ما اللغة العربية التي تتولى الدولة تعليمها
ما هذه اللغة العربية التي نريد أن نعلِّمها في المدارس العامة والخاصة، والتي نطالب الدولة بأن تتولى بنفسها إعداد المعلمين لها منذ التعليم العام؟ وعلى أي نحوٍ نريد أن نعلمها؟
أريد هنا أن يطمئن المحافظون عامة والأزهريون خاصة أشد الاطمئنان وأقواه؛ فاللغة العربية التي أريد أن تُعلَّم في المدارس على أحسن وجه وأكمله هي اللغة الفصحى لا غيرها، هي لغة القرآن الكريم والحديث الشريف، وهي لغة ما أورثنا القدماء من شعر ونثر، ومن علمٍ وأدب وفلسفة، نعم، وأحب أن يعلم المحافظون عامة والأزهريون خاصة — إن كانوا لم يعلموا بعد — أني من أشد الناس ازورارًا عن الذين يفكرون في اللغة العامية على أنها تصلح أداة للفهم والتفاهم، ووسيلة إلى تحقيق الأغراض المختلفة لحياتنا العقلية. قاومت ذلك منذ الصبا ما وسعتني المقاومة، ولعلي أن أكون قد وُفِّقت في هذه المقاومة إلى حدٍّ بعيد، وسأقاوم ذلك فيما بقي لي من الحياة ما وسعتني المقاومة؛ لأني لا أستطيع أن أتصور التفريط، ولو كان يسيرًا، في هذا التراث العظيم الذي حفظته لنا اللغة العربية الفصحى، ولأني لم أومن قط ولن أستطيع أن أومن بأن للغة العامية من الخصائص والمميزات ما يجعلها خليقة بأن تسمى لغة، وإنما رأيتها وسأراها دائمًا لهجة من اللهجات قد أدركها الفساد في كثيرٍ من أوضاعها وأشكالها، وهي خليقة أن تفنى في اللغة العربية الفصحى إذا نحن منحناها ما يجب لها من العناية فارتفعنا بالشعب من طريق التعليم والتثقيف، وهبطنا بها هي من طريق التيسير والإصلاح إلى حيث يلتقيان في غير مشقة ولا جهد ولا فساد.
وأنا من أجل هذا أدعو إلى أن تتولى الدولة إعداد المعلمين لها على النحو الذي قدمته، وأنا من أجل هذا أدعو إلى أن تتولى الدولة بواسطة العلماء القادرين إصلاح علومها وتيسيرها والملاءمة بينها وبين الحياة الحديثة والعقل الحديث، وأنا نذير للذين يقاومون هذا الإصلاح بخطرٍ منكر ما أرى أنهم يحبونه أو يطيقونه أو يسعون إليه أو يرغبون فيه، وهو أن اللغة العربية الفصحى إذا لم ننل علومها بالإصلاح صائرة — سواء أردنا أم لم نُرِد — إلى أن تصبح لغة دينية ليس غير، يحسنها أو لا يحسنها رجال الدين وحدهم ويعجز عن فهمها وذوقها فضلًا عن اصطناعها واستعمالها غير هؤلاء السادة من الناس.
