تعليم اللغة العربية واللغات الشرقية
وأنا أعلم أن هذا النظام الذي أقترحه سيثير اعتراضًا شديدًا من ناحيتين، فأما إحداهما فقد فرغت منها فيما أظن وهي تعليم اليونانية واللاتينية، وما أرى أني في حاجة إلى أن أعيد الكلام فيها.
وأما الثانية فإني أتعجل الوصول إليها والوقوف عندها وهي هذه التي تتصل باللغة العربية وإعداد فريق من الطلاب للتخصص فيها، والتي تستتبع هذا البدع الغريب وهو إدخال بعض اللغات الشرقية في مناهج التعليم العام. ولنسلك إلى حل هذه المشكلة — مشكلة اللغة العربية وتعليمها — طريقنا التي تعودنا أن نسلكها، فنتبين الغرض الذي نقصد إليه من تعليم اللغة العربية بوجهٍ عام، ومن إعداد المعلمين بوجهٍ خاص، ونتبين الاتجاه الذي ينبغي أن نتجهه في هذين الأمرين جميعًا؛ فإن هذا سينتهي بنا آخر الأمر إلى أن النظام الذي نقترحه معقول لا غرابة فيه، بل إلى أنه النظام الذي نحن منتهون إليه في وقتٍ قريب أو بعيد، سواء أردنا ذلك أم لم نرده؛ لأن ظروف الحياة نفسها ستضطرنا إليه اضطرارًا.
وأول سؤال يجب أن نلقيه ونحاول الجواب عليه هو هذا السؤال: لماذا نعلِّم اللغة العربية في المدارس العامة وفي غيرها من المدارس؟ وما أظن أننا نستطيع أن نجيب على هذا السؤال إلا بجواب واحد وهو أن اللغة العربية هي لغتنا الوطنية، فنحن نتعلمها ونعلمها؛ لأنها جزء مقوم لوطنيتنا ولشخصيتنا القومية لأنها تنقل إلينا تراث آبائنا وتتلقى عنا التراث الذي ستنقله إلى الأجيال المقبلة، ثم لأنها الأداة الطبيعية التي نصطنعها في كل يوم بل في كل لحظة ليفهم بعضنا بعضًا، وليعاون بعضنا بعضًا على تحقيق حاجاتنا العاجلة والآجلة، وعلى تحقيق منافعنا الخاصة والعامة، وعلى تحقيق مهمتنا الفردية والاجتماعية في الحياة إن كانت لنا مهمة في الحياة، ونحن نصطنع هذه الأداة ليفهم بعضنا بعضًا كما قلنا ولنفهم أنفسنا أيضًا، فنحن إنما نشعر بوجودنا وبحاجاتنا المختلفة وعواطفنا المتباينة وميولنا المتناقضة حين نفكر، ومعنى ذلك أننا لا نفهم أنفسنا إلا بالتفكير، ونحن لا نفكر في الهواء ولا نستطيع أن نعرض الأشياء على أنفسنا إلا مصورة في هذه الألفاظ التي نقدرها، ونديرها في رءوسنا ونُظهِر منها للناس ما نريد، ونحتفظ منها لأنفسنا بما نريد.
فنحن إذَنْ نفكر بهذه اللغة، ونحن إذَنْ لا نغلو إن قلنا إنها ليست أداة للتعامل والتعاون الاجتماعيين فحسب، وإنما هي أداة للتفكير والحس والشعور بالقياس إلى الأفراد من حيث هم أفراد أيضًا. وإذا كان هذا حقًّا فنحن نتعلم اللغة العربية ونُعلِّمها لأنها ضرورة من ضرورات حياتنا الفردية والاجتماعية، ووسيلة أساسية إلى منافعنا مهما تختلف قربًا وبعدًا ويسرًا وعسرًا، وسهولة وتعقيدًا، وإذَنْ فنحن لا نتعلم اللغة العربية ولا نعلمها لأنها لغة الدين فحسب، وإنما نتعلمها ونعلمها لأنها أوسع من ذلك وأشمل وأعم، ونحن لا نتعلم اللغة العربية ونعلمها لأنها لغة القدماء من العرب والمستعربين، وإنما نتعلمها ونعلمها لأنها لغتنا ولأنها لغة الأجيال المقبلة أيضًا، أو لأننا نريد أن تظل لغة لهذه الأجيال.
وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون، وليست أقل منا إيثارًا لدينها ولا احتفاظًا به ولا حرصًا عليه، ولكنها تقبل في غير مشقة ولا جهد أن تكون لها لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها وتصطنعها لتأدية أغراضها، ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخاصة التي تقرأ فيها كتبها المقدسة وتؤدي فيها صلاتها؛ فاللاتينية مثلًا هي اللغة الدينية لفريق من النصارى، واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر، والقبطية هي اللغة الدينية لفريقٍ ثالث، والسريانية هي اللغة الدينية لفريقٍ رابع، وهذه الأجيال من الناس نصرانية تؤمن بدياناتها كما نؤمن نحن بالإسلام، لا يمنعها من ذلك أنها تتكلم في حياتها العادية والعقلية لغات أخرى غير هذه اللغات المقدسة، وبين المسلمين أنفسهم أمم لا تتكلم العربية ولا تفهمها ولا تتخذها أداة للفهم والتفاهم، ولغتها الدينية هي اللغة العربية، ومن المحقق أنها ليست أقل منا إيمانًا بالإسلام وإكبارًا له، وذيادًا عنه وحرصًا عليه.
فالذين يزعمون لنا أننا نتعلم اللغة العربية ونعلمها لأنها لغة الدين فحسب ثم يرتبون على ذلك ما يرتبون من النتائج العلمية والعملية إنما يخدعون الناس، وليس ينبغي أن تقوم حياة الأمم على الخداع.
اللغة العربية لغة الدين، هذا حق، وهذا خير للذين يتكلمون هذه اللغة، ولكنه يجب أن يكون خيرًا خالصًا بريئًا من كل شيء، بريئًا من كل حرج، بريئًا من كل تقييد للحرية المعقولة، بريئًا من كل ما يدعو إلى الجمود أو يورط فيه؛ لأن الدين نفسه بريء من هذا كله.
وإذا كان هذا كله حقًّا — وهو حق لا شك فيه — فإن اللغة العربية ليست ملكًا لرجال الدين يؤمنون وحدهم عليها، ويقومون وحدهم من دونها، ويتصرفون وحدهم فيها، ولكنها ملك للذين يتكلمونها جميعًا من الأمم والأجيال، وكل فرد من هؤلاء الناس حر في أن يتصرف في هذه اللغة تصرف المالك متى استوفى الشروط التي تبيح له هذا التصرف، وإذَنْ فمن السخف أن يُظنَّ أن تعليم اللغة العربية وقف على الأزهر الشريف والأزهريين، وعلى المدارس والمعاهد التي تتصل بينها وبين الأزهر والأزهريين أسباب طوال أو قصار، هذا أسخف لأن الأزهر لا يستطيع أن يفرض نفسه على الذين يتكلمون اللغة العربية جميعًا وفيهم المسلم وغير المسلم، وهذا سخف لأن بيئات أخرى غير الأزهر قد تعلمت اللغة العربية وعلَّمتها، وبعض هذه البيئات إسلامي وبعضها غير إسلامي، وهذا سخف لأن علوم اللغة العربية قد نشأت وتمت نشأتها، ونضجت وتم نضجها، وآتت ثمرها حلوًا شهيًّا قبل أن يوجد الأزهر وقبل أن يفكر فيه منشئه. وما كان الذين وضعوا علوم اللغة العربية أزهريين، وما كان الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد، وما كان الكسائي والفراء وثعلب، وما كان الجاحظ وقدامة، وما كان الأزهري والجوهري؛ أزهريين من قربٍ ولا من بُعدٍ، بل ما كان الذين وضعوا هذه الكتب التي يدرس فيها الأزهر علوم اللغة العربية في كثرتهم أزهريين من قربٍ ولا من بُعدٍ.
