إعداد المعلم للقيام بالتعليم العام
وأمرنا بالقياس إلى هذه المسألة كأمرنا بالقياس إلى غيرها من مسائل التعليم، مضطرب أشد الاضطراب، قد قام على الاختلاط من جهةٍ وعلى التذبذب بين المذاهب والآراء المتناقضة من جهةٍ أخرى، وأقل ما يمكن أن يوصف به أنه قد مضى كما استطاع أن يمضي، لا كما يجب أن يمضي.
فنحن قد أنشأنا مدرسة المعلمين على النظام الفرنسي ثم ألغيناها وعشنا أعوامًا بدونها، وجعلنا نأخذ المعلمين من الذين يخرجون من المدارس الابتدائية أو من المدارس الثانوية على أن تلقى إليهم وقتًا ما، أثناء نهوضهم بالتعليم، دروسٌ يسيرة في علوم التربية، ثم شعرنا بالحاجة إلى مدرسة المعلمين فلم ننشئ مدرسة واحدة، وإنما أنشأنا مدرستين، سمينا إحداهما مدرسة المعلمين الثانوية، وسمينا الأخرى مدرسة المعلمين العليا، ثم ألغينا المدرسة الأولى واكتفينا بالمدرسة الثانية، ثم فتحنا باب الانتساب إلى هذه المدرسة أو أنشأنا فيها قسمًا ليليًّا لا أدري، ولكننا أبحنا على كل حال لجماعة من المثقفين الموظفين أن يتقدموا لأداء امتحان النقل في هذه المدرسة ثم لأداء الامتحان الأخير والظفر بالإجازة التي تبيح لهم النهوض بأعباء التعليم، سواء أنهضوا بهذه الأعباء بعد الظفر بالإجازة أم لم ينهضوا.
ولم يقف اضطرابنا في هذه المسألة عند هذا الحد، بل فُتح لنا باب جديد من أبواب الاضطراب، فلم نتردد في ولوجه، وفي ولوجه مضطرين كدأبنا في كل شيء، فتح لنا باب البعثات إلى أوروبا فأسرعنا إليه في حماسة وصفقت لنا الجماهير تشجيعًا وابتهاجًا.
ولكننا اضطربنا في أمر البعثات كما قلت، فجعلنا نرسل الشبان بعد خروجهم من مدرسة المعلمين، وجعلنا نرسلهم أثناء دروسهم في مدرسة المعلمين، وجعلنا نرسلهم قبل دخول مدرسة المعلمين متى ظفروا بالشهادة الثانوية، وجعل هؤلاء الشبان يذهبون إلى إنجلترا ويعودون منها ومعهم الإجازات الهينة والإجازات القيمة والإجازات التي تتوسط بين ذلك، وجعلنا نحن، بل جعلت وزارة المعارف تتلقى هؤلاء الشبان لقاءً حسنًا أحيانًا ولقاءً سيئًا أحيانًا أخرى وتكلف أكثرهم النهوض بأمور التعليم على كل حال. ونشأ عن هذا الاضطراب أن اختلطت أمور التعليم أشد الاختلاط، اختلطت في المدارس واختلطت في الوزارة واختلطت في رءوس المتعلمين والمعلمين أنفسهم، وما بالها لا تختلط وقد اختلفت أنواع المعلمين الذين يعملون في المدارس، والمفتشين الذين يشيرون على الوزارة، فمنهم من ظفر بالإجازة من مدرسة المعلمين الثانوية، ومنهم من ظفر بالإجازة من مدرسة المعلمين العليا، ولم يذهب إلى إنجلترا، ومنهم من ذهب إلى إنجلترا ولم يظفر بهذه الإجازة، ولكنه اختلف إلى المدرسة عامًا أو عامين، ومنهم من ذهب إلى إنجلترا ولم يظفر بالإجازة ولا اختلف إلى المدرسة قليلًا ولا كثيرًا، بل منهم من ظفر بالإجازة دون اختلاف المدرسة، ثم أقام في مصر ولم يذهب إلى إنجلترا، أو ذهب إلى إنجلترا وعاد منها بهذه الإجازة أو تلك.
أفهمت هذا التنويع كله؟ ألم يدركك الدوار لمجرد قراءته في هذه الأسطر القليلة؟ فكيف لا يلح الدوار على وزارة المعارف ومدارسها حين تخضع له وتمعن فيه؟ ومن المحقق أن الشباب المثقفين الذين لم يدركوا ذلك العصر ولم يدرسوا شئونه سيدهشون حين يقرءون هذا الكلام وسيقدرون أني أعبث وأمزح كما تعودت أن أفعل بين حينٍ وحين، ولكني أؤكد لهم أني لم أعبث ولم أمزح ولم أتجاوز الحق الذي وقع بالفعل والذي ما نزال نخضع لآثاره إلى الآن.