بل إن هذا النذير إن لم يكن قد تحقق بالفعل فإن تحققه قريب أقرب مما يظن هؤلاء السادة، فلغة العربية في مصر لغة إن لم تكن أجنبية فهي قريبة من الأجنبية، لا يتكلمها الناس في البيوت، ولا يتكلمها الناس في الشوارع، ولا يتكلمها الناس في الأندية، ولا يتكلمها الناس في المدارس، ولا يتكلمونها في الأزهر نفسه أيضًا، ولعل الأزهر أقل المعاهد والبيئات اصطناعًا لها وسيطرة عليها، إنما يتكلم الناس في هذه البيئات كلها لغة تقرب منها قليلًا أو كثيرًا، ولكنها ليست إياها على كل حال. وفي الشرق العربي جماعة من المثقفين تحسن هذه اللغة العربية الفصحى فهمًا وقراءةً وكتابةً، وكثرة هذه الجماعة من غير الأزهريين، وهي لم تتعلم هذه اللغة في الأزهر، وليست مدينة له بإتقانها، وكثرة هذه الجماعة إن أحسنت هذه اللغة فهمًا وقراءةً وكتابةً فهي لا تحسنها أداءً وإلقاءً، ثم هي إذا كتبت لجمهور القارئين اضطرت إلى كثير جدًّا من التبسيط والتيسير ليفهم الناس عنها، ثم لم تظفر من فهم الناس عنها إلا بالشيء اليسير. ولقد يكون من الظريف والمحزن معًا أن نمتحن جماعة من الطلاب والتلاميذ أزهريين وغير أزهريين، وجماعة من القارئين والكاتبين من أولئك وهؤلاء، لنتبين إلى أي حدٍّ فهموا هذا الفصل الذي أنشأه هذا الكاتب أو ذاك من الكُتَّاب المعاصرين، وأؤكد لك أن نتيجة هذا الامتحان ستكون مؤلمة مضحكة، وستسوء الكاتب الذي اتخذنا فضله موضوعًا للامتحان على كل حال.
فالخطر الذي أنذر به إذا لم نتدارك اللغة وعلومها بالإصلاح والتيسير إن لم يكن واقعًا بالفعل فهو قريب الوقوع، وتبعة هذا كله إنما تقع على الذين يمانعون في الإصلاح والتيسير، يحتجون بالدين مرة، ويحتجون بحق الشعوب العربية كلها في أن تشارك في هذا الإصلاح والتيسير مرة أخرى، وينسون أو يتناسون أن الله عز وجل قد أنزل القرآن وشرع الدين قبل أن تنشأ علوم اللغة، وأن الذين أنشَئُوا هذه العلوم إنما أنشئوها لأسباب؛ منها حماية هذه اللغة من أن تفسد أو تضيع كما أننا نحن نريد أن نصلحها ونيسرها لنحميها من أن تفسد أو تضيع، ويجهلون أو يتجاهلون أن الذين أنشئوا علوم اللغة العربية ودونوها والذين نمَّوْهَا وأنضجوها من علماء العراق لم يشاوروا في ذلك أهل مصر والشام وإفريقية والأندلس من العرب قبل أن يقوموا على إنشاء ما أنشئوا من العلم وتأليف ما ألفوا من الكتب، ليسمح لنا هؤلاء السادة بالضحك فإن حججهم مضحكة حقًّا.
أي خلفاء الأمويين، وأي خلفاء العباسيين، وأي أمراء العراق في عهد أولئك دعا إلى مؤتمرٍ عام ليقر ما ابتكر الخليل من علم، وما ألف سيبويه من كتاب؟ وأين اجتمع هذا المؤتمر في أي مدينة من مدن الدولة الإسلامية؟ وفي أي قطرٍ من أقطار البلاد الإسلامية؟ وأي خلفاء المسلمين أو أمرائهم أو شيوخهم رأس هذا المؤتمر وألقى فيه خطبة الافتتاح، ما هذا الكلام الذي يقال عن غير بصيرة، ويذاع في غير تفكير، ويقبله الناس في غير حذرٍ ولا احتياط، ويحسب له الساسة حسابًا في غير روية ولا أناة؟ وماذا قرر المؤتمر فيما كان بين علماء اللغة من اختلافٍ في أصول النحو وفروعه؟ أتراه أعرب الأسماء الخمسة بالحروف أم أعربها بالحركات؟ أتراه أعربها بالحركات قبل الحروف أم أعربها بالحركات مُقدَّرة على الحروف؟
