التعليم العالي: ما هو؟
وأحق هذه المسائل بالعناية هي مسألة التعليم العالي نفسه ما هو؟ وما الأغراض التي تُرجى منه وتُطلب إليه؟ فقد يخيل إليَّ أن في رءوسنا من هذا كله صورًا قد تختلف فيما بينها ولكنها بعيدة عن أن تكون مطابقة للحق أو ملائمة لما ينبغي أن يكون في نفوسنا من المثل العليا لهذا النوع من التعليم، وأيسر هذه الصور وأهونها ما هو واقع في نفس رجل الشارع حين يرسل ابنه إلى الجامعة أو إلى أي معهدٍ من معاهد التعليم العالي، فهو لا يرى إلا أن هذا التعليم أرقى من التعليم الذي كان يختلف إليه الفتى في المدرسة الثانوية بدليل أنه لم يصل إليه إلا بعد أن فرغ من التعليم الثانوي، كما أن التعليم الثانوي نفسه أرقى من التعليم الابتدائي لأن الصبي لا يدخل المدرسة الثانوية إلا بعد أن يتم الدرس ويظفر بالشهادة الابتدائية.
وواضح أنك لا تستطيع أن تخطِّئ رجل الشارع حين يتصور التعليم العالي على هذا النحو؛ لأن تصوره صحيح لا غبار عليه، وهو قد استنبط هذا التصور من الحقيقة الواقعة التي بلاها ومارسها واحتمل أثقالها حين أرسل ابنه إلى تلك المدرسة ثم إلى هذه ثم هو يرسله الآن إلى هذه الكلية من كليات الجامعة، أو هذا المعهد من معاهد التعليم الفني الخاص، ولولا أن التعليم العالي أرقى من التعليم الثانوي لما اضطر إلى أن ينفق ما أنفق من المال وينتظر ما انتظر من الزمن قبل أن يرسل ابنه إلى هذا التعليم، فهو يتصور طبقات البيت لا يستطيع أن يبلغ الطبقة الثالثة منها حتى يتجاوز الطبقة الأولى ثم الطبقة الثانية، ولا تسله عن مصدر هذا التفاوت بين طبقات التعليم علوًّا وانخفاضًا فقد تعجزه وتثقل عليه، فإذا سألته عن الغرض الذي يرجوه من هذا التعليم ويطلبه إليه فأكبر الظن أنه سيجيبك بأنه ينتظر من هذا التعليم غرضين: أحدهما وهو أيسرهما عليه وأهونهما عنده أن التعليم فيه تهذيب للعقل وإزالة للجهل، وهو يريد أن يكون ابنه مثقفًا ممتازًا؛ لأن المثقفين الممتازين أجدر بالنجاح في الحياة من الخاملين الجاهلين.
والثاني وهو آثرهما عنده وأوقعهما في نفسه أن التعليم العالي يؤهل طلابه إذا نجحوا فيه لشغل المناصب العامة الممتازة وهو أجدر أن يمكنهم من حياة خير من التي يحياها الجاهلون وأصحاب التعليم المتوسط والثقافة المتواضعة، ومن الواضح أيضًا أنك لا تستطيع أن تنكر عليه تصوره هذا للغاية التي ترجى من التعليم العالي، فهو استمده من الحقيقة الواقعة التي لا جدال فيها، وآية ذلك أن الناس جميعًا يرون أن صاحب الليسانس أو البكالوريوس أرقى من صاحب الشهادة الثانوية، وآية ذلك أيضًا أن الدولة نفسها تشترط لشغل بعض المناصب في وزاراتها ودواوينها أن يكون الشباب الذين يرشحون أنفسهم لهذه المناصب قد ظفروا بدرجات الليسانس أو البكالوريوس، ولا تسله عما وراء ذلك فقد تشق عليه وقد تعجزه عن الجواب.
ولست أدري أمخطئ أنا أم مصيب؟ ولكني أرى أن هذه الصورة التي تقع في نفس رجل الشارع من التعليم العالي وأغراضه أصح وأصدق من صورٍ أخرى تمتلئ بها رءوس جماعة من المثقفين وتنطلق بها ألسنتهم في الأحاديث والمحاضرات وتجري بها أقلامهم في الكتب والمقالات، فإذا حققناها لم نجد فيها غناء.