على أن هذه القصة لم تنتهِ بعد، فقد أنشئت الجامعة المصرية الحكومية ولم تكد تبلغ من عمرها عامين حتى طمعت في النهوض بشئون التعليم وجعلت تزعم — وكنت أنا لسانها في ذلك — أن كلية العلوم وكلية الآداب يجب أن تنهضا وحدهما بإعداد الشباب الذين يتهيئُون للتعليم، وتزويدهم بكل ما يحتاجون إليه من المواد العلمية على أن يتلقوا بعد تخرجهم ما يجب أن يتلقوه من علوم التربية في معهد ينشأ لذلك ويكون جزءًا من الجامعة، وكانت حجتنا فيما كنا ندعو إليه الاقتصاد في المال من جهة، فقد كان من السخف أن توجد كلية الآداب وكلية العلوم وأن تنفق الدولة عليهما ما تنفق من المال، وأن توجد معهما مدرسة المعلمين، وفيها القسم الأدبي والقسم العلمي، والعناية بإعداد المعلمين وتثقيفهم وتخصيصهم في المواد التي يتهيئُون لتعليمها من جهةٍ أخرى، وكنا نؤكد أن من الخطأ أن يتلقى الطالب مواد العلم ومواد التربية في طورٍ من أطوار حياته وفي مدرسة واحدة، فلا يتقن هذه ولا تلك.
ومن الحق أن نسجل أن وزارة المعارف أعرضت عن دعوتنا تلك، ووضعت أصابعها في آذانها، إن كانت لها أصابع وآذان، ولكنها لم تستطع أن تمضي في هذا الإعراض، فقد أراد صاحب السعادة علي الشمسي باشا أن يتبين جلية الأمر في هذا الموضوع؛ فألف لجنة مشتركة من الجامعة والوزارة ثم لم تقنعه آراء هذه اللجنة فدعا خبيرين في شئون التعليم: أحدهما عالم سويسري ممتاز في أمور التربية وهو الأستاذ كلاباريد، والآخر عالم إنجليزي خبير بشئون التعليم في بلده وهو الأستاذ مان، وقد جاء هذان الخبيران فدرسا وحققا واستقصيا وانتهيا من هذا كله إلى تأييد رأي الجامعة.
ثم كان أن أنشئ معهد التربية وفنيت مدرسة المعلمين العليا قليلًا قليلًا في كلية الآداب وكلية العلوم، ونشأ عن هذا كسب للتعليم من غير شك وكسب للجامعة من غير شك أيضًا لم تظهر نتائجه بعد ولكنها واضحة للباحث المستقصي منذ الآن، وستظهر جلية للناس جميعًا بعد قليل من الزمان، انتفع التعليم بهذا الإصلاح؛ لأن المعلمين الذين يهيئون الآن يخصصون إلى حدٍّ بعيد في المواد التي سيعلمونها، فهم يدرسونها في الجامعة أربعة أعوام، وهم يدرسونها دراسة تخصص وتعمق، فهم إذا خرجوا من الكليتين لا يحملون الإجازة في العلوم، وإنما يحملونها في هذا القسم أو ذاك من العلوم، ولا يحملون الإجازة في الآداب، وإنما يحملونها في هذا القسم أو ذاك من أقسام الآداب.
ولكن مدرسة المعلمين كانت قد أخرجت عددًا ضخمًا من الذين ظفروا بإجازاتها، على ذلك الاختلاف الذي فصلته لك آنفًا، وكان هذا العدد الضخم ينتظر المناصب في المدارس، وكانت الجامعة لا تخرج في أعوامها الأولى إلا عددًا ضئيلًا من الذين يظفرون بدرجاتها، ومع ذلك فقد قاومت وزارة المعارف هذا العدد الضئيل من الجامعيين ما وجدت إلى مقاومته سبيلًا لسببين يسيرين أشد اليسر ويجب أن نسجلهما هنا في صراحةٍ وإخلاص؛ أولهما: أن المسيطرين على أمور التعليم في الوزارة قد خرجوا من مدرسة المعلمين فهم يؤثرون زملاءهم وأبناء مدرستهم بالطبع.
والثاني: أن وزارة المعارف لم تكن تسيغ الجامعة أو تعرف لها طعمًا، وما أظن أنها قد عودت فمها وحلقها ومعدتها إلى الآن ذوق الجامعيين وإساغتهم وهضمهم، فقد كانت وزارة المعارف تنظر، وما زالت تنظر، فيما أظن إلى الجامعيين وإلى الذين يخرجون من كلية الآداب خاصة نظرات فيها كثير من الخوف والإشفاق ومن الشك والريبة أيضًا، وقد ضاق الجامعيون بهذا أشد الضيق، وكانت بينهم وبين الوزارة فيه خصومات متصلة، وكنت أقف من هذه الخصومات موقفين متناقضين، أظن أن من حقي أن أسجلهما هنا بعد أن أصبح تسجيلهما في صراحةٍ لا يضر ولا يؤذي وإنما هو حق للتاريخ.