إن هذا الكلام الذي يقال ويعتد به الضعفاء من الناس خليق أن يُضحك لولا أن الأمر لا يحتمل ضحكًا ولا عبثًا؛ لأنه أمر اللغة العربية، أتحيا أم تموت! إذا كان الأمويون والعباسيون لم يعرضوا للبصريين ولا للكوفيين بالحظر ولا بالعقوبة حين وضعوا ما وضعوا من علوم اللغة وحين دعا الخلاف بعضهم إلى أن يأتي بالأعاجيب، وإذا كان الخلفاء الأمويون والعباسيون لم يعقدوا مؤتمرًا للتشاور في وضع النحو أو إصلاحه، فما بال قوم يدعون إلى أن تُعقد المؤتمرات والاجتماعات بين المصريين وغير المصريين لما لم تعقد له مؤتمرات ولا اجتماعات في البصرة ولا في الكوفة ولا في دمشق ولا في بغداد، أما أن يجتمع الناس من تلقاء أنفسهم ليبحثوا ويدرسوا وليجادلوا ويناضلوا فهذا شيء لا ضرر منه ولا غبار عليه، بل فيه النفع كل النفع، والخير كل الخير، ولكن هذا شيء ودعوة الحكومة إليه شيء آخر، ولكن هذا شيء ومنع مصر من أن تُقدِم على إصلاح علوم اللغة شيء آخر. وهَبْني أقدمت على شيءٍ رأيته إصلاحًا للغة العربية وعلومها فألفت فيه كتابًا وأذعته في الناس ودعوت إلى الأخذ به، فأين القوة التي تستطيع أن تمنعني من ذلك أو تردني عنه أو تحاسبني عليه باسم الدين أو باسم القانون أو باسم الأزهر أو باسم أي بيئة من البيئات؟ وهل يعرف هؤلاء السادة أن قوة الخلافة أو قوة الملك في أي عهدٍ من عهود الإسلام قامت دون مذهب من مذاهب النحو لتمنعه أو ترد الناس عنه أو تعاقب صاحبه عليه؟ وإذا كان من حق الأفراد أن يحاولوا إصلاح اللغة العربية وعلومها فمن حق الدولة بل من الواجب عليها أن تحاول هذا الإصلاح حين تمس الحاجة إليه، وأؤكد للمحافظين من الأزهريين وغير الأزهريين أن الحاجة ماسة إلى هذا الإصلاح حقًّا، وأننا حين ندعو إليه ندعو إليه لأنه أصبح ضرورة من ضرورات الحياة بل من ضرورات الدين نفسه.
ولولا أني أكره تأثيم المسلمين ولا أستحل لنفسي ما يستحله قوم لأنفسهم من الحكم على المسلم بالكفر والفسوق، لقد كنت أستطيع أن آخذهم بحجتهم وأورطهم فيما يورطون الناس فيه، أي شيء أيسر من أن يقال لهم إن من المحقق أن الشباب يجهلون اللغة العربية ولا يفهمونها على وجهها، وإن من المحقق أن ذلك يمنعهم من أن يفهموا الكتاب والسنة على وجههما، وإن من المحقق أن تيسير اللغة العربية وعلومها يمكن شباب المسلمين من أن يقرءوا كتاب الله فيفهموه، ومن أن يقرءوا حديث النبي ﷺ فيفقهوه، وإن من المحقق أن الذين يصدون عن هذا الإصلاح إنما يصدون عن نتائجه، فهم إذَنْ يصدون عن فهم كتاب الله وسنة رسوله، والذين يصدون عن كتاب الله وسنة رسوله ما حكم الله فيهم؟ وما قضاء الأزهر في أمرهم؟ أمسلمون هم أم ملحدون؟ أمصلحون هم أم مفسدون؟
كلا، لندع هذا المزاح الذي لا يغني، ولنقدم على تيسير علوم اللغة جادين غير لاعبين، ولنقدم إلى صبيتنا وشبابنا من اللغة وعلومها وآدابها ما يفهمون ويسيغون ويذوقون، وأؤكد لهؤلاء السادة أن الشباب لا يفهم النحو القديم ولا يسيغه، ولا يذوقه ولا ينتفع به، بل يبغضه أشد البغض، ويضيق به أقبح الضيق، وينشأ عن ذلك ما قرره الدكتور حافظ عفيفي باشا من أنه يحسن اللغة الأجنبية ويفهمها ويستمتع بها على حين لا يجد في لغته العربية لذة ولا متاعًا، فنحن بين اثنتين: إما أن نيسر علوم اللغة العربية لتحيا، وإما أن نحتفظ بها كما هي لتموت.