فمن المثقفين عندنا، بل من المثقفين الممتازين كل الامتياز، من يعتقدون مخلصين، ويريدون إقناع الناس بما يعتقدون، أن التعليم العالي شيء مقدس قد أسبغت عليه صفات هائلة ممتازة؛ لأنه البحث عن العلم للعلم، وإعداد الشباب لهذا البحث الخالص الطاهر المقدس الذي لا تعرض له ضرورات الحياة العملية، ولا تفسده الرغبة في تحقيق المنافع المادية عاجلة كانت أو آجلة، بل لا يفسده حتى الطموح إلى حسن الذكر ونباهة الشأن وبعد الصوت، إنما هو إقبال على العلم مجرد من كل الشهوات ومن كل الحاجات، ومن كل الضرورات، ومن كل المنافع، هو شيء يشبه الحب الأفلاطوني ولكن موضوعه العلم والمعرفة.
والمثقفون الذين يتصورون التعليم العالي على هذا النحو يعرِّضون أنفسهم ويعرِّضون الذين يتبعونهم ويصدقونهم لكثيرٍ من الألم الممض الذي ينشأ عن خيبة الأمل وكذب الرجاء، فليس من الحق أن هذه الألوف التي تطلب التعليم العالي في مصر وتعكف عليه مخلصة له مفتونة به إنما تقبل عليه لهذا الغرض الأفلاطوني الممتاز، وأكبر الظن، بل الحق الذي لا شك فيه، أنك إذا سألت هذه الألوف لماذا تطلب هذا النحو من التعليم فستجيبك كما أجابك رجل الشارع؛ لأنها ترى فيه درجة راقية في الثقافة ترتفع بها إلى منزلةٍ راقية في الحياة، وبأنها تراه ضرورة من ضرورات كسب القوت والوصول إلى منصبٍ من مناصب الدولة أو عمل من الأعمال الحرة.
وهذه الألوف تعلن إلينا ذلك في كل يوم حين تظفر بالدرجات الجامعية فتطلب المناصب، وحين تتهيأ لهذه الدرجات الجامعية فلا تنتظر الظفر بها لتعرف قيمتها المالية في رأي الدولة، وإنما تتعجل ذلك وتلح فيه، وحين تضيق بعسر الامتحانات لأن هذا العسر قد يضطرها إلى الرسوب وقد يؤخر وصولها إلى المناصب عامًا أو عامين، وحين تلح على الحكومة والبرلمان في تغيير نتائج الامتحان واستنقاذ الراسبين بنصٍ من نصوص القانون يُبتَكر ابتكارًا ويُرتَجل ارتجالًا، وحين تعمد إلى هذه الوسائل التي يعمد إليها الشباب عادة حين يريد ما لا تسهل إجابته إليه، وسائل الإضراب والمظاهرات والكتابة في الصحف والاجتماع في الأندية واقتحام الدواوين.
كل هذا يقع بمشهدٍ من هؤلاء السادة المثقفين ثقافة ممتازة فيشكون منه ويتبرمون به ويظنون بالشباب الظنون وينعون عليهم هذه المادية المنكرة، وربما انتهى بهم هذا كله إلى الشكوى من فساد الزمان أو من انحطاط الحياة العقلية في مصر.
ولكن الغريب أن الشباب في البلاد الأخرى الراقية التي نتأثرها ونعجب بها لا ينظرون إلى العلم العالي نظرة خيرًا من نظرة شبابنا إليه، وإنما هو عندهم في جملتهم وسيلة لا غاية، ووسيلة إلى الحياة العملية لا إلى هذه السعادة الأفلاطونية العليا، ومن الحق أن الشباب الأوروبيين قد لا يسلكون بعض السبل التي يسلكها شبابنا المصريون، فهم لا يطالبون بتغيير نتائج الامتحان، وهم يستحون إذا رسبوا من أن يلحوا في أن تستنقذهم الحكومة والبرلمان بنصٍ من نصوص القانون؛ لأن أخلاقهم لا تسمح بذلك ولأن حكوماتهم وبرلماناتهم لا تستطيع أن تسمع لهم ولا أن تستجيب لدعائهم إن حاولوا شيئًا من ذلك أو طلبوه، ولكنهم على كل حالٍ لا ينظرون إلى التعليم العالي إلا على أنه وسيلة من وسائل الحياة.
