اضطراب وزارة المعارف في سياسة إعداد المعلمين
والحمد لله على أن السياسة وظروفها لا تخيفني ولا ترهبني وعلى أنها لم تستطع قط أن تمنعني من قول الحق حين يجب أن يقال، وفي ذلك الخير دائمًا، وقد يكون فيه الشر أحيانًا، ولكن الله عز وجل يُحمَد على الخير والشر جميعًا.
فلنقل الحق إذَنْ في أمر إعداد المعلمين للغة العربية وغيرها من المواد كما قلناه في كثيرٍ من الأشياء سواء رضيت السياسة أم سخطت؛ فإن هناك طائفة من الحقائق يجب أن تقال في هذا البلد وألا يحجم المؤمنون بها عن إعلانها والذود عنها والدعوة إليها مهما يكلفهم ذلك من الجهد ومهما يحمِّلهم ذلك من المكروه.
والحق الذي يجب أن يقال في هذا الموضوع هو أن اضطراب وزارة المعارف في سياسة إعداد المعلمين قد بلغ أقصاه وانتهى إلى غايته وأصبح المضي فيه والاستمرار عليه إثمًا في ذات التعليم لا ينبغي أن تقر وزارة المعارف عليه.
وقد آن الوقت الذي يجب أن ترتفع فيه وزارة المعارف عن ظروف الحياة العارضة وما يكون فيها من مد السياسة وجزرها وانحرافها يومًا ذات اليمين ويومًا ذات الشمال، آن الوقت الذي يجب فيه أن ترتفع وزارة المعارف عن هذا كله، وأن تأخذ أمور التعليم بالجد، وأن تنظر إليها على أنها فوق الأهواء السياسية وفوق خصومات الأحزاب وشهوات الساسة، شأنها في ذلك شأن أمور الدفاع التي لا تحتمل التأثر بالخصومات السياسية والشهوات الحزبية، وإنما ينبغي أن تتخذ طريقها نقية بريئة من هذا كله؛ لأن تأثرها به يفسدها، ولأن فسادها يعرِّض الوطن لأشنع الأخطار، وإذا كانت استقامة أمور الدفاع الوطني موقوفة على استقامة أمور التعليم لأن الشعب الجاهل لا يحسن الدفاع عن نفسه كما قلنا ذلك ألف مرة ومرة، فكل تقصير في أمور التعليم ككل تقصير في أمور الدفاع إثم في ذات الوطن لا ينبغي أن يُقبل من أي إنسان.
وإذَنْ فيجب أن توفق وزارة المعارف بين ما تؤمن به إذا خلت إلى نفسها وبين ما تقول وتفعل بمشهدٍ من الناس، ووزارة المعارف مؤمنة فيما بينها وبين نفسها بأن الأزهر لا يستطيع أن ينهض بتعليم اللغة العربية في مدارس الدولة، ولا ينبغي أن ينهض بهذا التعليم؛ لأن ظروفه الحاضرة لا تتيح له ذلك ولأنه يحتاج إلى وقتٍ طويلٍ وجهدٍ متصل عنيف قبل أن يصح له التفكير في إعداد المعلمين لمدارس الدولة.
والحق الذي يجب أن يقال أيضًا أن وزارة المعارف مؤمنة فيما بينها وبين نفسها بأن دار العلوم كما هي الآن لا تلائم حاجة التعليم الحديث، يتحدث به رجالها إذا خلوا إلى أنفسهم وإلى أصدقائهم، وهي تعلم حق العلم أن ما اقتُرح من الإصلاح لدار العلوم لا يمكن أن ينتج نفعًا مؤقتًا، فليكن أمد الدراسة في المدرسة خمسة أعوام أو ستة، فوزارة المعارف تعلم حق العلم أن هذا الأمر لا يكفي بحالٍ من الأحوال لإتقان لغة أجنبية، وللأخذ بما ينبغي للمعلم من الثقافة العالية العامة ولتخصص المعلم في مادته التي يتهيأ لتعليمها، ثم لأخذه بما ينبغي من علوم التربية وفن التعليم.
وزارة المعارف بين اثنتين: فهي إن كانت مؤمنة بأن هذا الأمد لا يكفي لتحقيق هذه الأغراض كانت مقصرة في ذات التعليم إذا لم تتخذ لإعداد المعلمين للغة العربية وسيلة أخرى أنفع وأقوم وأحرى أن تحقق أغراضه على وجهها، وإن كانت مؤمنة بأن هذا الأمد يكفي لتحقيق هذه الأغراض، وبأن الطالب الذي يؤخذ من الأزهر ليقضي في دار العلوم خمسة أعوام أو ستة يستطيع أن يتقن لغة أجنبية، ويتخصص في اللغة العربية وعلومها وآدابها، ويتعلم بعض اللغات السامية أو الشرقية، ويتثقف الثقافة العالية العامة، ويتسلح بما ينبغي له من علوم التربية وفن التعليم، إن كانت مؤمنة بهذا فهي غير خليقة بأن تشرف على شئون التعليم أو تؤتمن عليها.
