قصر تعلُّم النحو على القدر الضروري
وإصلاح علوم اللغة العربية ليس كل شيء ليكون تعليمها مثمرًا مفيدًا، بل لا بد من العناية بالمادة التي تعلَّم فيها هذه اللغة، ومع أني أحب النحو أشد الحب وأكلف به أعظم الكلف، لا أقول ذلك عابثًا ولا مازحًا، وإنما هو حق يعرفه عني كثير من الأصدقاء، مع أني أحب النحو أشد الحب، وأريد أن يتعمقه الذين يتخصصون في اللغة وآدابها؛ فإني لا أحب أن أشق به على كثرة المتعلمين في المدارس العامة، ولو استطعت لأعفيتهم منه إعفاء، ولكن السبيل إلى ذلك غير ميسرة الآن، فلا بد مما ليس منه بد، ولنجتهد في أن نخفف عبء النحو على المتعلمين ما وسعنا ذلك، وألا نفرض عليهم منه إلا اليسير الهين الذي لا يمكن الاستغناء عنه، وأن نقدم إليهم ذلك لا في صورة علمية يسيرة فحسب، بل في صورة أدبية رائقة محببة إلى النفس.
ومن أقبح الخطأ وأشنعه أن نظن أن إتقان النحو يمكن من إتقان اللغة، أو أن تعمق مسائله يمكن من فهم أسرارها، إنما النحو فلسفة والكثير منه ترف للمثقفين ليس غير، وهو من حيث هو علم مستقل، شيء مقصور على أصحابه المشغوفين به المتخصصين فيه. وقد رأيت الأزهر في أيام الصبا والشباب يؤمن بأن النحو والصرف وهذا السخف اللفظي الذي يسمونه البلاغة هي لب اللغة وجوهرها وأن غيرها أعراض وقشور، وكان الأدب بالطبع من الأعراض والقشور، وكنت من الذين يختلفون إلى دروس الأستاذ سيد المرصفي رحمه الله، وكنا جميعًا موضع النقد والسخرية والاستهزاء؛ لأننا كنا نهمل اللب والجوهر ونحفل بالأعراض والقشور. ومن المحقق أن شيوخنا كانوا يحتقرون ديوان الحماسة وكامل المبرد ويحتقرون الأستاذ الذي كان يدرسهما والطلاب الذين كانوا يستمعون له، ويمنحونهم شيئًا من العطف والإشفاق يمازجه البغض والخوف والازدراء؛ لأنهم يؤثرون آثار أبي تمام والمبرد على آثار البنان والصبان. ولما غضب الشيخ حسونة — رحمه الله — على أستاذ الأدب وطلابه لأنهم اتُّهِموا عنده بالابتداع ألغى درس الكامل للمبرد وكلف الأستاذ أن يقرأ لطلابه كتاب المغني لابن هشام. والأزهريون جميعًا يذكرون أن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده لقي كثيرًا من الجهد، واحتمل كثيرًا من المشقة وأوذي في نفسه ودينه؛ لأنه أدخل العلوم الحديثة في الأزهر، وكان الأدب العربي من هذه العلوم الحديثة في ذلك الوقت، فأعجب لقومٍ كانوا يرون درس الأدب بدعة في الدين، ويتهمون الذين يدرسونه بالفسوق والإلحاد، ولم يكن ذلك بعيد العهد، وإنما كان في أول هذا القرن أدركناه واصطلينا ناره، وهم الآن يريدون أن يكونوا قوامين على اللغة العربية، حماة لها يردون عنها كيد المصلحين.
وكان الذين يشاركوننا في درس الأدب يتحدثون ويتفكهون بأن شيخًا من كبار الشيوخ كتب إلى محافظة القاهرة في بعض الأمر فلم تفهم المحافظة من كتابه شيئًا، وردته إلى مشيخة الأزهر لتوضحه وتجليه، ودعت المشيخة ذلك الأستاذ رحمه الله وسألته عما أراد إليه في كتابه، فوضحه الشيخ باللغة العامية وكتبه مطربش إلى المحافظة بلغة الدواوين، وخرج الشيخ يتمدح في درسه بأنه يكتب ما لا يفهمه المطربشون، وبأن إنشاءه صعب معقد كإنشاء الحواشي والتقارير، ونوشك إن أسرفنا في أخذ التلاميذ بتعمق النحو والإيغال فيه أن نجعلهم كلهم كذلك الشيخ الأزهري العظيم يكتبون فلا يبينون ولا يفهم منهم أحد.
