إعداد معلم اللغة العربية
ولون آخر من ألوان الاضطراب اضطرتنا إليه ظروف حياتنا العقلية في القرن الماضي، ولكننا لم نستطع أن نخلص منه إلى الآن، ويظهر أننا قد نحتاج إلى زمن طويل لنخلص منه؛ لأنه معقد في نفسه بعض الشيء ولأن السياسة وشهواتها تزيده في كل يوم تعقيدًا إلى تعقيد: وهو هذا الذي يتصل بإعداد المعلمين للغة العربية.
فقد أحس المشرفون على شئون التعليم منذ أكثر من نصف قرن أن تعليم اللغة العربية محتاج إلى كثيرٍ من العناية ليصبح ملائمًا للتقدم الذي ظفرنا به في التعليم المدني، وأحسوا أن الأزهر لا يستطيع أن ينهض بهذه المهمة لمكانه حينئذٍ من الإسراف في المحافظة، والامتناع على التجديد، والعجز عن أن يسيغ العلم الحديث، بل عن أن يقبل التفكير فيه، وأحسوا أن تكوين المعلم للغة العربية يجب أن يجاري إلى حدٍّ بعيد تكوين المعلم لأي مادةٍ من مواد العلم، ولكنهم نظروا فرأوا من جهة أن الذين يتعلمون في المدارس المدنية لم يُهيَّئوا تهيئة صالحة للنهوض بهذه المهمة؛ لأنهم لم يأخذوا بحظٍّ معقول من الثقافة العربية الإسلامية التي هي الأصل لكل تخصصٍ في اللغة وآدابها، ورأوا من جهةٍ أخرى أن بين اللغة العربية وبين الدين صلة قوية لا تُجحَد، وأن انتزاعها في عنف من الأزهر قد يثير الخواطر كما يقال، وقد يحدث من الاضطراب ما لا حاجة إليه، ففكروا في إنشاء مدرسة خاصة تكون شيئًا وسطًا بين التعليم القديم والتعليم الحديث وتكون صلة بين الأزهر وبين الحياة؛ يؤخذ فيها طلاب أزهريون قد تثقفوا إلى حدٍّ حسن بالثقافة العربية الإسلامية ثم يثقفون من أصول العلوم المدنية وفروعها بمقدارٍ معقول ثم يُكلَّفون تعليم اللغة العربية في المدارس العامة، ومن أجل هذا كله أنشئوا مدرسة دار العلوم.
وما من شكٍّ في أن إنشاء دار العلوم قد كان في أواخر القرن الماضي خطوة موفقة تدل على شعورٍ صادق بحاجة التعليم الحديث وتدل على تقدير حسن لظروف الحياة السياسية والاجتماعية وتدل على الرغبة في أن يكون التطور في مصر معتدلًا بريئًا من الغلو والعنف.
وما من شكٍّ أيضًا في أن دار العلوم قد حققت ما كان يُنتَظر منها فأنشأت أجيالًا من المعلمين أدنى إلى التجديد من أجيال الأزهر وأحرص على المحافظة من أجيال التعليم المدني.
وقد نهضت هذه الأجيال بتعليم اللغة العربية على وجهٍ لعله لاءم ما كانت تريده وزارة المعارف، وما كانت تريده بيئات المدارس المدنية، ولكني مخلص كل الإخلاص، صادق كل الصدق، حين أقرر أن هذه الأجيال من خريجي دار العلوم لم تحقق من إحياء اللغة العربية وآدابها ما كان خليقًا أن يظن بها، وحريًّا أن ينتظر منها.
ودار العلوم قد أخرجت من غير شكٍّ أساتذة نابهين لهم فضل كثير على هذه الأجيال التي تعاقبت على مصر من المتعلمين في الخمسين سنة الأخيرة، ولكني لست مقتنعًا، وقد لا يكون من السهل أن أقتنع، بأنهم قد أحدثوا في حياة اللغة العربية شيئًا ذا خطر، أو أضافوا إلى تراثها شيئًا خليقًا بالبقاء.
وقد تطور الأدب العربي في موضوعه ومادته، كما تطور في أشكاله وصوره أثناء هذا العصر الحديث، فنشأت فيه فنون لم تكن معروفة كما ارتقت أساليبه ارتقاء يوشك أن يكون طفرة، ولكن من المحقق أن دار العلوم لم تكد تشارك في شيءٍ من هذا إلا بمقدارٍ ضئيل جدًّا لا يلائم ما كانت خليقة أن تحدث من النتائج والآثار.