فالذين يزعمون أن الأزهر وحده هو الأمين أو هو الذي يجب أن يكون أمينًا على اللغة العربية إنما يرون سخفًا من الرأي، ويقولون سخفًا من القول، لا يعتمدون في ذلك على الدين؛ لأن الدين لا يقصر حماية اللغة العربية على فريقٍ من الناس دون فريق، ولأن كثرة الذين وضعوا علوم اللغة العربية وأنضجوها لم يكونوا من رجال الدين، ولا يعتمدون على التاريخ؛ لأن الأزهر طرأ على علوم اللغة العربية بعد أن أزهرت وأثمرت ولم تطرأ علوم اللغة العربية على الأزهر، ولأن الأزهر حفظ هذه العلوم ولكنه لم يُنمِّها ولم يُضِف إليها شيئًا ذا خطر، فله الشكر على ما حفظ من هذه العلوم، وله الحق في أن يشارك في حفظها وتنميتها والإضافة إليها، ولكنه لن يمكن من احتكارها والاستئثار بها دون غيره من المعاهد والبيئات.
وإذَنْ فما دامت اللغة العربية لغة الحياة كلها بالقياس إلى أصحابها لا لغة الدين وحده فيجب أن يكون شأنها شأن مرافق الحياة جميعًا، ويجب أن ترد إلى الدولة والأفراد الحرية التامة في أن يمنحوها من العناية ما يجب أن يمنحوه للمرافق العامة وللتي تمس منها حياتنا العقلية بوجهٍ خاص.
وإذَنْ فليس على الدولة بأس أن تتولى هي تعليم اللغة العربية والإعداد لهذا التعليم، وليس عليها جناح أن تجدد هذا التعليم وتجعله ملائمًا لحاجات الحياة العقلية والعملية في العصر الحديث.
ومن الواضح أننا نقول هنا أشياء أولية يسيرة لا معنى لتقريرها ولا لإقامة الأدلة عليها، ولكن الغريب أن هذه الحقائق اليسيرة الأولية لم تتضح بعدُ للمشرفين على الأمور في مصر، أو هي قد اتضحت في عقولهم وقلوبهم ولكنهم لا يجدون الشجاعة على مواجهتها والإقبال عليها في جدٍّ وقوة وحزم، فهم يخافون من الأزهر كلما ذكر تعليم اللغة العربية، وهم يخافون من الأزهر كلما ذكر إصلاح علوم اللغة العربية، بل هم يخافون من الأزهر كلما ذكرت اللغة العربية، كأن الأزهر سبع من هذه السباع الضارية قد قام دون اللغة العربية فاغرًا فاه مُهيِّئًا أظفاره لا يسمح لأحدٍ أن يدنو منها أو يمسها بالإصلاح إلا إذا رضي عن ذلك وأذن فيه.
وأغرب من ذلك وأشد منه خطرًا أن المشرفين على الأمور في مصر والمشرفين على التعليم خاصة يؤمنون فيما بينهم وبين خاصتهم إذا خلوا إليهم بأن احتكار الأزهر للإشراف على اللغة والقيام دونها يضر أكثر مما ينفع، ويفسد أكثر مما يصلح؛ لأن الأزهر لم يتهيأ بعدُ للنهوض بهذه المهمة الخطيرة حسبما تقتضيه الحياة الحديثة، فلا هو كسب من حرية الرأي ولا هو حصل من العلم الحديث، ولا هو عرف من اللغات السامية، ولا هو أتقن من علوم اللغة العربية نفسها ولا آدابها ما يؤهله لهذا الإشراف فضلًا عن أن يجعل إشرافه نافعًا مفيدًا، فالأزهر لا يعرف من تطور اللغات الأجنبية حديثها وقديمها شيئًا، بل هو لا يكاد يعرف من هذه اللغات نفسها شيئًا، والأزهر يجهل اللغات السامية جهلًا تامًّا، والأزهر لا يكاد يتجاوز كتبه المعروفة العقيمة إلى كتب القدماء في اللغة العربية وآدابها وعلومها إلا قليلًا، وهو مع ذلك يريد أن يشرف على علوم اللغة العربية ويقوم دونها ويحول دون إصلاحها، ويحتكر لنفسه تعليمها، ويجد من المشرفين على الأمر في مصر من يظاهرونه على ذلك، لا لأنهم يؤمنون بأن فيه نفعًا للغة العربية وأصحابها، ولا لأنهم يؤمنون بأن في الخلاف عن ذلك تعرضًا للدين أو مساسًا به، بل لأنهم يرهبون أو يرغبون؛ يرهبون أن يُتَّهموا بالخروج على الدين، مع أننا قد انتهينا إلى عصرٍ يجب أن تكسد فيه سوق التجارة باتهام الناس بالخروج على الدين، ويرغبون في تأييد الأزهر لهم باسم الدين، مع أننا قد انتهينا إلى عصرٍ يجب ألا يصطنع الدين فيه أداة للترغيب والترهيب.