وقد أتيح لي هذا العام أن أقرأ بعض إجابات التلاميذ في امتحان القسم الخاص من الشهادة الثانوية فرأيت عجبًا ولكنه عجب يملأ القلوب حنقًا وغيظًا؛ رأيت الفساد الذي يُدخله درس النحو والبلاغة على أذواق الشباب في التعبير والتصوير وفي صوغ اللفظ والملاءمة بينه وبين المعنى، وفي إرسال الكلام عن غير فهم، وإرسال الجمل التي حُفِظت عن المعلم والتي لم يفهمها المعلم حين ألقاها، ولم يفهمها التلميذ حين تلقاها، ولم نفهمها نحن حين صححناها.
فلنقتصد إذن في درس النحو والصرف والبلاغة، ولنجعل هذه العلوم حين ندرسها فصولًا من الأدب أو شيئًا قريبًا من ذلك، وليس هذا كل شيء، فلا بد من التفكير في درس الأدب نفسه وفي هذه الكتب التي يقرؤها التلاميذ، والتي نسميها كتب المطالعة. وقد كان النظام التعليمي القديم يقضي بأن يبدأ الصبية في المدارس الثانوية دروس الأدب بالأدب الجاهلي، وأن يطالعوا كتبًا قديمة يذكرون منها مع الغيظ والحنق إذا خرجوا من المدارس كتاب كليلة ودمنة وكتاب أدب الدنيا والدين، وأنت تعلم أن الأدب الجاهلي بعيد كل البعد عن أن يتصل بنفوس الرجال من المعاصرين فكيف بنفوس الصبية الناشئين؟ وليس كل الناس يستحب كليلة ودمنة وليس كل الناس يستعذب أدب الدنيا والدين.
وقد وُفِّقت وزارة المعارف بعض التوفيق حين كان الأستاذ نجيب الهلالي باشا مشرفًا على أمورها، فبدأت درس الأدب من آخره؛ أي من هذا العصر الحديث، وأزالت عن التلاميذ هذا الجهد العنيف الذي كانوا يضطرون إليه حين يتحدث إليهم معلمهم عن النابغة وزهير والأعشى وامرئ القيس، كما أن وزارة المعارف وُفِّقت إلى تنويع المطالعة بعض الشيء، وكلفت لجنة أن تؤلف للتلاميذ كتبًا تلائم هذا العصر الحديث، ولكننا برغم هذا كله ما زلنا بعيدين أشد البعد من تحقيق الغرض الذي تدرس من أجله اللغة وآدابها في مدارس التعليم العام، فدرس اللغة وآدابها من أهم مصادر الثقافة العامة، ولعله أن يكون أهمها وأعظمها خطرًا، فهو بحكم مادته ومعانيه يتصل بالعقول والقلوب والأذواق جميعًا، وهو من أجل هذا مثقف للعقول مذك للقلوب، مهذب للأذواق، على حين تكاد المواد الأخرى من مواد التعليم العام تتصل بالعقول وملكاتها ليس غير.
فلا بد إذَنْ من أن نطلب إلى درس اللغة وآدابها تثقيف العقل بما يقدم إلى التلاميذ من علم، وتذكية القلب بما يقدم إليهم من تصوير رائع للمُثل العليا، وتقويم الطبع وتصفية الذوق بما يقدم إليهم من صورٍ رائعة للبيان.
ومن المحقق أن في الأدب العربي القديم ما يعين على تحقيق هذه الأغراض، ولكن من المحقق أيضًا أنه وحده على جماله وروعته وعلى عمقه وتنوعه، لا يكفي لتحقيق هذه الأغراض، ففي حياة الإنسان أشياء كثيرة متنوعة لم يعرفها الأدب العربي ولم يتصل بها، وفي الحياة الحديثة نفسها أشياء كثيرة لم يبلغها الأدب القديم بالطبع، ولم يبلغها الأدب العربي الحديث بعد، ولا بد من أن يتصل بها التلاميذ ومن أن تُثقَّف بها عقولهم وتُذكَّى بها قلوبهم، وتُصفَّى بها أذواقهم، ومن أن يكون ذلك من طريق اللغة العربية نفسها لا من طريق لغة أجنبية؛ لأن اللغة العربية أقرب ويجب أن تكون أقرب إلى نفوس التلاميذ، ولأنها أبلغ أثرًا، ويجب أن تكون أبلغ أثرًا في نفوس التلاميذ، ولأن من الحق علينا أن نجتهد ما استطعنا في حمل التلميذ على أن يحب لغته ويقدرها ويكبرها في نفسه، ولا يراها أقل خطرًا وأحقر متاعًا وأضيق أفقًا من اللغات الأجنبية.