كنت إذا خلوت إلى الجامعيين الساخطين هدَّأتهم أحيانًا ولوَّمتهم أحيانًا أخرى وبينت لهم أن الذين يحملون إجازة مدرسة المعلمين مصريون مثلهم وقد سبقوهم إلى التخرج فمن الحق أن يسبقوهم إلى شغل المناصب.
وكنت إذا لاقيت المشرفين على الأمر في وزارة المعارف خاصمتهم أشد الخصام وجادلتهم أعنف الجدال وربما انتهى الأمر بينهم وبيني إلى شيءٍ من الشر.
وعلى هذا النحو مضت هذه الأعوام وشغلت وزارة المعارف من كان متبطلًا من خريجي مدرسة المعلمين وخلا الجو للجامعيين منذ الآن، وأصبحت الوزارة مضطرة إلى أن تختار منهم كلما احتاجت إلى المعلمين، ولكن معهد التربية الذي أنشئ في عام ١٩٢٩ لم يجد الطريق أمامه سهلة ولا مُيسَّرة ولم يبرأ من الاضطراب الذي تورطت فيه مدرسة المعلمين، ومصدر هذا الاضطراب ما قلته في فصلٍ مضى، وهو أنك لا تجني من الشوك العنب، والشوك هنا هو وزارة المعارف بالطبع.
فقد أبت وزارة المعارف أن تكف يدها عن معهد التربية وتترك أمره للجامعة، وأصرت على أن تحتفظ به لنفسها بحجة أنه يخرج لها المعلمين الذين تحتاج إليهم في مدارسها فلا بد من أن يكون لها الإشراف التام عليه، ولو أن وزارة المعارف آثرت المنطق والصواب في التفكير، لفرضت إشرافها التام على كلية الآداب وكلية العلوم؛ لأنهما تعدَّان لها المعلمين أيضًا، تعدانهم في العلم كما يعدهم معهد التربية من الناحية الفنية، ولكن وزارة المعارف لم تؤثر منطقًا ولا صوابًا وإنما فكرت على هذا النحو وهذا يكفي، والغريب أنها ما زالت تفكر على هذا النحو إلى الآن.
وقد نشأت عن استئثار وزارة المعارف بشئون معهد التربية ألوان من الشر، منها أنها جعلت هذا المعهد قسمين: الأول يعد الطلاب للتعليم في المدارس الابتدائية ولا يجب أن يكون طلابه جامعيين، وإنما يكفي أن يظفروا بالشهادة الثانوية، وعلى هذا النحو احتفظت وزارة المعارف بمدرسة المعلمين القديمة بعد أن مسختها وشوهتها ونقصت أمد الدراسة فيها ونقصت ما كان يدرس فيها من العلم.
والثاني يهيئ الطلاب للتعليم في المدارس الثانوية، وهو القسم العالي الذي يجب أن يكون طلابه من الجامعيين، وقد جعلت وزارة المعارف أمد الدراسة في القسم الأول ثلاثة أعوام وفي القسم الثاني عامين، والظريف أنها أسخطت طلاب القسمين جميعًا وأسخطت نفسها على القسمين جميعًا؛ فأما طلاب القسم الابتدائي فقد سخطوا لأن المستقبل أُغلق في وجوههم وقضى عليهم أن ينفقوا حياتهم في التعليم الابتدائي، وأما طلاب القسم العالي فقد سخطوا لأنهم وجدوا أنفسهم في بيئةٍ أقل ما توصف به أن الفرق بعيد جدًّا بينها وبين البيئة الجامعية التي خرجوا منها، ووجدوا أنهم يضيعون وقتهم في جهودٍ أكثرها سخيف عقيم وأقلها لا يحتاج إلى هذا الوقت الطويل الذي ينفقونه في المعهد ويضيعونه من أعمارهم، ووجدوا أنهم بعد هذا كله لا يجدون العمل في المدارس الثانوية، فمنهم من يعمل في المدارس الابتدائية بعد أن أُعِدَّ للعمل في التعليم الثانوي، ومنهم من يعمل في المدارس الحرة، ومنهم من يعمل في الدواوين وقد كانوا جميعًا يأملون غير هذا، وقد نشأ عن هذا السخط أن أقبل الشبان على أعمالهم كارهين لها ضيقين بها، فلم يرضوا أنفسهم ولم يرضوا وزارة المعارف نفسها، فهذا لون من ألوان الشر الذي نشأ عن إبعاد المعهد عن الجامعة.
