثم يترقى الطلاب المتخصصون في درسه حين يختلفون إلى الجامعة والمعاهد العليا كالتاريخ والجغرافيا واللغات؛ فدرس اللاتينية واليونانية في الجامعة لا يغني عن درسهما في المدارس العامة بل هو يستلزمه استلزامًا؛ ذلك أن الجامعة ليس من شأنها ولا من همها أن تُعلِّم أوليات هذه العلوم ومبادئ هذه اللغات، وإنما شأنها وهمها شيء آخر يعرفه المثقفون حق المعرفة؛ وهو تخصيص الطلاب في العلم وتمكينهم من التعمق والإنتاج فيه.
وما تشك الجامعة في أن المقدار الذي تعلمه الطلاب من اللاتينية واليونانية ضئيل لا يكاد يغني عنهم شيئًا، ولكنها مضطرة إلى أن تنهض بما لم ينهض به التعليم الثانوي تحقيقًا للمنفعة الوطنية العلمية ومضطرة في الوقت نفسه إلى أن تطالب التعليم العام بأن ينهض بواجبه ويهيئ الطلاب للدرس الجامعي الصحيح.
والنتيجة لهذا كله، النتيجة العملية التي لا بد من الانتهاء إليها هي؛ أولًا: أن في كلية الآداب فرعًا للدراسات اليونانية واللاتينية ودرجات لهذه الدراسات؛ هي الليسانس والماجستير والدكتوراه وأساتذة يعلمون هذه الدراسات، فلا بد من إعداد الطلاب في المدارس العامة لهذا الفرع. وثانيًا: أن التخصص في أي فرعٍ من فروع الدراسات الأدبية التخصص الصحيح لا سبيل إليه إلا إذا استعد الطلاب له بمعرفة اللاتينية دائمًا واليونانية أحيانًا، فلا بد من أن يهيأ الطلاب في المدارس العامة لهذا التخصص. وثالثًا: أن هناك مرافق مصرية أساسية يقوم عليها الأجانب منذ بدأت نهضتنا الحديثة، ونريد وتريد كرامتنا واستقلالنا أن نهيئ شبابنا للقيام على هذه المرافق في يومٍ من الأيام.
فمصلحة الآثار المصرية يقوم عليها الأجانب إلى الآن، ولا بد من أن ينهض المصريون وحدهم بأعبائها في يومٍ من الأيام، ولا سبيل إلى ذلك إلا إذا وُجد المصريون الذين يحسنون هاتين اللغتين القديمتين قبل أن يبدءوا تخصصهم في علوم الآثار، وإنه لمن المؤلم أن نضطر الطلاب المصريين في معهد الآثار إلى تعلم اليونانية واللاتينية مع ما يدرسونه من اللغة المصرية القديمة واللغة القبطية والتاريخ المصري على اختلاف فروعه والآثار المصرية على اختلاف فنونها، وتاريخ مصر نفسه قد نهض بكتابته الأجانب إلى الآن، ولم يشارك المصريون مشاركة خصبة منتجة إلا في تاريخها الحديث، فأما تاريخها القديم وتاريخها أيام اليونان والرومان وتاريخها في العصور الإسلامية فما زال المصريون فيه مبتدئين، والذين ابتدءُوا منهم درس هذه الأقسام من تاريخنا الوطني إنما ابتدءُوه في كلية الآداب وبعد أن تعلموا اللاتينية واليونانية.
وإذَنْ فالذين يدعون إلى إحياء التاريخ المصري والقومية المصرية يجب أن يدعوا إلى هذا جادين، وأن يدعوا إليه عن بصيرةٍ وفهم، وأن يدعوا في الوقت نفسه إلى اتخاذ الوسائل إلى تحقيقه، ومن أهم الوسائل إلى تحقيقه إتقان هاتين اللغتين، وإنه لمن المحرج أن نضطر إلى تقرير الأوليات وأن نعيد القول ونبدأه في أن العلاقة بين مصر واليونان قديمة جدًّا وأن اليونان قد صوروا هذه العلاقة فيما كتبوا وما أنشئوا، ومن أن مصر قد خضعت للسلطان اليوناني والروماني وما نشأ عنهما من النظم عشرة قرون لا نستطيع أن نلغيها من تاريخنا الوطني، ومصادر تاريخها يونانية ولاتينية، ومن أن مصر قد اتصلت في عصورها الإسلامية بالبيزنطيين من جهةٍ وبأوروبا الغربية من جهةٍ أخرى، ومصادر التاريخ لهذا الاتصال يونانية ولاتينية.
فالذين يمانعون في تعليم اليونانية واللاتينية عندنا يجب أن يرووا ويفكروا ويراجعوا أنفسهم؛ لأن معنى هذه المقاومة إنما هو القضاء على المصريين، بأن يجهلوا تاريخهم وألا يعرفوه إلا من طريق الأجانب.
وما أظن أن بين دعاة الوطنية المصرية والقومية المصرية من يطمئن إلى هذا الخزي المبين.
كل هذا ولم أتحدث ولن أتحدث عن أثر هاتين اللغتين في تكوين العقل وتقويمه وتثقيفه وإعداده للتفكير المستقيم؛ فإن هذا الحديث إن ذهبت إليه لم يُفهَم عني؛ لأن فهمه يقتضي معرفة هاتين اللغتين وممارستهما وابتلاء آثار المعرفة والممارسة، والذين يعرفون هاتين اللغتين في مصر يمكن إحصاؤهم على أصابع اليد الواحدة أو على أصابع اليدين.
وقد خضعت فرنسا كما خضع غيرها من الأمم الأوروبية في هذا العصر الحديث للخصومة بين أصدقاء هاتين اللغتين وأعدائهما، ولكن النظام المقرر في فرنسا والذي لا يفرط فيه أحد من الأصدقاء والأعداء لهاتين اللغتين، هو أن من أراد أن يهيئ نفسه للنهوض بأعباء التعليم في المدارس العامة وفي الجامعات فلا بد له من إتقان اللاتينية مهما تكن المادة التي يريد أن يتخصص فيها، ولا بد من إتقان اليونانية مع اللاتينية بالقياس إلى بعض المواد.
وليس في فرنسا اليوم ولن يكون فيها غدًا ولا بعد غد معلم في المدارس العامة، أو أستاذ في الجامعة لا يحسن اللاتينية وكثير منهم يحسن اليونانية أيضًا، والمشرفون على التعليم في فرنسا الآن وهم من الديمقراطيين الذين حاربوا هاتين اللغتين يميلون أشد الميل إلى فرض اليونانية على كل من يريد إجازة التعليم في الدراسات الأدبية على اختلافها.
وما أظن الأمر يختلف في إنجلترا وألمانيا وإيطاليا عنه في فرنسا، بل قد شهدت أكثر من هذا في مؤتمر التعليم الذي عُقد في باريس في أثناء الصيف الماضي، شهدت ناظر مدرسة الهندسة في زوريخ يدعو إلى أن تُفرض اللاتينية واليونانية إحداهما أو كلتاهما على الذين يريدون أن يتخصصوا في الهندسة، فالطريق أمام مصر واضحة، وهي حرة في أن تسلكها إن أرادت الاستقلال العلمي، وفي أن تتجنبها إن رضيت لنفسها ما هي عليه الآن من الهوان والاستخذاء أمام الأوروبيين.