فكبار الشعراء الذين امتاز بهم أدبنا المصري في هذا العصر لم يخرجوا من دار العلوم، ولم يتلقوا العلم عن أساتذتها، وما أعرف أن حافظًا أو شوقي أو صبري أو البارودي أو غيرهم من شعرائنا الأفذاذ قد اختلفوا إلى دروس العلم في هذه المدرسة الموقرة، وكبار الكتاب الذين قادوا الرأي المصري منذ أواخر القرن الماضي لم تخرج كثرتهم من هذه المدرسة، ولم تتلقَّ فيها العلم، وما أعرف أن لطفي السيد وهيكلًا ومصطفى عبد الرازق وعباس العقاد وإبراهيم المازني وأمثالهم من الكتاب الذين نشَّئُوا العقل المصري في هذه الأجيال الحديثة قد كانوا من تلاميذ دار العلوم، وكبار المصلحين والمفكرين في الدين والسياسة وشئون الاجتماع لم يخرجوا من هذه المدرسة أيضًا، وما أعرف أن محمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين قد خرجوا من هذه المدرسة أو اختلفوا إليها.
فالإنتاج الأدبي الذي تعتمد عليه نهضتنا المصرية الحديثة قليل التأثر جدًّا بهذه المدرسة، وليس من شكٍّ في أن من يؤرخ الآداب المصرية في هذا العصر مضطر إلى أن يرد هذا الإنتاج إلى مصدرين عظيمين: أحدهما الأزهر نفسه، والآخر التعليم المدني الحديث.
فأما الأزهر فقد كوَّن جماعة من المفكرين والكتاب تكوينًا أزهريًّا خالصًا، ثم أتيح لهذه الجماعة أن تتصل بالحياة العاملة، وأن تتثقف بالثقافة المدنية، فنبغت نبوغًا ظاهرًا، وتركت في حياة مصر آثارًا باقية، وحسبك بما تركه محمد عبده وسعد زغلول.
وأما التعليم الحديث فقد صادف عقولًا ممتازة، وقلوبًا ذكية قاومت ضعف التعليم المصري وفساده واضطراب أموره، فخرجت منه مبرزة متفوقة، وأتمت ما كان ينقصها، وسيطرت على الحياة العقلية وعملت في تكوين الأجيال الحديثة، وما زالت تعمل في قوة وخصب ونشاط؛ فقد خرج المازني من مدرسة المعلمين العليا، ولم يتم العقاد درسه في المدارس العامة، وخرج هيكل من مدرسة الحقوق، وقل مثل هذا في أمثالهم، وأعجب لفريقٍ منهم لم يذهب إلى أوروبا ولم يختلف إلى جامعاتها، ولكنه على ذلك قد أبلى في إصلاح الحياة العقلية المصرية بلاء مجيدًا لم يبلغ بعضه كثير من الذين ذهبوا إلى أوروبا، وعادوا منها بالإجازات والدرجات، فإذا أردنا أن نذكر بعض الذين أخرجتهم دار العلوم لم نستطع أن نجد بينهم من نقيسه إلى هؤلاء وأمثال هؤلاء من الذين أخرجهم الأزهر والتعليم المدني الحديث.
بل إن إخفاق دار العلوم قد كان أبعد مدى مما ذكرنا، وعزيزٌ عليَّ أن أقول هذا وأن أكرره ولكنه حق ليس إلى إخفائه من سبيل؛ فإن دار العلوم لم تنجح فيما كان ينبغي أن تنجح فيه من تجديد علوم اللغة العربية وإصلاحها والملاءمة بينها وبين حاجات الحياة الحديثة، وإنما نجحت في الاختصار والاختزال، فما زال النحو والصرف وعلوم البلاغة كما كانت قبل أن تنشأ دار العلوم، ولكن الذين خرجوا من دار العلوم قد اختصروا واختزلوا وألفوا لطلاب المدارس متونًا كمتون الأزهر عليها مسحة من الجدة ولكنها في جوهرها متون لا أكثر ولا أقل، بل لم توفق دار العلوم إلى ما كان ينبغي أن توفق إليه من تحبيب اللغة العربية إلى نفوس التلاميذ وتزيينها في قلوبهم، فضلًا عن تقويتهم فيها، وتثقيفهم الصحيح بها، وتمكينهم من أن ينتجوا ما كان ينبغي من الآثار الأدبية القيمة.