وهناك لونٌ آخر لا يخلو من فكاهة، فقد شعرت وزارة المعارف بأنها محتاجة إلى المعلمات كما هي محتاجة إلى المعلمين، وكان الطبيعي أن يقبل الفتيات الجامعيات مع زملائهن في المعهد أثناء الدرس على أن تكون لهن دارهن الخاصة التي يأوين إليها بالطبع.
ولكن صاحب المعالي حلمي عيسى باشا رأى أن من الخطر على الأخلاق، فيما يظهر، أن يختلف الفتيات والفتيان معًا إلى الدروس في المعهد فأنشأت الوزارة لهن معهدًا خاصًّا، ونسيت الوزارة، أو جهلت، أن هؤلاء الفتيات والفتيان قد اختلفوا معًا إلى الدروس في الجامعة أربعة أعوام كاملة على الأقل قبل أن يدخلوا المعهد، وقد ترك حلمي باشا عيسى وزارة المعارف وضعف بعده سلطان التقاليد، ولكن هذا المعهد الخاص بالفتيات ما زال قائمًا وسيظل قائمًا فيما يظهر حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
ولونٌ آخر من ألوان الشر الذي نشأ عن استئثار الوزارة بأمر المعهد وهو أشد خطرًا من كل ما قدمنا؛ وهو أن وزارة المعارف التي قبلت أن يكون طلاب القسم العالي من حملة الليسانس في الآداب والبكالوريوس في العلوم لم تفكر في أن هؤلاء الطلاب محتاجون إلى أساتذة من نفس الطبقة الجامعية التي كانوا يختلفون إلى دروسها في الجامعة، وإنما فرضت عليهم معلمين أقل ما توصف به كثرتهم أنها لم تُهيَّأ بعدُ للنهوض بأعباء التعليم العالي، وأنها لا تستطيع أن تشيع في نفوس الطلاب ما ينبغي للأساتذة من الثقة والحب والاحترام، وقد نشأ عن هذا أن أصبح المعهد سجنًا للذين يقبلون عليه من الطلاب، والطلاب مع ذلك يقبلون عليه كارهين؛ لأنه وسيلة من الوسائل إلى كسب القوت. وبعض هذا الذي عرضته عليك الآن يكفي لإقامة الحجة القاطعة على أن التجربة قد أخفقت أشد الإخفاق، وعلى أن أيسر التفكير يقضي بأن يحول معهد التربية عن الوزارة إلى الجامعة وقد رغب البرلمان في ذلك، ولكن وزارة المعارف ما زالت حريصة على أن تحتفظ بالمعهد خاضعًا لسلطانها.
وقد شعرت وزارة المعارف أثناء هذه التجربة المؤلمة بأن المعهد في حاجةٍ إلى الإصلاح، ففكرت في هذا الإصلاح وفكرت واستشارت فيه كلية الآداب وكلية العلوم وألفت له لجنة مشتركة منها ومن الجامعة وقد عملت هذه اللجنة وانتهت إلى نتائج رفعتها إلى وزارة المعارف في صيف سنة ١٩٣٧، وكان المنتظر أن تنفذ الوزارة ما تم الاتفاق عليه بينها وبين الجامعة، ولكنها في ذات يوم عدلت فجاءة ولأسبابٍ لا أعرفها عن هذا كله وألفت لجنة جديدة، وعرضت على هذه اللجنة طائفة من الاقتراحات الجديدة التي لم تكد تُعلَن في الصحف حتى ثار لها طلاب كلية الآداب ثورة عنيفة في وقتٍ كانوا محتاجين فيه إلى الهدوء والفراغ للدرس.
هنالك رفعتُ إلى وزير المعارف صاحب السعادة بهي الدين باشا بركات هذا التقرير الذي أثبت نصه هنا؛ لأنه يصور رأيي فيما ينبغي أن يكون لمعهد التربية من نظام، ولكني أحب أن أقول إني آثرت المرونة في هذا التقرير وعرضت على الوزير ألوانًا من النظم بعضها يلائم المصلحة حقًّا وبعضها فيه شيء من التسامح إن صح هذا التعبير، ولكنها كلها على كل حال تصلح من أمر المعهد وتهون من الشر الذي انتهى إليه.
الفكرة التي دعت إلى إنشاء معهد التربية، وهي وجوب الفصل بين الدراسة العلمية والفنية من جهةٍ والاقتصاد في المال والجهد من جهةٍ أخرى، فقد كانت مدرسة المعلمين العليا تجمع بين هاتين الدراستين فتحول بين الطالب وبين إتقان كلٍّ منهما، وكانت منذ أنشئت الجامعة تكرارًا لا حاجة إليه فيما يتصل بدراسة العلوم والآداب، فكانت تكلف الدولة أموالًا لا حاجة إلى إنفاقها وتضيع على الأساتذة والطلاب جهودًا لو أنفقت في كليتي الآداب والعلوم لكانت أنفع وأجدى.