قد يقال إن ما يقترحه هذا الفرد أو ذاك وهذه اللجنة أو تلك من وجوه الإصلاح لا يصح ولا يستقيم، ولسنا نرى في ذلك بأسًا، فلتُناقَش الاقتراحات، فإن انتهت المناقشة إلى صلاحها قُبلت، وإن انتهت إلى فسادها رُفضت والتُمِس غيرها من الاقتراحات.
وسواء أراد الأزهريون أم لم يريدوا، وسواء سمعت لهم وزارة المعارف أم أعرضت عنهم، وسواء مضت وزارة المعارف في السبيل التي نهجها بهي الدين باشا بركات أم تنكبت هذه السبيل؛ فإن مسألة إصلاح علوم اللغة العربية وتيسيرها قد وُضِعت ولا بد من الجواب عليها، وإن باب هذا الإصلاح والتيسير قد فُتح ولا بد من ولوجه، والخير كل الخير أن نُقبل على هذا الإصلاح عن رغبة ورضًا، لا أن نعرض عنه حتى تفرضه علينا الظروف إن انتصر أو تموت اللغة العربية إن كتبت لها الهزيمة لا قدر الله.
وقد اقتُرح على وزارة المعارف لون من ألوان الإصلاح لعلوم اللغة العربية، ونصح أصحاب هذا الإصلاح للوزارة وللأمم العربية كلها؛ فطلبوا في صراحة أن تحتاط الوزارة في قبول اقتراحاتهم وألا تقرها حتى تذيعها في الناس وتعرضها للدرس والمناقشة، لا في مصر وحدها، ولا في الشرق وحده، بل في الشرق والغرب جميعًا، فإن ثبت هذا الإصلاح للبحث والدرس والمناقشة لم تقره الوزارة حتى تؤلف الكتب على المنهج الذي رسمه وحتى تذاع هذه الكتب بين المثقفين والمعلمين ليسيغوها ويتعودوها ويتحقق بينهم وبينها الإلف، ويومئذٍ ويومئذٍ فحسب يمكن أن تقر الوزارة هذا الإصلاح وأن تلائم بينه وبين برامج التعليم ومناهجه، وأن تكلف من يضع فيه الكتب للتلاميذ، فما الذي يطلب من هؤلاء المقترحين أكثر من هذا، إلا أن تكون هناك أغراض خفية، ونيات مكتومة، وإشفاق من أن يسهل العلم فيتاح للناس جميعًا ولا يصبح شيئًا محتكرًا تستأثر به فئة خاصة كما كان الكهان في مصر القديمة يستأثرون من دون الناس بضروب العلم والدين.
أظن أن مسألة إصلاح علوم اللغة العربية قد أصبحت من الوضوح والجلاء بحيث لا يجادل فيها إلا الذين يحبون الجدال والمراء.
وأعتقد أن هذا الإصلاح شرط أساسي لإصلاح التعليم كله؛ فإنك حين تعلم في لغةٍ من اللغات لن تبلغ من التعليم شيئًا إذا لم تكن لغة هذا التعليم واضحة سهلة قريبة إلى العقول والقلوب، وأنا أريد كما يريد كثير من الناس أن يشدد على المعلمين في أن يصطنعوا اللغة الفصحى فيما يلقون على تلاميذهم من الدروس مهما تكن مادتها، ولكني أشفق أولًا من أن يعجز المعلمون عن تحقيق هذه الأمنية؛ لأنهم لا يحسنون اللغة العربية، وأشفق ثانيًا من أن يحاول المعلمون تحقيق هذه الأمنية فلا يبلغون شيئًا، وتصرفهم هذه المحاولة عن إتقان التعليم نفسه فيضيع على التلاميذ حظهم من المادة العلمية دون أن يبلغوا باللغة العربية ما نريد لها من الإتقان.