ومن المحقق أن العقاد والمازني وهيكلًا وأمثالهم قد أنتجوا من هذه الناحية أكثر جدًّا مما أنتجت دار العلوم؛ فهم قد كونوا لأنفسهم آراء في الأدب، وهم قد ألقوا هذه الآراء في نفوس الشباب، وهم قد جمعوا حولهم من هؤلاء الشباب تلاميذ تأثروهم وساروا سيرتهم، ولم تستطع دار العلوم أن تبلغ من هذا شيئًا، ومصدر هذا الإخفاق الذي اضطرت إليه دار العلوم اضطرارًا أنها لم تكن طبيعية، وأن التعليم فيها لم يكن ملائمًا لمنطق الأشياء، فهي قد أعرضت عن تعمق العلوم الإسلامية كما يفعل الأزهريون وهي لم تستطع أن تتعمق العلوم المدنية كما تفعل المدارس العامة؛ وهي إذن تخرج أجيالًا من المعلمين المضطربين بين القديم والجديد لا يستقرون في ناحيةٍ ولا في أخرى؛ لأنهم لم يُهيَّئُوا للاستقرار في هذه الناحية أو تلك، ولست أخفي عليك ولا على نفسي أني أرحم الذين أخرجتهم دار العلوم وأشفق عليهم أشد الإشفاق؛ فهم ضحايا هذا التطور الحديث، إذا تحدثوا إلى الأزهريين في علومهم الأزهرية لم يستطيعوا أن يثبتوا لهم؛ لأنهم لم يدرسوا ما درسوا، وإذا تحدثوا إلى المدنيين في علومهم المدنية لم يستطيعوا أن يثبتوا لهم؛ لأنهم لم يأخذوا بمثل حظوظهم من الثقافة، فهم ضائعون بين أولئك وهؤلاء، وأغرب الأمر أنهم ليسوا ضائعين بالقياس إلى الحياة الثقافية وحدها، بل هم ضائعون بالقياس إلى الحياة المادية أيضًا؛ فقد أصلحت الشئون المادية للأزهر حتى ظفر كثير من علمائه بحياةٍ راضية تلائم ما ينبغي لهم من الكرامة وراحة البال، وأصلحت شئون المعلمين المدنيين وفُتحت لهم أبواب من الرقي وحسنت حالهم بعض الشيء وإن كانوا بعيدين كل البعد عن أن يبلغوا ما ينبغي لهم من الأمن والراحة والاطمئنان، ولكن الذين خرجوا من دار العلوم ما يزالون يلقون من الجهد والضنك والضيق ما لا يلقاه أولئك ولا هؤلاء.
على أن اضطرابنا في أمر تعليم اللغة العربية لم يقف عند هذا الحد، وإنما أضيف إليه ما زاده تعقيدًا إلى تعقيد؛ فقد أنشئت الجامعة المصرية، وأنشئت فيها كلية الآداب، وأنشئ في هذه الكلية قسم اللغة العربية واللغات الشرقية، وجعلت كلية الآداب تطمع في أن تزاحم دار العلوم على تعليم اللغة العربية في المدارس العامة، وتنافسها فيه، وتزعم أنها أملك لهذا التعليم، وأقدر على النهوض به؛ لأن طلابها يدرسون من العلم ما لا يُدرس في دار العلوم، ويحصِّلون من الثقافة ما لا يُحصَّل في دار العلوم. وفي أثناء هذا تطور الأزهر، وشرعت له قوانين جديدة، وأراد أن تكون له كليات كما أن للجامعة كليات، فظفر بما أراد وأُنشئت فيه كلية اللغة العربية، وكان الأزهر أمهر من الجامعة ومن دار العلوم حين هيأ قانونه الجديد، فلم يقنع بما كان ينبغي أن يقنع به من تكليف كلية اللغة العربية فيه تخريج المعلمين للغة العربية في كلياته ومعاهده، ولكنه أراد، وقبلت منه الدولة وأثبتت له في القانون، أن يكون من حقه تخريج المعلمين للغة العربية في مدارس الدولة على اختلافها.
ونشأ عن هذا الاضطراب العظيم اختلاط عظيم مثله؛ ففي مصر الآن معاهد ثلاثة تخرج المعلمين للغة العربية، هي: دار العلوم، وكلية الآداب في الجامعة، وكلية اللغة العربية في الأزهر، والدولة حائرة بين هذه المعاهد الثلاثة، لا تدري كيف تصنع، ولا تعرف كيف تقول، لا تستطيع أن ترد دار العلوم عن تعليم اللغة العربية، وهي قد أنشأتها لهذا الغرض، ولا تستطيع أن ترد كلية الآداب عن تعليم اللغة العربية، وهي قد أنشأتها بقانون، وهي تنفق عليها الأموال الطائلة، وهي تأخذ منها المعلمين للمواد الأخرى، وهي تجرب أبناءها في تعليم اللغة العربية، فتحمد التجربة ويشهد بذلك المفتشون من أبناء دار العلوم أنفسهم، ولا تستطيع أن ترد الأزهر عن تعليم اللغة العربية؛ لأنها قد اعترفت له بهذا الحق في قانون أقره البرلمان، ومع ذلك فلا ينبغي أن تلوم الدولة إلا نفسها، فقد رُفِعت إليها المشورة، وأهديت إليها النصيحة، ولكنها لم تسمع لناصح، ولم تحفل بمشيرٍ نصح لها بألا تقبل من الأزهر ما طمع فيه؛ لأن الأزهر معهد للتعليم الديني الخالص لا لتخريج المعلمين في المدارس المدنية، ولأن التعليم في المدارس المدنية يقتضي أن تشرف وزارة المعارف على تكوين المعلم إشرافًا ما، وأن تمنحه هي إجازة التعليم، ولأن المعلم الذي سيخرجه الأزهر سيكون خاضعًا لسلطانين: أحدهما مدني في الوزارة، والآخر ديني في الأزهر، فلم تحفل بذلك لأنها كانت خائفة من الأزهر، ولأن ظروف السياسة كانت تفرض عليها هذا الخوف.