ولكن فكرة إنشاء المعهد لم تخلص من بعض الشوائب التي حالت بينها وبين الإنتاج الصحيح ووضعت في سبيل المعهد نفسه عقبات لا بد من تذليلها بل لا بد من إزالتها؛ لأن المنفعة العامة يجب أن تكون فوق الاعتبارات الخاصة التي تحيط بحياة الأفراد والبيئات مهما تكن.
والواقع أن فكرة إنشاء المعهد لم تصادف استعدادًا حسنًا من جميع الجهات التي كان يعنيها مثل هذا الأمر، فقد كانت وزارة المعارف سيئة الظن بالجامعة إلى حدٍّ ما قليلة الثقة بنجاحها فيما رسمت لنفسها من خطة وما احتملت من تبعة، وكانت وزارة المعارف معذورة في موقفها هذا؛ لأن نظام الدراسة الجامعية كان يخالف كل ما ألفته من النظم الدراسية فكان يقع منها موقع الغرابة وربما وقع منها موقع الإنكار، وكانت تتردد في أن تعهد إلى الجامعة بتخريج المعلمين على هذا النظام الجديد، مع أن عندها مدرسة لها نظم مألوفة وقد قامت بواجبها قيامًا حسنًا. على أن الصواب انتصر آخر الأمر وقبلت وزارة المعارف في عهد حضرة صاحب المقام الرفيع محمد محمود باشا، وحين كان حضرة صاحب المعالي الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا وزيرًا لها تحويل مدرسة المعلمين إلى مدرسة فنية صرفة، والاعتماد على الجامعة في الدرس العلمي الخالص، ولكن نشأت فكرة أخرى جعلت قبول وزارة المعارف لهذا الإصلاح عقيمًا أو كالعقيم، وهذه الفكرة هي أن التعليم الفني الذي يخرج المعلمين يجب أن يكون لوزارة المعارف نفسها وأن يخضع لما هو مألوف في الوزارة من النظم والتقاليد، ومع أن مدارس المعلمين في أوروبا قد أصبحت منذ أواخر القرن الماضي أجزاء من الجامعات ومع أن الخبيرين اللذين استشارتهما وزارة المعارف في العلاقة بين مدرسة المعلمين والجامعة قد أشارا بأن يكون المعهد جزءًا من الجامعة، فقد أبت وزارة المعارف عند إنشاء المعهد إلا أن تحتفظ به ولا تجعل بينه وبين الجامعة إلا أضعف الصلات وأقلها نفعًا.
فنشأ المعهد بعيدًا عن الجامعة ولم يكد يقضي العام الأول من حياته حتى ظهر ظهورًا جليًّا أنه لا يستطيع البقاء على هذه الحال التي أنشأته عليها الوزارة.
فطلاب هذا المعهد الذين يستعدون للتعليم في المدارس الثانوية قد تخرجوا في الجامعة وتعودوا فيها نوعًا من النظام الدراسي الخاص لم يجدوه في المعهد، ثم هم أخذوا بحظٍّ من العلم مهما يكن حسنًا فهو قليل لا يصح الاكتفاء به لتكوين المعلم الصالح في المدارس الثانوية، فلا بد من أن يستمروا في الدرس العلمي إلى حدٍّ ما ليقوُّوا حظهم من العلم ويستطيع كلٌّ منهم أن يتخصص في الفرع الذي يريد أن يفرغ له، وهذه الدراسة العلمية لا يمكن أن تكون في غير الجامعة، والنظم التي فرضت على المعهد لا تمكن هؤلاء الطلاب من أن يتصلوا بالجامعة ويختلفوا إلى دروسها، وظهر ظهورًا واضحًا جدًّا أن المعهد يسير في طريق مدرسة أنشئت لتخريج علماء في التربية وفروعها وما يتصل بها من العلوم، مع أنه إنما أنشئ ليعلم الطلاب مهنة التعليم قبل كل شيء. وواضح أن الطالب إذا أنفق من حياته سنتين كاملتين في درس التربية وما يتصل بها، بَعُد العهد بينه وبين ما درس في الجامعة من العلم، حتى إذا أراد أن يعلِّم في المدارس الثانوية وجد نفسه مستعدًّا للتعليم مزودًا بوسائله الفنية، ولكنه قليل الحظ من المادة التي يجب أن يعلمها، كالرجل الذي يحسن السباحة ويتقنها ولكنه لا يجد الماء الذي يسبح فيه، أو لا يجد منه إلا قليلًا لا يسمح بالسباحة؛ ذلك أن المعهد نفسه أحس طائفة من الصعوبات حالت بينه وبين تحقيق أغراضه على الوجه الأكمل، فهو مقيد بالنظم الإدارية الدقيقة العتيقة التي تصل بين وزارة المعارف والمدارس التي تتبعها والتي تحول بين هذه المدارس وبين النمو، والتي تشكو منها هذه المدارس، وتلح في الشكوى، وقد أظهرت التجربة أن مجالس الإدارة للمدارس العليا ضيقة السلطة إلى حدٍّ لا يسمح لها بالإشراف المنتج على هذه المدارس، وقد رأينا أن مدرسة الهندسة ومدرسة الزراعة ومدرسة التجارة تشكو من هذا النظام وتلح في التخلص منه وتظهر رغبة شديدة في الاتصال بالجامعة أو في أن يكون لها نظام يشبه النظام الجامعي.
