تخصص المعلم في المادة
وليس هذا كل شيء يجب أن يقال في إعداد المعلمين، بل هناك شيء آخر قد آن لنا أن نفكر فيه، وأن نفكر فيه تفكيرًا قوامه الجد والعزم الصادق، وهو أننا نتحدث كثيرًا عن تخصص المعلم في المادة التي يريد أن يتهيأ لتعليمها، ولكننا لا نحقق معنى هذا التخصص ولا نبين مداه، والذي نفهمه عادة إذا ذكر التخصص في مادة من مواد العلم هو أن يظفر الطالب بالدرجة الجامعية العادية أو الممتازة.
وقد يكون هذا حسنًا ولكن هناك ما هو أحسن منه وأوفى، وهو أن تنشأ درجة جامعية معينة للتخصص الذي يراد من المعلم ومن المعلم في التعليم العام بوجهٍ خاص، فليس يكفي أن يظفر الطالب بدرجة الليسانس في الآداب أو البكالوريوس في العلوم ثم الدبلوم من معهد التربية ليكون معلمًا متخصصًا في مادته متقنًا لها؛ ذلك أن الليسانس والبكالوريوس لا تخصصان الطالب وإنما تبدآن به التخصص، وتشيعان فيه الذوق الذي يحبب إليه تعمق العلم والفراغ له، ومن زعم لك أن حامل الليسانس في التاريخ أو في الكيمياء قد تخصص في هذه المادة أو تلك، فاعلم أنه يخدعك أو يخدع نفسه، ولعل أصدق تعريف لليسانس والبكالوريوس أن كل واحدة منهما في حقيقة الأمر إنما هي شهادة ثانوية راقية لا أكثر؛ ذلك أن دراسة الليسانس والبكالوريوس عامة في حقيقة الأمر، هي أخص من دراسة الشهادة الثانوية ولكنها أعم جدًّا مما يحتاج إليه التخصص الصحيح.
وقد خطر لي ولكثيرٍ من الجامعيين ومن رجال التعليم في وزارة المعارف أن نجعل درجة الماجستير الجامعية شرطًا للتعليم في المدارس الثانوية، كما جُعلت درجة الدكتوراه شرطًا للتعليم في الجامعة، وقد أشرت إلى هذا فيما مضى، ولكن التفكير العميق فيما يحتاج إليه المعلم في إتقان مادته قد صرفني عن هذا النحو من النظام؛ لأن دراسة الطالب حين يتهيأ لدرجة الماجستير لا تكفي لما ينبغي أن نفهمه من تخصص المعلم، فطالب الماجستير يختار موضوعًا بعينه ويجرب نفسه في درس هذا الموضوع ويعد فيه بإشراف أستاذه رسالة يجب أن تثبت جده واجتهاده، ثم يمتحن امتحانًا يسيرًا فيما يتصل بموضوع الرسالة من العلم، وهذا شيء مخالف كل المخالفة لما ينبغي من تخصص المعلم، فتخصص المعلم يقتضي أن يتعمق المادة التي تخصص فيها إلى أبعد حدود التعمق الممكنة، وهذا يقتضي أن يفرغ الطالب لعلمه وقتًا طويلًا، لعلمه كله لا لمسألةٍ من مسائله ولا موضوعٍ من موضوعاته.
ودرجة الماجستير عندنا تشبه شهادة الدراسة العليا في فرنسا، وهي شهادة يظفر بها الطالب بعد درجة الليسانس، ولكنها لا تكفي مطلقًا لينهض صاحبها بأعباء التعليم، مع أنه يقدم إلى الجامعة رسالة يجب أن تثبت قدرته على البحث، ويؤدي مع هذه الرسالة امتحانًا فيما يتصل بها من العلم.
وإذا كانت درجة الليسانس والبكالوريوس أعم مما ينبغي للمعلم من تعمق مادته فإن درجة ماجستير أخص ما ينبغي له من هذا التعمق، ومن أجل هذا أعتقد أن الخير كل الخير إنما هو أن يظفر الطالب بدرجة الليسانس أو البكالوريوس ثم بدبلوم معهد التربية، ثم يعين في منصب من مناصب التعليم الابتدائي، ثم لا يُقبل للتعليم الثانوي إلا إذا نجح في مسابقة تقام في كل عامٍ على نحو مسابقة الأجريجاسيون في فرنسا.
ويجب أن تنظم في الجامعة دروس متصلة يختلف إليها الطلاب الذين يريدون التقدم لهذه المسابقة على أن تكون هذه الدروس مسائية أول الأمر حتى يستطيع المعلمون أن يختلفوا إليها.
وأقول: أول الأمر؛ لأني أرجو أن نصل مع الزمن إلى أن تصبح هذه المسابقة شرطًا للتعليم في المدارس العامة سواء أكانت ابتدائية أم ثانوية، ولكن هذا شيء لم يأتِ وقته بعد، وقد فكرت في إنشاء هذه الإجازة وتنظيم دروسها ومسابقتها بالقياس إلى كلية الآداب أثناء هذا العام الجامعي وتحدثت في ذلك إلى الزملاء من أساتذة الكلية وإلى بعض المشرفين على شئون التعليم في وزارة المعارف؛ فأقروه وأظهروا الرضا عنه والترحيب به، ولكن ظروف الحياة المصرية المضطربة قد أعجلتنا عن المضي في هذا التفكير حتى ننتهي به إلى غايته، وأرجو أن يتاح لنا ذلك في العام الجامعي المقبل، وأرجو بنوعٍ خاص ألا نجد من وزارة المعارف مقاومة ولا اعتراضًا.