ونصح لها بأن تضم دار العلوم إلى الجامعة على أن تكون فيها مدرسة اللغة العربية واللغات الشرقية، وعلى أن يذهب الذين يريدون من طلابها التخصص في تعليم اللغة العربية إلى معهد التربية كغيرهم من طلاب الآداب والعلوم، فلم تحفل بذلك ولم تسمع له لأنها كانت خائفة من دار العلوم، ولأن ظروف السياسة كانت تفرض عليها هذا الخوف.
والمضحك المؤلم من أمر وزارة المعارف أنها تشكو دائمًا من إخفاق دار العلوم، وأن حمى هذه الشكوى تلم بها في كل عام حين تظهر نتائج الامتحانات، وأنها مع ذلك لا تستطيع أن تواجه الإصلاح، ولا أن تقدم عليه، وقد أذكر أني رفعت إلى مدير الجامعة حين كان الأستاذ نجيب الهلالي باشا وزيرًا للمعارف سنة ١٩٣٥ تقريرًا أطلب فيه ضم دار العلوم إلى الجامعة بعد أن ضمت إليها مدارس التجارة، والزراعة، والهندسة، والطب البيطري، وأبين فيه رأيي فيما ينبغي لإعداد معلم اللغة العربية، وطلبت إليه أن يرفع هذا التقرير إلى وزير المعارف من جهة، وإلى مجلس الجامعة من جهة أخرى، وقد رفع مدير الجامعة هذا التقرير إلى وزير المعارف، ثم حاولت أن أتكلم فيه مع الوزير، فطلب إليَّ باسمًا ألا أعيد الحديث في هذا الموضوع؛ ذلك لأنه استشار واستخار، وجس النبض هنا وهناك كما يقال، فأحس مقاومة تريد أن تكون عنيفة من دار العلوم والأزهر جميعًا، وعرض مدير الجامعة هذا التقرير على مجلس الجامعة، فألف المجلس لدرسه لجنة جامعية اشترك فيها — إن صدقتني الذاكرة — صاحب السعادة مصطفى عبد الرازق باشا، وصاحب السعادة بدوي باشا، وصاحب العزة عشماوي بك وكيل وزارة المعارف، وصاحب العزة الأستاذ الشيخ أحمد إبراهيم بك أستاذ الشريعة في كلية الحقوق، وكنت أنا من أعضائها، وكانت رياستها إلى مدير الجامعة، وقد درست اللجنة هذا التقرير، ودرست مناهج التعليم في هذه المعاهد الثلاثة، واقترحت على مجلس الجامعة قبول هذا التقرير، والتحدث فيه إلى وزارة المعارف بشرط أن يوسع منهج الدراسة العربية في كلية الآداب بعض الشيء.
وأقر المجلس اقتراح اللجنة، وطلب إلى المدير أن يتصل في شأنه بوزارة المعارف، وأكبر الظن أنه فعل، وأن وزير المعارف طلب إليه باسمًا أن يؤجل الحديث في هذا الموضوع.
وأنا أثبت هنا نص ذلك التقرير؛ لأنه يصور رأيي الذي لم يتغير في النظام الذي ينبغي أن يُتَّخذ لإعداد المعلم للغة العربية، ولست مكلفًا أن ينفذ ما أطلب من الإصلاح، ولكني مكلف إذا رأيت الرأي أن أعلنه وأناضل عنه، وعلى غيري أن يحتمل ما قد يتعرض له من تبعات الإعراض عن الخير حين يُدعَى إليه.
حضرة صاحب المعالي الأستاذ الجليل مدير الجامعة المصرية
أتشرف بأن أرفع إلى معاليكم طائفة من الملاحظات دعا إليها التفكير في تعليم اللغة العربية وآدابها، لا في كلية الآداب وحدها، بل في غيرها من المعاهد والمدارس أيضًا.