وقد تحقق لها ما كانت تتمنى فضُمَّت إلى الجامعة سنة ١٩٣٥، فلا بد إذَنْ من السعي لإخراج معهد التربية من هذا المأزق الذي لا يسمح للطلبة بالاستفادة ولا يسمح للأساتذة بالإفادة وتحقيق ما يطمحون إلى تحقيقه من الآمال، وإنما سبيل ذلك أن تسير مصر كما تسير البلاد الأخرى فتجعل معهد التربية جزءًا من الجامعة كما أن مدرسة المعلمين العليا الفرنسية جزء من الجامعة وهذه المدرسة هي فيما يظهر النموذج الصالح لمدارس المعلمين العليا، وقد طالب المعهد نفسه بذلك غير مرة ورغب فيه البرلمان السابق إلى الحكومة في دورته الأولى، وألحت فيه الجامعة نفسها وما زالت تلح.
- (١)
يضم معهد التربية إلى الجامعة المصرية على أن يكون وحدة من وحداتها المستقلة شأنه في الاستقلال شأن كلياتها السبع.
- (٢)
يكون للمعهد مجلس يتألف من أساتذته وأساتذته المساعدين وتمثل فيه وزارة المعارف تمثيلًا قويًّا كما تمثل فيه كلية الآداب وكلية العلوم؛ أما تمثيل الوزارة في هذا المجلس فلما سبقت الإشارة إليه، وأما تمثيل الكليتين فلتحقيق الصلة بين المعهد وبين المدرستين اللتين تمدانه بالطلاب وقد تمدانه بالأساتذة أحيانًا.
- (٣)
يعين وزير المعارف لهذا المعهد ناظرًا لمدة خمس سنوات يجوز أن تتجدد ويعين له وكيلًا، على أن يكونا جامعيين وأن يكون أحدهما علميًّا والآخر أدبيًّا.
فإذا قُبلت هذه الاقتراحات، ضُمن لمعهد التربية النظام الجامعي وما يستتبعه من سعة الأفق والحرية التعليمية وحرية التصرف في ميزانيته في حدود القوانين الجامعية وضمن للطلاب الاتصال المتين بكلياتهم وأساتذتهم، والقدرة على المضي في الاستعداد لنيل الدرجات الجامعية، مع الأخذ بحظهم من الدراسة الفنية، وضمن لوزارة المعارف الإشراف المعقول على هذا المعهد ما دامت ممثلة في مجلسه وما دام وزير المعارف يعين ناظره ووكيله على خلاف ما هو متبع في الكليات؛ فعميد الكلية يعينه الوزير بعد انتخاب الكلية له، ويتجدد انتخابه كل ثلاث سنين، ووكيل الكلية ينتخبه زملاؤه ولا يعينه الوزير.
وواضح جدًّا أن المعهد سيمثل في مجلس الجامعة كما تمثل الكليات وسيعد لنفسه اللوائح التي لا بد له منها ويعرضها على مجلس الجامعة لإقرارها قبل رفعها إلى الحكومة.
وبعبارة موجزة سيصبح كلية من الكليات لوزارة المعارف به صلة أقوى من صلتها بالكليات الأخرى، ويومئذ يكون الخير في أن يضع المعهد لنفسه لائحته الأساسية ولائحته الداخلية على نحو ما تفعل الكليات، وفي هاتين اللائحتين تنظم خطط الدراسة وتبسط مناهجها وبرامجها، وتُعرض هاتان اللائحتان بالطبع على مجلس فني هو مجلس الجامعة، فإذا أقرهما رُفعتا إلى معالي الوزير فعرض الأولى على مجلس الوزراء ثم على البرلمان ليصدر بها القانون، وعرض الثانية على مجلس الوزراء ليصدر بها المرسوم.
وهذه الخطة تسمح بالأناة والروية والتثبت في تنظيم المعهد ووضع ما يلائم حاجة التعليم في مصر من النظام.