وهناك فريق آخر من المثقفين الممتازين عندنا يضيقون بالتعليم النظري الخالص ويخلقون لأنفسهم صورًا غريبة غامضة ولكنها مناقضة كل المناقضة للصورة التي عرضناها آنفًا؛ فهم يريدون من التعليم العالي أن يكون وسيلة سريعة مضمونة للإنتاج الملموس في الحياة العملية، وهم من أجل ذلك يضيقون بالتعليم العالي في الآداب والفلسفة والتاريخ والحقوق، ويعجبون إلى غير حد بالكيمياء والعلوم الزراعية والاقتصادية وما يشبهها من هذه العلوم التي تتصل بالحياة المادية القريبة اتصالًا ظاهرًا، وقد يختلط الأمر على بعضهم فينتهي بهم إلى الأعاجيب، ولقد أذكر أني رأيت رجلًا مثقفًا ممتازًا في مركزه وألقابه وثروته وعلمه أيضًا وكان عضوًا في مجلس إدارة الجامعة المصرية القديمة، ولم يكن يخفي ضيقه بتعليم الآداب في تلك الجامعة، ولم يكن يتردد في أن يعلن إلى من تحدث إليه أنه يرى الخير في أن تعدل الجامعة عن هذه الأنواع من العلم إلى أنواعٍ من الصناعة المنتجة التي لم تأخذ مصر منها بحظ، وكان يود بنوعٍ خاص لو صرف شباب الجامعة القديمة عن دراسة الآداب إلى صناعة الساعات. ورأيت له زميلًا لم يكن أقل منه امتيازًا باللقب والثروة والمنزلة والعلم أيضًا، وكان يرى رأيه ولكنه كان يؤثر صناعة النسيج على صناعة الساعات، كان أحدهما ينظر إلى سويسرا وكان الآخر ينظر إلى إنجلترا.
وهناك مثقفون آخرون ربما ارتقوا عن هؤلاء الذين ذكرتهم فلم يروا في العلم وسيلة مادية خالصة، وربما نزلوا عن أولئك المثقفين الذين ذكرتهم في أول هذا الفصل فلم يروا في العلم غاية تُطلب لنفسها وتُحب حبًّا عذريًّا أفلاطونيًّا، وإنما توسطوا بين أولئك وهؤلاء فآثروا العلوم التي تتصل من قربٍ بالحياة المادية ورأوها ضرورة من ضرورات الحياة، ولم يبغضوا مع ذلك العلوم الأدبية وإنما يرونها لونًا من ألوان الترف والزينة ويسمحون لها بالحياة في البيئة المصرية؛ لأن الترف شيء أباحه الله للناس بشرط ألا يصرفهم عما ليس منه بد، وهم من أجل ذلك إذا تحدثوا عن العلوم التجريبية تحدثوا عنها في شيءٍ من الإكبار والإجلال، فإذا تحدثوا عن العلوم الأدبية سبقت حديثهم إلى شفاههم ابتسامة حلوة فيها شيء من العطف وفيها شيء كثير من التسامح والإشفاق، ومن المحقق أن كل هذه الصور التي تمتلئ بها رءوس جماعات من المثقفين عندنا بعيدة كل البعد عن ملاءمة الحق، وأن الصورة التي تقع في رأس رجل الشارع أصح منها وأدق وأقرب إلى المثل الأعلى الذي يجب أن نتصوره للتعليم العالي، فليس من الحق ولا من الخير في شيءٍ أن يكون الغرض الأول والأخير في التعليم العالي هو البحث العلمي الخالص المبرأ من كل منفعة قريبة أو بعيدة.
ليس هذا حقًّا ولا خيرًا لأن الأمم لا بد من أن تحيا حياتها وليست حياة الأمم والأفراد عقلًا خالصًا ولا معرفة خالصة، وإنما هذه حياة الملائكة والقديسين والصديقين والذين يتأثرونهم من الفلاسفة، إنما حياة الأمم والأفراد علم ينتج العمل ومعرفة تمكن من الاضطراب في الأرض والسيطرة على عناصر الطبيعة والتغلب على ما يعترضنا من العقبات، وليس من الحق ولا من الخير أن يكون التعليم العالي مادة كله أو وسيلة إلى المادة؛ لأن العقل المادي الخالص خليق أن ينحط إلى أيسر مظاهر الحياة، وهو على كل حال لا يستطيع أن يرقى بالإنسان لا إلى تصور مثل أعلى في أي ناحيةٍ من أنحاء الحياة ولا إلى هذا الابتكار الخصب الذي ينتج الحضارة ويبسط سلطان الإنسان على عناصر الطبيعة كلها، وإنما الحق والخير أن يكون التعليم العالي مزاجًا من هذين الأمرين جميعًا؛ فيه البحث الخالص عن العلم الخالص، وفيه البحث العملي عن الفنون التطبيقية التي تُستنبط من هذا العلم الخالص نفسه والتي لا يمكن أن توجد ولا أن تنتج ولا أن تعيش ولا أن تتيح للناس ما ينعمون به من الحضارة وما يتقلبون فيه من الترف بدون هذا العلم الخالص نفسه.