- (١)
الناس مجمعون على أن تعليم اللغة العربية وآدابها في حاجةٍ شديدة إلى الإصلاح، وعلى أن تلاميذنا وطلابنا لا يستفيدون من الجهود العنيفة التي تُبذَل لتعليمهم لغتهم كما كان ينبغي أن يستفيدوا، إنما هم يشعرون بشيءٍ غير قليل من الوحشة إذا أخذوا في درس اللغة العربية وآدابها لا يشعرون بمثله حين يأخذون في درس اللغات والآداب الأوروبية وليس لهذا كله في حقيقة الأمر إلا سببان أساسيان: الأول: أن تعليم اللغة العربية وما يتصل بها من العلوم والفنون ما زال قديمًا في جوهره بأدق معاني هذه الكلمة؛ فالنحو والصرف والأدب تُعلَّم الآن كما كانت تُعلَّم منذ ألف سنة، مهما تكن المظاهر المادية التي يتكلفها المعلمون والطلاب من اختلاف إلى المدارس المدنية لا إلى المساجد، ومن جلوس على المقاعد لا على الحُصر، ومن استخدام لهذه الأدوات المادية التي لم يكن يستخدمها المتقدمون.
فكل هذه المظاهر لا تدل على شيءٍ ولا تنتهي إلى شيءٍ جوهري، ما دام المذهب في تعليم الإعراب والتصريف وغيرهما من أنواع العلم هو بعينه المذهب الذي كان يسلكه البصريون والكوفيون وأهل بغداد في العصر القديم، ولن ينتج تعليم اللغة العربية وآدابها نتائجه المعقولة في هذا العصر الحديث إلا إذا تطورت علوم اللغة العربية، وصيغت في صيغٍ حديثة لا تمس جوهرها وإنما تقربها إلى النفوس، وتلائم بينها وبين مقتضيات الحياة في هذا العصر، فالأمر في اللغة والأدب كالأمر في الطبيعة والرياضة، فماذا تكون الحال لو مضينا في تعليم الطبيعة والرياضة الآن على نحو ما كان يمضي عليه القدماء، وتجنبنا، لا أقول تنمية العلم، بل تغيير صيغه وأشكاله التي يُلقَى فيها إلى الطلاب، فلا جرم يعرض الطلاب عن الطبيعة والرياضة إعراضًا؛ لأن العقل الإنساني يرقى ويتطور، فلا بد من أن يقدم له الغذاء الذي يلائم رقيه وتطوره.
ولست أزعم أن الأمر يقضي بإحداث ثورة عنيفة على القديم وتغيير العلوم اللغوية والأدبية فجأة وفي شيءٍ يشبه الطفرة، وإنما أزعم أن قد آن الوقت الذي يجب فيه أن نؤمن بأن العلوم اللسانية، كغيرها من العلوم، يجب أن تتطور وتنمو وتلائم عقول المعلمين والمتعلمين وبيئتهم التي يعيشون فيها، وحاجاتهم التي يدفعون إليها. ومتى آمنا بذلك فإن هذا التطور سيأتي من غير شكٍّ وسيتحقق شيئًا فشيئًا، ولكن لا بد من أن تمهد له الطريق، وهنا يظهر السبب الثاني الذي أشرت إليه آنفًا: وهو أن معلم اللغة العربية الذي يستطيع أن ينهض بتعليمها كما ينبغي لم يوجد بعد؛ فإن القديم لا ينتج إلا قديمًا مثله ما دام التطور لم يمسسه. وقد أنشئت دار العلوم منذ أكثر من نصف قرن، فكان إنشاؤها في نفسه نهضة حسنة، وفتحًا لباب التطور، وآتت هذه المدرسة آثارًا ملائمة للعصر الذي أنشئت فيه، ولكن أسباب الرقي لم تُمدَّ لها فلم تخطُ إلا خطوات ثم وقفت عند حدٍّ لم تتجاوزه، ومضى كل شيء من حولها قدمًا حتى أصبحت هي الآن معهدًا قديمًا بين المعاهد القديمة.
ولا بد من ملاحظة أمرين:- أولهما: أن معلم اللغة العربية محتاج أشد الحاجة إلى أن يكون قادرًا على أن يفهم الصلة بين مادة اللغة العربية وأصولها السامية الأولى.
