شدة اتصال مصر باليونان في القديم
كان العقل المصري إذَنْ إلى أيام الإسكندر مؤثرًا في العقل اليوناني متأثرًا به، مشاركًا له في كثيرٍ من خصاله إن لم يشاركه في خصاله كلها.
فلما كان فتح الإسكندر للبلاد الشرقية، واستقرار حلفائه في هذه البلاد، اشتد اتصال الشرق بحضارة اليونان، واشتد اتصال مصر بهذه الحضارة بنوعٍ خاص، وأصبحت مصر دولة يونانية أو كاليونانية، وأصبحت الإسكندرية عاصمة من عواصم اليونان الكبرى في الأرض، ومصدرًا من مصادر الثقافة اليونانية للعالم القديم، بل أعظم مصدر لهذه الثقافة في ذلك الوقت، ومن المحقق أن الثقافة اليونانية، على اختلاف فروعها وألوانها، قد لجأت إلى مصر فوجدت فيها ملجأً أمينًا وحصنًا حصينًا وظفرت فيها من النمو والانتشار بما لم تظفر بمثله، حين كانت مستقرة في أثينا أو في غيرها من المدن اليونانية أو الآسيوية.
ونظرة يسيرة في أيسر الكتب التي تدرس التاريخ السياسي والثقافي في ذلك العصر تُبيِّن في وضوحٍ لا يحتمل الشك أن مدينة الإسكندر لم تكن مدينة شرقية بالمعنى الذي يُفهَم الآن من هذه الكلمة، وإنما كانت مدينة يونانية بأدق معاني هذه الكلمة وأصدقها وأجلاها.
ومن الإطالة في غير نفعٍ ولا غناءٍ أن نتحدث عن الفلسفة الإسكندرية التي نشأت عن هذا الاتصال الشديد المتين بين العقل المصري والعقل اليوناني، والتي كان لها أبعد الأثر وأقواه فيما أتيح للإنسانية من حضارة، ثم خضعت مصر لسلطان الروم فلم يمنعها ذلك من أن تظل ملجأ للثقافة اليونانية طوال العصر الروماني، كما أن خضوع بلاد اليونان نفسها لسلطان الرومان لم يجردها من يونانيتها، وإنما فرض هذه اليونانية على الرومانيين أنفسهم.