وقد لا تقع هذه الاقتراحات من نفس معاليكم موقع القبول وقد تؤثرون إبقاء المعهد منفصلًا عن الجامعة، وفي هذه الحال أقترح أن يستمتع المعهد باستقلال يشبه استقلال الجامعة؛ لأن هذا الاستقلال شرط أساسي لكل تعليم حر منتج، وأن ينشأ له مجلسان: أحدهما مجلس الأساتذة وهو يتألف من أساتذة المعهد وأساتذته المساعدين، وتكون له اختصاصات مجالس الكليات، والآخر مجلسه الأعلى وتكون له اختصاصات مجلس الجامعة، ويكون متصلًا بالوزير وخاضعًا لرقابته غير متأثر برقابة المكاتب في وزارة المعارف؛ لأن هذه الرقابة لن تنفعه وقد تضره ولا سيما بعد أن لم تبقَ في وزارة المعارف إدارة للتعليم العالي.
ولا بد من أن تمثل في هذا المجلس الأعلى جهات ثلاث؛ الأولى: المعهد نفسه، والثانية: وزارة المعارف التي تستمد من المعهد ما تحتاج إليهم من المعلمين، والثالثة: الجامعة ولا سيما كلية العلوم وكلية الآداب؛ لأنهما تمدانه بالطلاب، ولا بد من تحقيق التعاون الدقيق بينهما وبين المعهد.
والخير حينئذ في أن يضع المعهد لنفسه لائحته الأساسية ولائحته الداخلية على نحو ما اقترحت لو ضم المعهد إلى الجامعة.
- الأول: أن وزارة المعارف، إلى الآن، لم تفرق بين فكرتين لا بد من التفريق
بينهما: الأولى: تخريج أساتذة إخصائيين في التربية وما يتصل بها من العلوم.
والثانية: تخريج أساتذة يدرسون في المدارس الثانوية فروع العلم المختلفة، وقد نشأ عن اختلاط هاتين الفكرتين أن فرض التعمق في التربية وعلومها وفنونها على قوم سيعلمون التاريخ أو الجغرافيا أو اللغات الأجنبية مع أنهم لا يحتاجون إلى هذا التعمق، وإنما يحتاجون إلى ما يعلمهم مهنة التدريس، ولعلهم أشد حاجة إلى أن يتعمقوا في الفروع التي سيعلمونها في المدارس، ونحن نشكو الآن من أن المعلمين في المدارس الثانوية ضعاف الحظ من التخصص في المواد التي يدرِّسونها، فلا بد من تقوية حظهم من هذا التخصص ولا بد من ألا نرهقهم بما لا يحتاجون إليه ليفرغوا ما يحتاجون إليه.
وإذَنْ ففرض سنتين على الطلاب بعد تخرجهم من الجامعة دون تفريق بين من يتخصص في التربية ومن يتخصص في أي فرعٍ آخر من فروع العلم إسراف لا بد من إصلاحه، وأنا أعتقد أن الطريقة التي اقترحتها اللجنة المشتركة بين الوزارة والجامعة لتخريج المعلمين هي الطريقة المثلى؛ فهي تقتضي أن يختار الطلاب للمعهد من كليتي العلوم والآداب بعد أن ينفقوا فيهما سنتين، وأن يكون اختيارهم بنحوٍ من المسابقة، ثم يقبل هؤلاء الطلاب على النظام الداخلي في المعهد فيخضعون فيه للرقابة الدقيقة التي يحتاج إليها المعلم ليتعود النظام والدقة في التفكير وفي القول وفي السيرة أيضًا، ويسمعون في المعهد بعض المحاضرات والدروس التي تتصل بالتربية وفنونها، على أن تكون قليلة ولكن متقنة ويكلفون أثناء ذلك الاختلاف إلى دروس الجامعة حتى يظفروا بدرجة الليسانس أو البكالوريوس، ويجوز بعد ذلك أن يكلفوا التعليم في المدارس على سبيل التمرين وأن يستمر استماعهم لبعض المحاضرات والدرس في المعهد، على أن يُمنَحوا مرتبات متواضعة في السنة الأولى، فإذا أتموها وظفروا بإجازة المعهد ثبتوا في مناصبهم ومُنحِوا مرتباتهم كاملة.
أما الذين يراد تخصيصهم في علوم التربية فهؤلاء يبقون في المعهد سنتين كاملتين بعد التخرج من الجامعة، وقد يحسن أن يُكلَّفوا الحصول على درجة جامعية في علوم التربية، ومن هؤلاء يكون نظار مدارس المعلمين وأساتذة التربية فيها وبعض المفتشين في الوزارة، والذين يمكن أن تعتمد الوزارة عليهم في كل ما يتصل بشئون الطفولة وشئون التعليم الأولي بوجهٍ عام.
- الأمر الثاني: أنه لا يكفي أن يظفر الشاب بدرجةٍ جامعية وإجازة من معهد
التربية ليكون معلمًا مرضيًا من جميع الوجوه؛ بل لا بد من أن يتاح لهؤلاء
الشبان الاتصال الوثيق بالجامعة والظفر بدرجاتها العلمية العليا، ذلك يمكنهم من
إتقان علومهم وقد يكون من بعضهم الأخصائيون الأفذاذ الذين ينتجون في العلم
إنتاجًا حسنًا ويرتقون إلى التعليم في الجامعة نفسها.