- الثاني: أن هذا المعلم محتاج إلى أن يكون واسع العقل، مهيأً لفهم الصلات الكثيرة المعقدة بين الأدب العربي قديمه وجديده وبين الآداب الأجنبية قديمها وجديدها أيضًا، وهو لهذا كله في حاجةٍ إلى أن يتغير تكوينه عما هو عليه الآن تغييرًا تامًّا، فيجب أن يدرس اللغات السامية درسًا حسنًا، ويجب أن يتقن بعض اللغات الشرقية الإسلامية الحية، في شيءٍ من التنويع والتخيير بين هذه المواد، بحيث يكون بين المعلمين من يحسن اللغات السامية ومن يحسن اللغات الشرقية، ومن يحسن هذه اللغة الغربية أو تلك، وبحيث يوجد هذا الجيل المثقف ثقافة راقية، والذي يتكون من جماعة يتقسمون فيما بينهم أنواع العلم والأدب، وينتجون في نواحيها المختلفة إنتاجًا يظهر أثره في تكوين العقلية الجديدة للمعلمين ثم للمتعلمين.
- (٢)
هذا الجيل الجديد من المعلمين وحده قادر على أن يفهم حاجات اللغة العربية وآدابها، وعلى أن يلائم بينها وبين عقول الشباب في هذا العصر الحديث، وعلى أن يلقيها إليهم إلقاءً قريبًا سهلًا يمكنهم من إساغتها ومن إمدادها بما يلائمهم من حياة، ومهما تبذل الدولة من جهد، ومهما تنفق من مال فلن تبلغ من إصلاح التعليم اللغوي والأدبي شيئًا حتى يظفر بإنشاء هذا الجيل من المعلمين.
- (٣)
والوسيلة إلى إنشاء هذا الجيل بينة، فيجب أن تنهض الجامعة بتهيئة معلم اللغة العربية كما تنهض بتهيئة معلم الجغرافيا والتاريخ والطبيعة والكيمياء، وعلى النحو الذي تهيئ به هذين المعلمين؛ أي على النحو الحديث الذي يُهيَّأ به الشباب لدرس العلوم الحية المعاصرة.
والجامعة وحدها فيما أعتقد قادرة على النهوض بهذه المهمة الخطيرة لأنها:- أولًا: تمثل العقل العلمي ومناهج البحث الحديثة، وتتصل اتصالًا مستمرًّا مباشرًا بالحياة العلمية الأوروبية، وتسعى إلى إقرار مناهج التفكير الحديث شيئًا فشيئًا في هذا البلد.
- ثانيًا: لأنها تملك من الوسائل المعنوية والمادية ما لا يملكه غيرها من معاهد العلم في مصر.
- ثالثًا: لأنها حديثة العهد بالوجود، فهي وليدة الحضارة الحديثة لا تثقلها ولا ترهقها هذه التقاليد العتيقة التي تثقل غيرها من المعاهد في مصر.
فهي حرة بطبعها وهي تعمل عن إرادة وتفكير واختيار للأصلح، لا عن مراعاة في العلم والتعليم لهذه الظروف أو تلك، ولهذه البيئات أو تلك. وسُنَّة الجامعة فيما أعلم هي المحافظة على تراثنا القديم دون الوقوف عنده أو اضطراره إلى الجمود بل مع تغذيته من الجديد المستحدث بما يمكنه من الحياة والنمو والنشاط.
هذا العقل الجامعي أو هذا الروح الجامعي وحده قادر على أن يفهم حاجات اللغة العربية والأدب العربي ويحققها كما فهم حاجات العلم وجدَّ في تحقيقها، وإذا كان ضم المدارس العليا إلى الجامعة يصلح من أمرها ويزيد حظها من النمو والخصب، ويمنحها الحرية العلمية والفنية التي لا بد منها لكل إنتاجٍ نافع؛ فإن ضم دار العلوم إلى الجامعة يمنحها الحياة ويعصمها من الموت.
فدار العلوم إن تُركت كما هي منتهية إلى إحدى اثنتين: إما أن تبقى متصلة بالوزارة، متأثرة بقيود البيروقراطية فتشقى ويشقى بها المصريون جميعًا؛ لأنها تخرج معلمين مهما يحسنوا قديمهم، فلن يستطيعوا الملاءمة بينه وبين حاجات العصر الحديث، وإما أن تفنى في الأزهر الشريف، وحسبك بهذا الفناء مثيرًا للحزن والأسى.
