التوفيق بين هذه البرامج وطاقة التلميذ
وكأني بك وقد قرأت هذه الفصول التي تحدثت فيها عن التعليم العام وما ينبغي أن يُدرَّس فيه للتلاميذ فأشفقت من كثرته وهالتك هذه الكثرة، ورحمت التلاميذ واتهمتني بالإسراف واعتقدت فيما بينك وبين نفسك أن هذا المنهاج الذي أعرضه للتعليم خيال ليس إلى تحقيقه من سبيل، ولكني ألاحظ أولًا أن هذا الذي تراه خيالًا يتحقق بالفعل في جميع البلاد الأوروبية الراقية.
وأن عقل الفتى المصري ليس أضيق ولا أضعف ولا أقل استعدادًا من عقل الفتى الأوروبي، والناس جميعًا يعترفون بأن التعليم العام قد أصبح شاقًّا عسيرًا وهو صائر إلى الإمعان في المشقة والعسر؛ لأن المعرفة الإنسانية لم تبلغ قط من الكثرة والتنوع ومن التشعب والتفرع والاختلاف ما بلغته الآن، ولأنها ستبلغ من هذا كله غدًا وبعد غد أكثر مما بلغته اليوم، لكن الناس كلهم يعترفون بأن لا بد مما ليس منه بد، وبأن مهمة التعليم العام إنما هي إعداد التلميذ ليستقبل هذه الحياة الحديثة، المعقدة المنوعة المختلفة استقبال القادر على احتمال أعبائها، والنفوذ من مشكلاتها، وهو من أجل ذلك كلف أن يعود التلميذ ممارسة المقدمات لهذه المعرفة المختلفة التي لا تحصى، والمشكلة التي تعرض للذين يدبرون أمور التعليم هي هذه، معرفة مسرفة في التنوع والتشعب والاشتباك، وتلميذ محدود الطاقة مهما يكن حظه من القوة والذكاء، فكيف تكون الملاءمة بينهما؟ وكيف يهيأ ثانيهما لاستقبال أولاهما قويًّا جلدًا قادرًا على التصرف والاحتمال؟
وليس حل هذه المشكلة مستحيلًا، ولعله أن يكون أيسر مما نظن، بشرط أن نتخذ له عدته، وألا نتأثر بظروف غير ظروف التعليم وحاجاته وضروراته، وأنا أرى أن هناك شرطين أساسيين يجب أن نحققهما لنحل هذه المشكلة حلًّا مقاربًا؛ الأول: ألا نسرف في إفعام البرامج بهذا العلم المفصل، الذي يثقل على المعلم والتلميذ جميعًا، فيضطر الأول إلى كتابة المذكرات ويضطر الثاني إلى الحفظ والاستظهار. وإذا كان من الواجب أن يُثقَّف التلميذ أثناء التعليم الثانوي في التاريخ العام، فليس من الضروري أن يؤخذ بمعرفة الحوادث الكثيرة المفصلة، وإنما يمكن فيما أظن، بل يجب فيما أعتقد، أن يبصر بالتاريخ وتطوره في غير إسرافٍ ولا غلو في عرض الحوادث وتفصيلها، وأنا مطمئن إلى أن تحقيق ذلك يسير إذا لم يحرص المؤرخون حين يضعون برنامج التاريخ على أن يستأثروا بالتلميذ لعلمهم الذين يحبونه ويؤثرونه ويقدمونه على غيره من العلوم، وإذا اقتصد أصحاب كل فن وعلم في برنامج فنهم وعلمهم، فقد ينشأ من هذا الاقتصاد المشترك توازن معقول في البرامج والمناهج ييسر الأمر على التلميذ وعلى المعلم ويمكن التعليم العام من أن يهيئ الشباب لاستقبال الحياة في غير جهلٍ بها، ولاستقبال الدرس العالي في استعداد حسن له.
والشرط الثاني: أن يُمنَح التعليم العام ما ينبغي له من الوقت، وأنا أعتقد أننا نبخل على التعليم العام بعض الشيء، فخمسة أعوام للتعليم الثانوي لا تكفي، إذا لاحظنا مقدار ما نريد أن نهيئ له الطالب من العلم ونحن مشفقون من إطالة التعليم الثانوي نخاف أن يغضب الآباء والأبناء جميعًا، وما أشد خوفنا من غضب الآباء والأبناء! أولئك قد يخذلوننا في الانتخابات وهؤلاء قد يضايقوننا بالإضراب والمظاهرات، ولكن مصلحة التعليم يجب أن تكون فوق هذا كله.
وإذا لاحظنا أن مدة التعليم الثانوي في بلدٍ كفرنسا سبع سنين وأن الفتى إذا ظفر بالشهادة الثانوية فقد لا يتاح له أن يتصل ببعض المعاهد العليا الخاصة حتى يستعد لها استعدادًا خاصًّا قد يحتاج إلى العام أو العامين، لم نستكثر على التعليم الثانوي في مصر ست سنين، فإذا أضفنا إليها أعوام التعليم الابتدائي الذي سيكون معه التعليم العام، كانت مدة هذا التعليم عشر سنين، وأنا واثقٌ كل الثقة بأننا إذا عالجنا المناهج والبرامج في أناةٍ ورفقٍ وفي نصح للعلم والمعلمين والمتعلمين جميعًا لم نعجز عن تحقيق هذا التوازن الذي يمكننا من تثقيف الشباب تثقيفًا ملائمًا، وليس عندي بأس إذا تم هذا الإصلاح من أن تقصر مدة الاستعداد لليسانس والبكالوريوس في بعض الكليات؛ في كلية الآداب والحقوق والتجارة والزراعة والهندسة والعلوم؛ فإن هذه الكليات جميعًا تنفق العام الأول من أعوام الدراسة في تكميل التعليم الثانوي الذي لم تكمله وزارة المعارف. وبهذا النحو من التخفيف نصلح التعليم نفسه ونتقي ما نخافه من غضب الآباء والأبناء.
وواضح جدًّا أني لا أريد أن أشق عليك ولا على نفسي بتفصيل ما ينبغي من توزيع البرامج كما أتصورها على أعوام الدراسة كما أقترحها؛ فإن ذلك لا يُفصَّل في الكتب وإنما يفصل في اللجان.