وإذن فلا ينبغي أن نقف عند ما يراه هؤلاء المثقفون الذين أشرت إليهم منذ حين، ولا أن نجمد عند ما يراه رجل الشارع في التعليم العالي، وإنما يجب أن نكون أبعد من هؤلاء جميعًا غاية، وأصدق منهم تصورًا، وأقرب منهم إلى الحياة الواقعة التي نشهدها في كل يوم، فنحن نفسد التعليم العالي ومعاهده إن زعمنا قصرها على البحث الخالص البريء من كل منفعةٍ عملية، ونحن نفسد التعليم العالي ومعاهده إن زعمنا قصرها على البحث العلمي الذي يحقق المنافع العاجلة والآجلة.
وإنما العلم العالي مزاج من هذين الأمرين جميعًا؛ فيه البحث الخالص المرتفع عن المنفعة وفيه البحث العملي الملتمس للمنفعة، والناس ميسرون لهذا النحو من البحث أو ذاك حسب استعدادهم وميولهم وطموحهم وما ركب فيهم من الملكات وما أشربوا في قلوبهم من حب التجرد من المنفعة أو حب الإقبال عليها، والواجب على الذين يشرفون على أمور التعليم العالي أن يُشعروا أنفسهم هذه الحقيقة دائمًا وأن يضعوها أمامهم كلما فكروا في أمرٍ من أمور هذا التعليم أو أقبلوا عليه، ويجب أن نمحو من نفوسنا هذه الفكرة الخاطئة، وهي أن من كليات الجامعة ما هو مخصص أو يجب أن يكون مخصصًا للتعليم الفني الخالص؛ فليس من كليات الجامعة على اختلافها إلا ما هو صالح ويجب أن يكون صالحًا لهذين النوعين من التعليم.
ولست أعرف خطأ أشنع من خطأ الذين يطمئنون إلى مثل هذا التقسيم فيتحدثون بأن كلية الآداب وكلية العلوم تعنيان أو يجب أن تعنيا بالمعرفة الخالصة التي تُقصد لنفسها وتُبتغَى لما تحقق للعقل من لذةٍ عليا.
فهاتان الكليتان تعنيان بهذا اللون من ألوان المعرفة الخالصة ويجب أن تبذلا فيه أعظم ما تستطيعان من جهد، ويجب أن تعينهما عليه الدولة والقادرون على المعونة من أفراد الناس، ولكنهما تعنيان بالمعرفة الخالصة التي تمكن أصحابها من أن ينفعوا وينتفعوا ومن أن يضطربوا في الأرض ليعيشوا ويهيئوا غيرهم للعيش أو يمكنوا غيرهم من العيش أو ييسروا لغيرهم سبل العيش.
هما تهيئان المعلمين، وما أظن أحدًا يشك في أن التعليم فن من الفنون التطبيقية ووسيلة من وسائل الحياة المادية يستعين بها المعلم نفسه على أن يعيش ويهيئ بها المعلم غيره ليعيش أيضًا. وهما تهيئان جماعات من الشباب الذين يعملون في مرافق الحياة المختلفة، سواء في ذلك منهم من يعمل في الدواوين ومن يتصل بالأعمال الحرة ومن يشتغل في المرافق الفنية على اختلافها، فمن غير المعقول إذن أن يُظنَّ بهاتين الكليتين أنهما مقصورتان على المعرفة الخالصة وأنهما تتجاوزان حدهما إذا فكرتا في المنفعة المادية العاجلة أو الآجلة لطلابهما وأساتذتهما جميعًا.
بل هناك ما هو أبعد من هذا وهو أن ليس هناك علم مهما يكن موضوعه إلا وله هاتان الناحيتان: ناحية المعرفة الخالصة التي تجد جزاءها في نفسها، وناحية المنفعة العملية التي تنتج عن كل بحث يغزو العقل وينميه ويمكنه من استكشاف الحق على أي نحوٍ من الأنحاء، فكل شيء يضاف إلى المعرفة الإنسانية يزيد في ثروة العقل، وكل زيادة في ثروة العقل تقويه وتشد أزره وتفتح له أبوابًا من أبواب التفكير وتخلق له فنونًا من فنون النشاط، وكل ذلك يعينه على استقبال الحياة في قوة، والانتصار على ما يعترض فيها من العقبات.
ولست أعرف خطأ أشنع من خطأ الذين يملئُون أفواههم إذا تحدثوا إلى الناس بأن كلية الحقوق وكلية الطب وكلية الزراعة والهندسة والتجارة كليات عملية لأنها تخرج المحامين ورجال القضاء وتخرج الأطباء والمهندسين والذين يشرفون على أعمال الزراعة والتجارة، فهذا كله حق ولكنه حق ناقص لم ينشأ عن تفكيرٍ ناضج ولا عن تعمق للأشياء.