والواقع الذي لا شك فيه أنها غير مؤمنة بهذا، وأنها تُقبِل على هذا الإصلاح لأنه خير من لا شيء، ولأنها لا تستطيع أن تقبل على غيره من وجوه الإصلاح؛ لأن ظروف السياسة تحول بينها وبين ما تريد، وهذا هو الخطأ الشنيع والشر المستطير؛ فإن ظروف السياسة لا ينبغي أن تكف وزارة المعارف عما هي مؤمنة به من الإصلاح، ولا أن تقنعها بما لا يمكن أن تقنع به، ولا أن تكرهها على أن ترى حسنًا ما ليس بالحسن.
ومن المحقق أن دار العلوم حتى بعد هذا الإصلاح لن تؤدي ما يجب أن تؤديه من تخريج المعلمين للغة العربية على وجهٍ ملائم للحاجة والمنفعة، وأن السبيل الصحيحة إنما هي التي أشرنا بها فيما مضى من الفصول، فيجب أن يُعدَّ الطلاب على النحو الذي قدمناه، فإذا ظفروا بالشهادة الثانوية تخصصوا في مادتهم ثم التحقوا بمعهد التربية كغيرهم من المعلمين.
ولست أرى بأسًا من أن يتخصصوا في دار العلوم، ولكن بشرط أن تصبح دار العلوم معهدًا للتخصص في اللغة العربية وعلومها وآدابها، وأن تصبح معهدًا عاليًا بالمعنى الصحيح الدقيق لهذا اللفظ، وهي لن تبلغ هذه الدرجة ولن تنتهي إلى هذه المنزلة إلا إذا ضُمَّت إلى الجامعة وأصبحت وحدة من وحداتها، فقد أثبتت التجربة أن وزارة المعارف لا تستطيع أن تنهض بأمور التعليم العالي الصحيح؛ لأنها مع الأسف الشديد لا تسيغه ولا تتصوره على وجهه، ولا تحتمل ما يقتضيه من الحرية والاستقلال.
والحق الذي يجب أن يُقَرَّر أيضًا دون أن نسأم تقريره أو نشفق من تكراره هو أن أمور معهد التربية نفسه لن تستقيم إلا إذا ضُم إلى الجامعة وأصبح وحدة من وحداتها لنفس الأسباب التي قدمناها، ولا ينبغي أن نخدع أنفسنا ولا أن نخدع الناس بما يقال من أن دار العلوم ومعهد التربية سيظفران بالاستقلال الجامعي وإن لم يتصلا بالجامعة.
فأنا أعرف مقدمًا إن صح هذا التعبير أن هذا الاستقلال الذي سيظفران به سيكون استقلالًا في الشكل والصورة واللفظ، ولكنه لن يكون استقلالًا صحيحًا، وإذا كانت الجامعة على قوتها وشدة شكيمتها وحرصها العظيم على أن يكون استقلالها حقيقة لا خيالًا لم تصل بعد إلى أن تحقق من هذا الاستقلال ما ينبغي لها فكيف بمعهد التربية ودار العلوم؟! والشيء الذي لا أفهمه ولا أستطيع أن أسيغه هو أن تنزل وزارة المعارف للجامعة عن مدارس الزراعة والتجارة والهندسة والطب البيطري وتلغي إدارة التعليم العالي ثم تستمسك بعد هذا بهاتين المدرستين، كما أني لا أستطيع أن أفهم ولا أن أسيغ أن تنزل وزارة المعارف لهاتين المدرستين فيما تقول عن استقلالٍ يشبه الاستقلال الجامعي، ثم تحتفظ بهما ولا تضمهما إلى الجامعة، هذا غريب إلا أن يكون وراء الأكمة ما وراءها، وأن يكون هذا الاستقلال الذي تلوح به وزارة المعارف لهاتين المدرستين ظلًّا لا جسمًا وخيالًا لا حقيقة، وأنا أربأ بوزارة المعارف عن أن تخدع نفسها أو تخدع الناس.
فلتعتمد وزارة المعارف على الله إذَنْ، ولتسر سيرة الوزارات الأخرى في أقطار الأرض، ولتضم هاتين المدرستين إلى الجامعة، فإن إعداد المعلمين قد أصبح من خصائص الجامعات إلا على ضفاف النيل.