وأحب قبل أن أدع موضوع هذا الإصلاح أن ألفت أنصاره وخصومه جميعًا إلى أنه لم يكن في يومٍ من الأيام لازمًا محتومًا كما هو الآن؛ فقد كان التعليم في بلادنا إلى أوائل هذا القرن ضيقًا محدودًا يتاح للقادرين عليه والراغبين فيه، ولكنه منذ صدر الدستور قد أصبح واسعًا بعيد المدى لا يحد إلا بالحدود الجغرافية للمملكة المصرية؛ لأن الدستور حين أقر التعليم الأولي قد فرض مقدارًا يسيرًا من العلم والمعرفة على الناس جميعًا، لم يستثنِ من ذلك أحدًا، ولم يُعفِ منه إنسانًا.
واللغة العربية أهم ما في هذا المقدار من العلم الذي فُرض على الناس وكُلِّفت الدولة أن تذيعه فيهم وأن تعاقبهم إن أعرضوا عنه أو زهدوا فيه.
ومعنى ذلك أن التعليم، وتعليم اللغة العربية بنوعٍ خاص، قد فُرض على الطبقات كلها وعلى جماعات الناس كلها؛ فرض على الأغنياء والفقراء، وعلى القادرين والعاجزين، وعلى الأذكياء والأغبياء، قد أصبح شيئًا شعبيًّا، لا يتفاوت الناس فيه ولا يتمايزون.
ومعنى ذلك أن تيسيره قد أصبح فرضًا لا محيد عنه، وضرورة لا خلاص منها، فليس كل الناس قادرًا على أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة وفهمًا مع ما تمتاز به قراءتها وكتابتها وعلومها من الصعوبة والتعقيد.
وليس كل الناس مستعدً لأن ينفق من حياته الأعوام الطوال ليدرس أبواب النحو والصرف كما يريد هؤلاء السادة أن يحتفظوا بها، حتى إذا أنفق من وقته ما أنفق، وبذل من جهده ما بذل، أراد القراءة فلم يحسنها، وأراد الكتابة فلم يتقنها، وأراد الفهم فلم يقدر عليه.
إن التعليم الأولي محدود قصير الأمد، ونحن نريد أن يخرج الصبي منه قادرًا على أن يقرأ فيحسن القراءة، ويكتب فيتقن الكتابة، ويفهم فيصيب الفهم، وإلا كان التعليم الأولي لغوًا، وأضاعت الدولة ما تنفق في سبيله من جهدٍ ومال.
وأنا أسأل المحافظين عامة والأزهريين خاصة، وأرجو منهم أن يجيبوا مخلصين، أقسم عليهم في ذلك باللغة التي يؤثرونها، والدين الذي يحبونه، والوطن الذي يريدون أن ينصحوا له، أحقٌّ أننا نستطيع أن نذيع اللغة العربية قراءة وكتابة وفهمًا في مدارس التعليم الأولي التي تتلقى الناس جميعًا ثم نطمئن إلى أن الصبية سيخرجون من هذه المدارس قارئين كاتبين فاهمين على خير وجه وأكمله دون أن نيسرها للكتابة والقراءة وقواعد النحو وأصول التصريف، أم هم يريدون أن يكون التعليم الأولي للغة العربية صورة من الصور وشكلًا من الأشكال يُكتفى منه بأن يقدر الصبي على أن يرسم الحروف ويتهجاها ويفك الخط كما يقولون، حتى إذا خرج من المدرسة وبعد بينه وبينها العهد شيئًا نسي رسم الحروف وتهجيها، وعاد الخط مستغلقًا عليه أشد الاستغلاق؟
فأنت ترى أني لا أكتفي بإصلاح النحو والصرف والبلاغة كما اقترحت اللجنة التي ألفتها وزارة المعارف، وإنما أريد كما أراد بهي الدين باشا بركات أن نعمد إلى إصلاح أعمق من هذا الإصلاح يتناول الكتابة والقراءة ويعصم الناس إلى حدٍّ بعيد من الخطأ حين يكتبون ويقرءون، أريد كما يقول بهي الدين باشا بركات في هذه الأيام، وكما قال غيره من قبله، أن يقرأ الناس ليفهموا لا أن يفهموا ليقرءوا، وأريد أن يكون الغرض من الكتابة الإبانة والتجلية لا الألغاز والتعمية، أريد أن تكون الكتابة تصويرًا صادقًا دقيقًا للنطق، لا أن تصور بعضه وتلغي بعضه، لا أن تصور نصف اللفظ وتلغي نصفه الآخر، أريد أن تصور الكتابة ما نسميه الحروف وما نسميه الحركات تصويرًا لا إهمال فيه من جهة، وتصويرًا قوامه اليسر والسهولة والسرعة والاقتصاد في الوقت والجهد والمال من جهةٍ أخرى.