ذلك أن هذه الكليات إذا كانت تهيئ الشباب لهذه الألوان المختلفة من الحياة العملية فهي تهيئ بعض الشباب أيضًا للتخصص فيما يدرس فيها من العلم، بعضهم يتخصص فيه لينهض بتعليمه في هذه الكليات نفسها، وبعضهم يتخصص فيه لأنه يجد في هذا لذة خاصة ممتازة لا يعدل بها لذة أخرى ولا يصرفه عنها صارف مهما يكن.
فكليات الجامعة ومعاهد التعليم العالي إذن تقصِّر أشنع التقصير في ذات نفسها وفي ذات الأمة إن هي لم تخرج من الشباب إلا رهبانًا يعكفون في مكاتبهم ومعاملهم على البحث الخالص، كما أنها تقصِّر في ذات نفسها وفي ذات العلم والمعرفة وفي ذات الأمة إن هي لم تخرج من الشباب إلا طلاب المنافع والمضطربين في كسب القوت والعاملين في ألوان النشاط العملي على اختلافه، وهي لا تؤدي واجبها على وجهه إلا إذا أخرجت للأمة من تحتاج إليهم من أولئك وهؤلاء، ولا ينبغي أن يُطلب إليها أن تخرج العلماء فحسب والعاملين فحسب، وإنما ينبغي أن نطلب إليها أن تخرج العلماء على أن يكونوا علماء حقًّا يفقهون العلم ويحبونه ويقدرون على تعمقه والإنتاج فيه والإضافة إليه، وأن تخرج العاملين على أن يكونوا قادرين على العمل حقًّا، وقد هيئت عقولهم للإقبال عليه والتصرف فيه والقدرة على النهوض بأعبائه واحتمال أثقاله مع ثقة بالنفس وارتفاع عن اليأس والقنوط.
وينتج من هذا كله أن من الخطأ أن تعاب الجامعة إذا فكرت في مستقبل طلابها أو جاهدت في أن يكون المستقبل باسمًا لهؤلاء الطلاب، من الخطأ أن تعاب الجامعة بذلك وأن يقال إنها تفكر في أعراض الدنيا، فالجامعة جزء من الدنيا لا جزء من الآخرة، وهي حريصة كل الحرص لا على أن تتصل بالحياة، بل على أن تكون ضرورة من ضروراتها ومقومًا من مقوماتها الأولى والأساسية.
وينتج عن هذا أيضًا أن من الخطأ أن تقصِّر الدولة أو يقصِّر الأفراد في تشجيع الجامعة على البحث العلمي الخالص ومنحها كل ما تحتاج إليه من المعونة على هذا البحث والاستزادة منه؛ لأن حياة الأمم المتحضرة لا تستقيم كما رأيت إلا إذا استقام لها هذان النوعان من أنواع النشاط في معاهد التعليم العالي.
وأذكر أن الأستاذ نجيب الهلالي باشا حين تولى وزارة المعارف للمرة الثانية ورغب في أن ينقص آماد الدراسة في كليات الجامعة، تحدث إليَّ في هذا الأمر بالقياس إلى كلية الآداب فلم أجد ميلًا إلى مجاراته في هذا الاتجاه، وإنما انتهزت هذه الفرصة ورفعت إليه تقريرًا عرضت فيها ما رأينا أن كلية الآداب تحتاج إليه من الإصلاح والمعونة، وأنا أثبت هنا نص هذا التقرير دون أن أغير منه شيئًا؛ لأنه يصور رأيي فيما ينبغي أن تسلك كلية الآداب من سبيل، ويبين في وضوحٍ أن كل معهد من معاهد الجامعة يجب أن يتجه هذين النوعين من الاتجاه، وهما الاتجاه إلى تهيئة الشباب للحياة العاملة الناجحة، والاتجاه إلى تهيئة الشباب للحياة العلمية الخالصة. وما أشك في أن أساتذة الكليات الأخرى لو سئلوا عن رأيهم ومُكِّنوا من أن يعرضوا هذا الرأي فيما ينبغي لكلياتهم من اتجاهٍ سيذهبون هذا المذهب الذي ذهبته أو مذهبًا قريبًا منه أشد القرب.
- أولًا: تهيئة فريق من الشباب لإتقان فروع من العلم بحيث يستطيعون أن ينهضوا بتعليم هذه الفروع في المدارس الثانوية.