فللأزهر الشريف مستقبل، قد يكون مزهرًا سعيدًا خصبًا، ولكنه على كل حالٍ مشكوك فيه؛ لأن الطريق أمام الأزهر ما زالت غامضة مبهمة، شديدة الغموض والإبهام، ولأن الظروف الخاصة والعامة التي تحيط بالأزهر ما زالت غامضة مبهمة شديدة الغموض والإبهام أيضًا، ونحن نرجو أن يوفق الأزهر إلى النهوض بمهمته الدينية الخطيرة، ولن يتردد مسلم بل لن يتردد مصري يحب مصر في إعانة الأزهر على النهوض بهذه المهمة، ولكن هذه المهمة تكفيه ولعلها أن تتجاوز طاقته، فليس من حسن الرأي ولا من النصح للغة العربية وآدابها ولا من الإخلاص للشباب المتعلمين أن نثقل الأزهر فنكلفه مهمة جديدة هي تخريج المعلمين لمدارس الدولة في الوقت الذي لا يستطيع فيه أن ينهض بمهمته الأولى.
- (٤)
واتصال التعليم الأزهري والشهادات الأزهرية بوزارة المعارف غير واضح بل غير موجود، والأصل في بلاد الأرض كلها أن الذين يعلمون في مدارس الدولة يجب أن يسيطر وزير المعارف نوعًا ما على تعليمهم وعلى تهيئتهم لفن التعليم، ويجب أن يتلقوا إجازاتهم العلمية والتعليمية من وزير المعارف، ويجب ألا يخضعوا حين ينهضون بالتعليم لغير السلطات التعليمية المدنية سواء أكانت هذه السلطات سلطات الجامعة ورئيسها الأعلى أم سلطات وزارة المعارف ووزيرها.
وواضح جدًّا أن هذه الأصول المقررة في جميع البلاد المتحضرة من غير استثناء لا تلائم مطلقًا ما ينتهي إليه الأمر إذا ترك للأزهر تخريج معلم اللغة العربية وآدابها لمدارس الدولة.
وقد أشرت غير مرة إلى أن نظام هيئة كبار العلماء يمحو أو يقيد على أقل تقدير سلطان الدولة تقييدًا خطرًا إذا تخرج المعلمون من الأزهر، فيكفي أن تخرج الهيئة أحد هؤلاء المعلمين من زمرة العلماء الدينيين ليكون وزير المعارف ملزمًا بفصله من منصبه، وفي هذا محو لهذه الحرية العقلية التي هي أول ما يجب للمعلم من الحق، وفيه كما يظهر إلحاق لمدارس الدولة كلها ولوزير المعارف معها بسلطان الأزهر الشريف.
فهب هذا النظام غُيِّر، وهب أن هذا الحرج قد أُزيل، فسيبقى شيء آخر خطر، وهو أن مدارس الدولة ستكون تابعة تبعية عقلية للأزهر، والأزهر كما تعلم مضطر إلى المحافظة ورعاية التقاليد، ولا ينبغي له أن يجدد إلا في شيءٍ كثير من القصد والاحتياط.
- (٥)
ومن أجل هذا كله أقترح على معاليكم أن تتفضلوا فتعرضوا هذا الأمر على مجلس الجامعة، وتعطوه حقه من العناية، وتسعوا في ضم دار العلوم إلى الجامعة على أن تحتفظ باسمها التاريخي المجيد، وعلى أن تكون في الجامعة المصرية مدرسة اللغة العربية واللغات الشرقية، بمكانٍ يشبه مكان مدرسة اللغات الشرقية من جامعة لندرة، وعلى أن تخضع للنظام الجامعي شيئًا فشيئًا، حتى لا يضر هذا التطور أحدًا من طلابها وأساتذتها الحاليين.
فإذا لم توفق الجامعة إلى تحقيق هذه الفكرة فإن هناك شيئًا لا بد منه، وهو تقوية قسم اللغة العربية في كلية الآداب، ومنحه ما ينبغي له من المعونة المادية والمعنوية لينهض بواجبه، وليزاحم معاهد التعليم الأخرى.
فلست أشك في أن معاليكم والجامعيين كافة ترون أنه لا ينبغي للجامعة المصرية أن تسبق في تعليم اللغة العربية، أو أن يستأثر معهد آخر مهما يكن بهذا التعليم من دونها.
- (٦)
واضح جدًّا أن ضم دار العلوم إلى الجامعة أو تقوية قسم اللغة العربية يستلزم إنشاء مدرسة ثانوية خاصة، تهيئ الطلاب للدراسة العليا للغات الشرقية واللغة العربية خاصة، على نحو تجهيزية دار العلوم التي ألغيت بشرط أن تشتد العناية في هذه المدرسة باللغات الأجنبية، ولست أريد أن أدخل في تفصيل المنهاج الدراسي لهذه المدرسة قبل أن يستقر الرأي في الجامعة والوزارة على شيء.
وأنا أتمنى مخلصًا أن توفق الجامعة ووزارة المعارف إلى تحقيق هذه الفكرة التي هي وحدها السبيل إلى إصلاح التعليم اللغوي الأدبي في مصر وفي الشرق العربي كله.