ومن أجل هذا يجب ألا تُقطَع الصلة بينهم وبين الجامعة، وألا يُكتفَى من هذه الصلة بأيسرها وأهونها وإنما يمكن الطلاب من الاختلاف إلى دروس الجامعة ويجعل حصولهم على درجة الماجستير شرطًا لتكليفهم التعليم الثانوي كما أن الحصول على درجة الدكتوراه شرط للتعليم في الجامعة.
- الأمر الثالث: أن الشاب الذي يتهيأ للتعليم محتاج إلى شيئين يظهران متناقضين ولكنهما في حقيقة الأمر يكمل كلٌّ منهما صاحبه؛ محتاج إلى هذه المراقبة الشديدة التي تعوده ما أشرت إليه من النظام في التفكير والقول والعمل، ومحتاج في الوقت نفسه إلى هذه الحرية العلمية الواسعة التي لا تكاد تُحَد، والتي هي الشرط الأول والأخير لخصب العقل والإنتاج العلمي الصحيح.
وما أظن أن تحقيق هذين الأمرين ممكن إلا بأن يعيش طلاب معهد التربية في الجو الجامعي الحر، وأن يعيش طلاب الجامعة في جو معهد التربية المنظم الدقيق.
وأرى أني آخر الأمر قد رجعت إلى اقتراحي الأول: وهو أن يصبح معهد التربية جزءًا من الجامعة، ولست أدري ما الذي يمنعنا من ذلك ومصر هي البلد الوحيد الذي يفصل بين معهد التربية وبين الجامعة.
لذلك أرجو أن يكون الله عز وجل قد أتاح لهذه الفكرة الإصلاحية الكبرى فرصة النفاذ فتقتنع بها معاليكم ويجعل تحقيقها على يديكم فذلك خير ما نتمنى لمصلحة التعليم والمتعلمين.
ولكن بهي الدين باشا بركات لم يطل إشرافه على وزارة المعارف، ولم يتح له أن يقضي في أمر معهد التربية، على أني أسجل له مع الشكر والثناء أنه لم يكد يتحدث إليَّ في أمر المعهد ويسمع مني ويتلقى هذا التقرير حتى وقف كل إجراء كان قد اتخذ، ووعد بأن يدرس الأمر على مهل، وألا يقضي فيه حتى تكون بينه وبين الجامعة مناقشة عميقة تنتهي إلى الاقتناع بما يحقق مصلحة التعليم.
ثم أعجل الرجل عن ذلك فترك الوزارة، وعرضت قضية المعهد مرة أخرى على صاحب المعالي هيكل باشا، وقد عني هيكل باشا بهذه القضية عناية خاصة؛ فألف لها ولغيرها من شئون إعداد المعلمين لجنة تولى رياستها ومثلت فيها الجامعة والوزارة، ودرست اللجنة هذا الموضوع درسًا عميقًا، وانتهت من هذا الدرس إلى نتائج إن لم تحقق أمل الجامعة كله فقد حققت منه مقدارًا لا بأس به، حققت جوهره وهو أن يُتخير الطلاب لمعهد التربية بين زملائهم من طلاب كليتي الآداب والعلوم إذا بلغوا السنة الثالثة، وأن تشرف عليهم لجنة من المعهد والجامعة إشرافًا متصلًا دقيقًا يمس درسهم ويمس حياتهم اليومية، ويهيئهم للحياة المنظمة والبحث المنظم، فإذا ظفروا بالدرجة الجامعية أقاموا في المعهد سنة يحسنون في أثنائها ما يحتاجون إليه من مواد التربية وفن التعليم.
ولست أدري وأنا أملي هذا الحديث إلام صارت هذه النتائج التي انتهت إليها اللجنة، ولكني أعلم أنها أقل ما يمكن لإعداد المعلم الصالح.
وقد كدت أنسى نتيجة عظيمة الخطر انتهت إليها اللجنة: وهي إلغاء القسم الابتدائي من معهد التربية، والرجوع إلى رأي الجامعة الذي يريد ألا ينهض بشئون التعليم العام إلا الجامعيون؛ لأن التعليم الابتدائي في حقيقة الأمر ليس إلا أول التعليم الثانوي.
وبعد، فأنا واثقٌ كل الثقة بأن إصلاح معهد التربية رهين بضمه إلى الجامعة لأسبابٍ سأعرض لها في غير هذا الموضع، ولكن ما انتهى إليه المعهد من هذا الاستقلال الذي أرجو أن يكون صحيحًا مجديًا خير من لا شيء.