- ثانيًا: تثقيف فريق آخر من الشباب في فروع من العلم على وجه يمكنهم بعد
الظفر بالدرجات الجامعية من أن ينهضوا ببعض التبعات في أنحاءٍ
مختلفة من الحياة نهوض الرجل المستنير المهذب الذي يحسن فهم الأمور
وتقديرها ويحسن التعبير عما فهم والتصوير لما قدر، ويتصرف بعد هذا
كله فيما يعرض له من الأمر تصرف الرجل ناضج العقل نافذ البصيرة
عالم بما يأتي وما يدع.
وأنحاء الحياة هذه التي يُهيَّأ لها هذا الفريق من الشباب كثيرة مختلفة؛ فمنها ما يكون في دواوين الحكومة ومصالحها، ومنها ما يكون في الصحف السيارة على اختلاف أغراضها ومذاهبها، ومنها ما يكون في الأعمال الحرة المختلفة.
- ثالثًا: تهيئة فريق من الشباب لإتقان فروع العلم والتخصص فيها والفراغ لها، والانقطاع لما تحتاج إليه من بحثٍ متصل ودرس واسعٍ عميق معًا، وهؤلاء هم شباب العلماء الذين تعتمد عليهم الأمة في حماية العلم الخالص وحياطته وفي النهوض بما ينبغي أن تنهض الأمة به من المشاركة في تنمية الحضارة وترقية المعرفة.
وهذه الأغراض كلها جليلة الخطر عظيمة الشأن خليقة أن تمنحها الدولة أشد العناية وأدقها وأقواها، وألا تتصرف الدولة في أمرها إلا عن رويةٍ وأناة وتفكير دقيق طويل؛ فالشباب الذي يُهيَّأ لتعليم النشء إنما يهيأ للنهوض بحمل أمانة ثقيلة هي نقل تراث الأجيال الماضية إلى الأجيال المقبلة، وتمكين النشء من أن يستقبل الحياة قادرًا على التصرف فيها واحتمال أثقالها من شجاعة وجلد ومرونة وثقة بالنفس واعتماد عليها وفهم لما يحيط به من الظروف، ومن يُطلب إليه النهوض بهذا العبء الثقيل خليق أن تمنحه الدولة أدق ما تستطيع من العناية وأعظم ما تملك من المعونة، فتتيح له أصلح ما يمكن من الحياة المادية والعقلية جميعًا.
والذين يُهيَّئُون للعمل في المصالح والدواوين والصحافة والأعمال الحرة محتاجون إلى العناية التي تمكنهم من النهوض بهذا كله على أحسن وجه وأكمله، فالشاب الذي يعمل في ديوان من الدواوين أو مصلحة من المصالح يضر أكثر مما ينفع، ويسيء أكثر مما يحسن إذا لم يُزوَّد بما يجعله أهلًا للنهوض بالعمل الذي وُكِّل إليه؛ أهلًا له من الناحية الخلقية وأهلًا له من الناحية الثقافية، وحاجة الشاب الصحفي إلى الخلق المتين والثقافة العميقة الراقية أظهر من أن تحتاج إلى دليل. والذين يُهيَّئون للعلم الخالص والانقطاع له ووقف الحياة والجهود عليه أشد الناس حاجة إلى العناية والرعاية وإلى التشجيع والتأييد، فهم بحكم تفرغهم للدرس واتجاههم إلى ترقية المعرفة وتنمية الثروة العلمية مصروفون عن تدبير أمورهم المادية وكسب ما يحتاجون إليه ليعيشوا عيشة راضية تيسر لهم عملهم الشاق وتخفف عليهم جهدهم العنيف، فإذا أريد التفكير في التيسير على طلاب كلية الآداب وتشجيعهم على العمل لتحقيق ما يُطلَب إليهم من هذه الأغراض الجسام، وتمكينهم من أن يقبلوا على الدرس باسمين له راغبين فيه فليس ينبغي أن تخفف عنهم أعباء الدرس ولا أن تقصر لهم آماده.
فإن الأغراض التي أنشئت كليتهم من أجلها لا تسمح بالإقلال من الدرس ولا بإدراك الدرجات الجامعية في الآماد القصار، بل هي تحتاج إلى الجهد المتصل الثقيل، وهم في حاجةٍ قبل كل شيء إلى أن يعودوا الصبر والأناة واحتمال المشقة ومصارعة المصاعب والتغلب عليها.
وأساتذتهم يعرفون منهم حسن استعدادهم لذلك كله وينتظرون منهم أن يكونوا رجالًا أولي عزم، لا يعرفون السأم ولا يشفقون من الجهد، ولا يستطيلون أوقات الدرس، وإنما يكون التيسير عليهم والإحسان إليهم بتمكينهم من الفراغ لما يطلبون من العلم وتهيئة المستقبل الصالح الذي يكافئ ما يبذلون من الجهد وتشجيعهم على الاستزادة من الجد والتحصيل.