وأنا أرجو أن تتفضلوا فتقبلوا تحيتي الخالصة واحترامي العظيم.
على أن الحديث قد استؤنف في هذا الموضوع بين الجامعة ووزارة المعارف في أول العام الدراسي سنة ١٩٣٦-١٩٣٧ حين كان صاحب السعادة علي زكي العرابي باشا وزيرًا للمعارف، وتم الاتفاق بينهما على ألا يكون تعليم اللغة العربية وقفًا على معهد من هذه المعاهد الثلاثة من جهةٍ، وعلى ألا ينهض بتعليم اللغة العربية إلا من ظفر بإجازة التعليم من معهد التربية من جهةٍ أخرى، وكان قوام هذا الاتفاق أن التنافس بين المعاهد في إعداد طلاب اللغة العربية فيه خير كثير وأن الواجب أن تمنح الدولة نفسها لكل من يعلم فيها إجازة التعليم، وكانت السبيل إلى تنفيذ هذا الاتفاق أن يستبق طلاب المعاهد الثلاثة إذا بلغوا طورًا معينًا من أطوار الدرس — كان هو السنة الثالثة في كلية الآداب — لدخول المعهد، فمن نجح في هذه المسابقة قُبل في معهد التربية على أن يقيم فيه عامين يتم أثناءهما درسه في معهده الخاص يبقى بعد ذلك سنة في معهد التربية ليظفر بإجازة التعليم، وقيل لي إن الأزهر لا يرى بأسًا بهذا الاتفاق ولا يتردد في قبوله والمشاركة فيه ولكنه مع ذلك لم ينفذ لأسبابٍ لا أعرفها ولعلها ترجع إلى كثرة تغيير الوزارات في هذا العهد الأخير، ثم رأينا فجأة لجنة تؤلف في وزارة المعارف لإصلاح دار العلوم، معرضة عن الجامعة والأزهر جميعًا، وقد انتهت هذه اللجنة إلى اقتراحات عرفها الناس، على أن صاحب المعالي الدكتور هيكل باشا لما تولى وزارة المعارف أراد أن يدرس أمر إعداد المدرسين جميعًا؛ فألف اللجنة التي أشرت إليها في الفصل الماضي والتي درست شئون معهد التربية وعرض عليها أمر دار العلوم، وقد كان درس مفصل ومناقشة مطولة أدارها هيكل باشا على أحسن وجه وأكمله، وكان الانتهاء إلى أن يستبق طلاب دار العلوم فيما بينهم كما يستبق طلاب كليتي العلوم والآداب فيما بينهم أيضًا لدخول معهد التربية حين يبلغون السنة الثالثة، وأن تشرف عليهم لجنة مشتركة هي التي أشرت إليها في الفصل الماضي حتى يتموا درسهم في المدرسة، ثم يمكثون بعد ذلك سنة في معهد التربية للظفر بإجازة التعليم، وقررت اللجنة أن تلغي دروس التربية في دار العلوم وأن يطال أمد الدرس فيها، وأن تفرض على طلابها لغة أجنبية وأن يزاد حظهم من الثقافة الحديثة العامة.
وسافرت إلى أوروبا وأنا مطمئن إلى أن هذا النظام المؤقت سيجرب حتى يؤتي ثمره ثم ترى وزارة المعارف بعد ذلك رأيها في الاحتفاظ به أو تناوله بالتغيير والتبديل، ولكني أقرأ فيما يصل إلي من الصحف أن وزارة المعارف قد عدلت عن بعض هذا النظام واضطرت إلى الاحتفاظ بدروس التربية في دار العلوم، وإلى ألا تصل بينها وبين معهد التربية على أي نحوٍ من الأنحاء، وبهذا ذهب ما كنا قد وصلنا إليه من توحيد النظام لإعداد معلم اللغة العربية على نحوٍ ما، وظل نظام إعداد معلم لهذه اللغة العربية كما كان ثنائيًّا أو ثلاثيًّا لا أدري، والظريف أن وزارة المعارف تبغض أشد البغض أن يقترن الإعداد الثقافي والإعداد الفني للمعلم في مدرسةٍ واحدة، تعلن ذلك ولا تخفيه، وقد أخذت به إعداد المعلمين لجميع المواد، ولكنها لم تستطع أن تأخذ به في شأن دار العلوم، ولأنها مشفقة من دار العلوم، ولأن ظروف السياسة تفرض عليها هذا الإشفاق، وواضح جدًّا أن أمور التعليم إذا تأثرت بالسياسة وظروفها إلى هذا الحد لم يُرجَ منها ولا من المشرفين عليها خير.