ولست أقترح في هذا شيئًا، بل أنا قد نصحت لبهي الدين باشا بركات أن يتأنى بذلك ولا يتعجل الأمر فيه، وألا يَكِله إلى لجنة يؤلفها، أو جماعة يندبها، وإنما يذيع الدعوة إليه في الشرق والغرب، ويجعله موضوع مسابقة عالمية بين الذين يحسنون القول فيه، ثم يؤلف بعد ذلك ما أحب من اللجان الفنية لتدرس وتحكم وتختار، وأنا قد أشرت عليه بذلك إيثارًا للعافية، وتوخيًا للمصلحة، واتقاء لثورة الثائرين وغضب الغاضبين، ولكن هذا كله لم يمنعني ولن يمنعني من أن أقرر أن إصلاح الكتابة حاجة ماسة وضرورة ملحة، وشرط أساسي لنشر التعليم الأولي على وجهٍ نافعٍ مفيد.
هذا النحو من الإصلاح إذا تم أغنى كثيرًا، وأراح من عناء ثقيل؛ فهو يغني عامة الناس عن تعمق النحو وإضاعة الوقت في درسه، وما حاجة العامة إلى النحو إذا ضمنت لهم الإصابة، وعصموا من الخطأ حين يقرءون ويكتبون؟ وهذا النحو من الإصلاح إذا تم — ولا بد أن يتم — حال بيننا وبين الالتجاء إلى ما التجأ إليه الترك، وما يدعو إليه كثير من الناس من إلغاء الصعوبة إلغاء، والإعراض عن كتابتنا العربية إلى الكتابة اللاتينية، وهنا أحب أن يعلم المحافظون أني قاومت وسأقاوم أشد المقاومة دعوة الداعين إلى اصطناع الحروف اللاتينية، لأسبابٍ لا أطيل بتفصيلها الآن، ولكن هذه المقاومة لن تغني شيئًا، ولن يشاركني فيها الناس جميعًا إذا نحن لم نسرع إلى إصلاح الكتابة؛ لنبطل هذه الدعوة من أساسها، ونلغي حجة الذين يجهرون بها ويلحون فيها. أرأيتك لو حظرت على المصريين أن يصطنعوا السيارات والقطارات والترام وسفن البخار، وأخذتهم بأن يتنقلوا في البر على الإبل والخيل، وعلى البغال والحمير، وفي البحار والأنهار على السفن الشرعية، أتراهم يسمعون لك ويحفلون بك وهم يرون غيرهم يصطنع هذه الأدوات المتقنة الآمنة السريعة؟ أم تراهم يعرضون عنك ويزدرون حظرك ازدراء؟ انظر إلى أهل القرى إلى أي حدٍّ بلغوا من اصطناع هذه الأدوات الحديثة، وإلى أي حدٍّ أعرضوا عما كانوا يألفون من وسائل الانتقال والمواصلات.
سيكون هذا شأنهم بالقياس إلى القراءة والكتابة، فإما أن تيسرهما لهم، وإما أن يعرضوا عنك وعن قراءتك وكتابتك إلى قراءة وكتابة أصح وأدنى إلى الصواب، وهم لن يؤثروا الجهل على العلم، ولن يخلوا بينك وبين احتكار القراءة والكتابة كما كانوا يفعلون من قبل، فقد تغيرت الدنيا ودار الفلك، وأصبحت الشعوب لا تقنع بما كانت تقنع به في سالف الأزمان.
فالخير كل الخير إذَنْ في ألا نخدع أنفسنا بالأضاليل، وألا نمنيها الأماني، وأن نقدم على ما لا بد من الإقدام عليه، فلا نصلح النحو والصرف والبلاغة فحسب، بل نصلح قبلها القراءة والكتابة أيضًا.