سُبُل تعليم هاتين اللغتين في التعليم العام
وتسألني — ومن حقك أن تسألني — كيف السبيل إلى تعليم هاتين اللغتين في المدارس العامة ونحن نشكو من ثقل المناهج والبرامج ونلح في الترفيه على التلاميذ؟ وهذا صحيح، ولكني لا أريد أن أزيد المناهج ثقلًا إلى ثقل، ولا أريد أن أشق على التلاميذ، وإنما أريد أن أرفق بهم وأرفه عليهم.
ذلك بأني لا أريد أن أفرض اللاتينية واليونانية على التلاميذ كافة، وإنما أريد أن أبيحهما لمن أرادهما ليس غير، وأن أشجع بعض التلاميذ على اختيارهما بما يتاح لي من ألوان التشجيع، وأريد في الوقت نفسه أن أعفي الذي يختارهما من إحدى اللغتين الحيتين في أثناء اختلافه إلى المدارس العامة.
ومعنى ذلك أني أريد أن أنوِّع التعليم الثانوي من أوله، وأن أمنحه شيئًا من المرونة والسهولة واليسر، وأمنح التلاميذ وأُسَرهم شيئًا من الحرية والاختيار؛ فإذا بدأ التلميذ دراسته الثانوية فأنا أُخيِّره بين ثلاثة أنواع من التعليم، أحدهما: التعليم الذي يعتمد على اللغات الحية والذي يتجه بعد الثقافة العامة اتجاهًا رياضيًّا أو علميًّا. والثاني: التعليم الذي يعتمد على اللاتينية واليونانية ويتجه بعد الثقافة العامة إلى الدراسات الأدبية على اختلافها. والثالث: التعليم الذي يعتمد على اللغة العربية ويتجه بعد الثقافة العامة إلى الدراسة الأدبية العربية الخالصة. وأنا أسمع في أثناء إملائي هذه الكلمات صياح الصائحين وأحس هياج الهائجين، وأشعر بما سيثور من سخط، ولكني مع ذلك مقتنع بما أقول، مؤمن بصواب ما أدعو إليه، مُلحٌّ في هذه الدعوة، غير حافل بالرضا ولا بالسخط، ولا معنيٍّ إلا بما أعتقد أنه يحقق المنفعة الثقافية للمصريين.
هذا التنويع الذي أدعو إليه سيعتمد على هذا النظام السهل اليسير الذي أعرضه عليك الآن والذي ستنكره وزارة المعارف في أكبر الظن، ولكنها ستنتهي إليه في وقتٍ من الأوقات بعد أن تُضيِّع كثيرًا من الجهد والوقت والمال، وبعد أن تضطرها إليه ظروف الحياة المصرية اضطرارًا.
أنا أقسم المواد التي تدرس في المدارس العامة قسمين: أحدهما فرض على التلاميذ جميعًا؛ لأنه قوام الثقافة العامة لكل مثقف مستنير، من هذا القسم: التاريخ والجغرافيا واللغة الوطنية والرياضة والعلوم التجريبية كالطبيعة والكيمياء وعلم الحياة. والآخر ما يجوز أن يختلف فيه التلاميذ وهو اللغات الأجنبية وآدابها، فكل من أراد أن يهيئ نفسه بعد الثقافة العامة للدراسات الرياضية أو للدراسات الفنية في المدارس الخاصة فرضت عليه مع هذا المقدار المشترك لغتين حيتين يختارهما بين الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، وكل من أراد أن يهيئ نفسه بعد الثقافة العامة للتخصص في اللغة العربية وآدابها فرضت عليه التعمق في درس اللغة العربية والثقافة الإسلامية وإتقان لغة أوروبية حية، وخيَّرته بين إحدى هاتين اللغتين الشرقيتين العبرية والفارسية، وكل من أراد أن يهيئ نفسه بعد الثقافة العامة للدراسات الأدبية المختلفة كالتاريخ والجغرافيا والفلسفة والآداب الخالصة لإحدى اللغات فرضت عليه اللغة اللاتينية ولغة أجنبية حية، وخيَّرته بين اللغة اليونانية ولغة أوروبية أخرى. وينشأ من هذا النظام أولًا: أن يتنوع التعليم العام وألا يُخرج لنا شبابًا يشبه بعضهم بعضًا قد صُبُّوا في قالبٍ واحد وصيغوا صيغة واحدة، ثانيًا: أن يخرج لنا التعليم العام شبابًا تجد الجامعة بينهم كل من تريد، وقد أُعِدوا لها إعدادًا حسنًا، تجد بينهم كلية العلوم والطب والهندسة والزراعة طلابًا يحسنون لغتهم الوطنية ويحسنون معها لغتين أجنبيتين، وتجد كلية الحقوق والآداب والتجارة طلابًا مختلفين: منهم من يتهيأ للحياة العملية التجارية والاقتصادية فهو يحسن لغتين أجنبيتين إلى لغته الوطنية وقد هُيِّئ تهيئة ثقافية صالحة، ومنهم من يريد التعمق في العلوم الأدبية أو الفقهية وقد أُعِد لهذا إعدادًا حسنًا بما تعلم من اللغات القديمة والحديثة، ومنهم من يريد التعمق في درس اللغة العربية وآدابها وقد أُعِد لذلك إعدادًا حسنًا بما تعلم من لغة أوروبية وما تعلم من العبرية إن أراد التخصص في فقه اللغة، ومن الفارسية إن أراد التخصص في آداب اللغة. ثالثًا: أن يخرج لنا التعليم العام شبابًا قد مُكِّنوا من وسائل التعليم العالي تمكينًا حسنًا فلا تحتاج الكليات إلى أن تعلمهم هذه الوسائل ولا أن تنفق ما تنفق من الجهود والمال لتعليم هذه اللغات التي لا يجب أن تُعنَى من تعليمها إلا بناحية التخصص في فقهها وآدابها.
وأخيرًا ينشأ عن هذا النظام تجديد خطير للتعليم العام يخرجه من جموده السقيم العقيم، ويشيع فيه النشاط والقوة والحياة، وحسبك أنه يُدخل في التعليم الثانوي لغتين حيتين جديدتين ويُدخل فيه اللاتينية واليونانية، ويُدخل فيه لغتين شرقيتين هما: الفارسية والعبرية، ويجعله قادرًا حقًّا على أن يعد الطلاب للتعليم الجامعي.