ليس إذَنْ من الضروري ولا من النافع أن يتولى الأزهر وحده أو مع المدارس التي تتصل به من قربٍ أو من بعدٍ تعليم اللغة العربية وإعداد المعلمين لها، وإنما يجب أن يئول ذلك إلى الدولة، ويجب أن تتخذ الدولة العدة له كما هي الحال في غير مصر من البلاد، فليس رجال الدين هم الذين يعلمون اللاتينية واليونانية في أوروبا بحجة أن هذه أو تلك لغة الدين في هذا الشعب أو ذاك، وإنما تعلم اللاتينية واليونانية في المدارس المدنية، ويُهيَّأ لهما المعلمون المدنيون، ومع ذلك فليست اللاتينية واليونانية القديمة لغة الحياة، فكيف باللغة العربية التي هي لغتنا في حياتنا العادية والعقلية؟ يجب إذَنْ أن نعرض عن هذه الأسطورة التي بَعُد عليها العهد وأخنى عليها الذي أخنى على لبد، وأن ننظر إلى اللغة العربية نظرة مدنية صريحة، وأن نعالج أمورها كلها على هذا النحو في غير ترددٍ ولا اضطراب، وفي غير خوفٍ ولا إشفاق.
وإذا كان من حق الدولة ومن الحق عليها أن تعد المعلمين للغة العربية كما تعد المعلمين للتاريخ والجغرافيا والطبيعة والكيمياء، فقد يجب عليها أن تسلك إلى هذا الإعداد سبيلها المعقولة، وهي أن تبدأ بهذا الإعداد لا في الجامعة، ولا في دار العلوم، ولا في معهد التربية، بل في مدارس التعليم العام وفي التعليم الثانوي خاصة، ومن أجل هذا اقترحنا على الدولة هذا النظام الذي عرضناه آنفًا، والذي يقتضي أن نبدأ العناية باللغة العربية لمن يريد التخصص فيها منذ أول التعليم الثانوي، فيكون التعمق فيها وفيما يتصل بها من الثقافات، ثم يكون إعداد التلاميذ لنوعين من هذا التخصص: أحدهما التخصص في فقه اللغة، ونريد به هنا العلوم اللغوية على اختلافها، ويكون الاستعداد له بالبدء في درس بعض اللغات السامية منذ التعليم الثانوي؛ ليمكن التوسع والتعمق في ذلك في أثناء التعليم العالي، والآخر التخصص في آداب اللغة، ويكون الاستعداد له بالبدء في درس اللغة الإيرانية منذ التعليم الثانوي ليكون التوسع في هذا الدرس والإضافة إليه في أثناء التعليم العالي أيضًا. وقد لاحظت أننا نفرض على المتخصص في اللغة العربية لغة أوروبية حية، لا نكتفي منه بأن يلم بها إلمامًا بل نريده على أن يتقنها إتقانًا لسببٍ يسير، وهو أنا لا نستطيع أن نتصور معلمًا لأي مادةٍ من مواد الدرس في التعليم العام يجهل الحياة الأوروبية ويعجز عن أن يتصل بها اتصالًا مباشرًا من طريق لغة من لغاتها الكبرى.
وقد نعود إلى هذا الموضوع في أثناء هذا الحديث في فرصة أخرى، ولكن هناك مسألة تمس تعليم اللغة العربية ولا بد من الوقوف عندها والإلمام بها وإن كان ذلك قد يغيظ فريقًا من الناس.