فطلاب كلية الآداب لا يطلبون ولا تطلب لهم كليتهم أن تسهل عليهم الدراسة؛ لأنهم لا يشفقون من صعوبة الدراسة، ولا يطلبون ولا تطلب لهم كليتهم أن تقصر لهم آماد الدرس؛ لأنهم لا يضيقون بكليتهم ولا يتعجلون فراقها وفراق أصدقائهم الأساتذة وهم لا يحبون العجلة، بل يؤثرون الريث والأناة، وإنما يطلبون إذا تعلموا أن يمكنوا من خدمة أمتهم ووطنهم بهذا الجهد الذي ينفقون.
يطلبون وتطلب لهم كليتهم أن يكونوا بعد الانتهاء من الدرس قادرين على النشاط الذي هُيئوا له لا مضطرين إلى البطالة ولا مكرهين على إضاعة الوقت ولا مضطرين إلى العمل في غير ما هيئوا له ليكسبوا القوت، ولا معرضين لأنواع الحرمان وألوان البؤس التي تثبط الهمة وتفل العزيمة وتخيب الأمل وتكسر من حدة الشباب.
وهم يطلبون وتطلب لهم كليتهم ألا تضيع أوقاتهم ولا تهدر جهودهم ولا تتعرض كرامتهم لما يؤذيها أو يشينها.
ثم هم يريدون وتريد لهم كليتهم إذا أتموا دراستهم وظفروا بدرجة الليسانس وإجازة التعليم ألا ينتظروا وألا يضطروا إلى البطالة، بل تفتح لهم أبواب العمل الكريم الذي يؤجرون عليه أجرًا يلائم حاجتهم وجهودهم وتبيح لهم أن يعيشوا كرامًا، وأن يبثوا الكرامة في نفس النشء الذي يتولونه بالتربية والتعليم، وعلى هذا فإن هناك أصلًا من الأصول قد حرصت عليه كلية الآداب منذ عهدٍ بعيد، وما أظن إلا أن كلية العلوم قد تحرص عليه أيضًا؛ وهو أن تكون الصلة بين معهد التربية وبين هاتين الكليتين قوية منظمة بحيث يستطيع الطلاب منذ السنة الثالثة أن يختلفوا إلى دروس المعهد دون أن يؤثر هذا في دراستهم العلمية وبحيث لا يضيعون وقتًا بحجة التخصص في التربية، فليس من الضروري أن يكون المعلم مختصًّا في علوم التربية، وإنما الضروري أن يكون محسنًا لهذه العلوم متقنًا لمناهجها.
والطلاب الذين يتهيئُون للعمل في المصالح والدواوين والجماعات الحرة محتاجون إلى أن يُزوَّدوا بما يحتاج إليه هذا العمل من الثقافة الخاصة والتمرين العملي بشرط ألا يضيع عليهم ذلك وقتًا ولا يعطل لهم درسًا.
- القسم الأول: يتمرن الطلاب فيه على التحرير العربي الذي يُحتَاج إليه في المصالح والدواوين، وفيه يدرسون اللغة العربية درسًا عمليًّا ويدرسون اللغتين الإنجليزية والفرنسية درسًا عمليًّا أيضًا يمكنهم من التخاطب والقراءة والإنشاء، ويدرسون ما لا بد من درسه من نظم الإدارة وإجراءاتها المختلفة ثم يتثقفون ثقافة حسنة في تاريخ النظم الإدارية والدستورية وفي تاريخ العلاقات السياسية الخارجية.
- والقسم الثاني: يتمرن الطلاب فيه على الترجمة من الإنجليزية والفرنسية إلى العربية ومن العربية إلى هاتين اللغتين ويتثقفون فيه الثقافة التي أشرنا إليها في القسم الأول.
- وأما القسم الثالث: فيتمرن الطلاب فيه على أعمال الصحافة المختلفة من تحرير وإدارة واستخبار وتوزيع، وذلك إلى تثقُّفهم في المواد التي أشرنا إليها آنفًا وتمرُّنهم على اللغتين الأجنبيتين إحداهما أو كلتيهما.
وواضح جدًّا أن الطلاب سيكونون أحرارًا في أن يختاروا أحد هذين الوجهين من وجوه التمرين العملي، فمن أراد منهم التعليم ذهب إلى معهد التربية، ومن أراد منهم التحرير أو الترجمة أو الصحافة ذهب إلى المدرسة التي تنشأ لذلك، وسيجدون عند أساتذتهم ما يحتاجون إليه من التوجيه والإرشاد.