وقد قدرت الأمم الراقية هذا كله واحتفلت له وعنيت به، فجعلت من مواد الدرس الأدبي في المدارس العامة مادة الآداب الأجنبية على أن تدرس للتلاميذ في لغتهم الوطنية، فلا ينبغي أن ينتظر التلميذ الفرنسي خروجه من المدرسة العامة ليعرف شيئًا عن أدب اليونان والرومان والإنجليز والألمان والإيطاليين والإسبانيين، بل يجب أن يعرف هذا كله في أثناء الدرس، وأن يستقبل الحياة بعد أن يفرغ من الدرس وقد أخذ من هذا كله بطرفٍ كما يقال، ولا ينبغي أن يُفرض على التلميذ تعلم اللغات الأجنبية ليلم بآدابها؛ فإن ذلك شيء لا سبيل إليه، وإنما يجب أن تقدم إليه لغته الوطنية هذه الآداب سهلة سائغة قريبة المنال، ومن أجل هذا تجد الفرق عظيمًا شنيعًا بين الطالب الأجنبي حين يتقدم إلى الجامعة والطالب المصري حين يتقدم لها أيضًا، ذلك واسع العلم، بعيد الأفق، عميق المعرفة، يتحدث عن كل شيء حديث الأليف له الملم به، وهذا ضيق العلم، ومحدود الأفق، سطحي المعرفة لا يكاد يتحدث إليك إلا عما سمع في المدرسة وما قاله، وهو إذا تحدث إليك فيه كان إلى الخطأ أقرب منه إلى الصواب، لا تسل حامل الشهادة الثانوية المصرية عن هوميروس، ولا عن بندار، ولا عن هوراس، ولا عن فيرجيل، ولا عن دانت ولا سرفنتيس، ولا عن جوت ولا عن فكتور هوجو، ولم أذكر شكسبير؛ لأن التلاميذ يسمعون عنه شيئًا في مدارسهم.
لا تسل حامل الشهادة الثانوية المصرية عن واحدٍ من هؤلاء لأنك لن تجد عنده شيئًا، ومع ذلك فلم أذكر إلا جماعة من أعلام الشعر، لم أذكر الخطباء والكتاب والفلاسفة والمؤرخين؛ لأني لا أريد أن أطيل ولأني يائس من أن تجد عند شباب مدارسنا شيئًا إن سألته عن واحدٍ من هؤلاء، وسل حامل الشهادة الثانوية في أي بلدٍ من بلاد أوروبا الراقية عمن شئت من هؤلاء ومن غيرهم، فستجد عنده ما يرضيك، ومهما أنسَ فلن أنسى أني حين ذهبت إلى فرنسا لإتمام الدرس كما كان يقال، وكنت قد ظفرت بالدكتوراه من الجامعة المصرية القديمة، لم أجد بدًّا من أن أستأنف الدرس الثانوي فيما بيني وبين نفسي، وأن أقرأ الكتب التي يقرؤها الصبية والشبان المبتدئون، ولولا ذلك لما انتفعت بالاختلاف إلى السوربون، ولا أفدت من أساتذتها شيئًا، فإذا كان من الخير ومن الواجب أن يدرس التلاميذ أدبنا العربي القديم والحديث فمن الخير ومن الواجب أيضًا أن يدرس التلاميذ أطرافًا صالحة من الآداب الأجنبية المختلفة قديمها وحديثها، وأن يدرسوا ذلك في لغتهم العربية لا في غيرها من اللغات، وأن يقدم إليهم ذلك في لفظٍ رائع رائق، وفي أسلوبٍ ممتاز جميل، ستسألني وكيف السبيل إلى ذلك وقد تُرجمت هذه الآداب إلى اللغات الأوروبية ولم يكد يترجم منها شيء إلى لغتنا العربية؟ والجواب سهل يسير؛ وهو أن وزارة المعارف لم تنشأ عبثًا، وإنما أُنشئت لتحقيق هذا وأمثاله من الأغراض، وهذا موضوع سأعود إلى الحديث فيه بعد حين.