لا يراد بهذا التيسير كله إلا أن يشعر الطلاب بأنهم أحرار في تدبير أمورهم من جهة وبأنهم رجال يجب أن يعتمدوا على أنفسهم في تدبير هذه الأمور من جهةٍ أخرى.
أما الطلاب المتفوقون الذين يؤثرون العلم الخالص والتفرغ له فسينقطعون للدرس العلمي في الكلية حتى يظفروا بدرجاتهم الجامعية المختلفة، وعلى هؤلاء الطلاب تعتمد الكلية ويجب أن تعتمد مصر في تكوين الأخصائيين من العلماء الذين يحملون اللواء العلمي لمصر وينهضون بنصيبها في تنمية المعرفة الإنسانية وترقية الحضارة، وبين هؤلاء الطلاب ستختار الكلية الجيل الذي ينهض بالتعليم فيها ويخلف أساتذتها القائمين الآن شيئًا فشيئًا، ومهمة هؤلاء الطلاب من أجلِّ المهمات خطرًا وأعظمها شأنًا، وهم من أجل ذلك أحق الناس بعناية الجامعة ورعايتها وحماية الدولة ومعونتها، فلا بد من أن يشجعوا على البحث وتيسر لهم طرق الدرس وتخفف عنهم أثقال الحياة، فتخصص لهم المكافآت الدراسية في مصر، وتنظم لهم البعثات العلمية للخارج، وتحيطهم الجامعة والدولة بكل ما من شأنه أن يشعرهم بالكرامة ويزين في قلوبهم حب العلم ويعصمهم من اليأس، ومن كل ما من شأنه أن يصدهم عن هذا المثل الأعلى الذي وقفوا حياتهم وجهودهم على السعي إليه.
وإذن فكلية الآداب لا تطلب إلا أن يتاح لطلابها العمل على تحقيق آمالهم في الحياة دون أن تُبثَّ أمامهم العقاب، أو تُقام لهم الصعاب، أو تُخلق لهم المشكلات، لا تطلب إلا أن يهيأ العمل في التعليم لمن أراد منهم التعليم، والعمل في المصالح والدواوين والصحف لمن أراد منهم هذا العمل، والفراغ للعلم الخالص لمن أراد منهم هذا الفراغ، وهي لا تريد الآن أن تمس نظمها بتغييرٍ أو تبديل؛ لأنها لا تجد مصلحة في ذلك، بل تجد فيه ضررًا وخطرًا على التعليم.
وهي ترى أنه لا يجوز التعرض لنظمها قبل أن تستقر أمور التعليم الثانوي ويتم إصلاحه، ويثبت للجامعة أنه أصبح قادرًا على أن يهيئ لها طلابًا قادرين على استقبال الدراسات الجامعية العليا، وليس معنى ذلك أن الكلية قانعة بنظامها راضية عنه كل الرضا، بل معناه أنها تؤثر الأناة والتريث، وتكره العجلة وكثرة الاضطراب في التجارب، وتريد أن تترك لنظامها القائم فرصة كافية فيها اختباره، وتبين ما قد تحتاج إليه من الإصلاح حين ترى الوقت ملائمًا والظروف مواتية.
وهناك قسم من أقسام الكلية لم نشر إليه الآن لأنه يحتاج إلى عنايةٍ خاصة، وإلى إفرادٍ بالذكر؛ وهو معهد الآثار، وهذا المعهد ينقسم إلى قسمين: أحدهما تُدرس فيه الآثار المصرية القديمة وما يتصل بها من العلوم، والثاني تُدرس فيه الآثار الإسلامية وما يتصل بها من العلوم، ولا يستطيع الطلاب أن يلتحقوا بهذا المعهد إلا بعد حصولهم على درجة الليسانس الممتازة أو ما يرى مجلس الكلية أنه معادل لهذه الدرجة، وذلك أن الدراسة في هذا المعهد أرقى وأعمق وأدق من أن يستطيع الطلاب أن يجمعوا بينها وبين دراساتهم العلمية الأخرى، وقد قسمت الكلية الدراسة في هذا المعهد بقسميه إلى نوعين: أحدهما فني خالص يفرغ له الطلاب حتى إذا تخرجوا كان منهم الأمناء والفنيون الذين يعملون في مصلحة الآثار المصرية والعربية، والثاني ثقافي مسائي يقصد به إلى تنمية حظ الطلاب من هذه الثقافة الخاصة إما لمجرد الاستنارة والتفقه، أو الاستعانة بما يعلمون من ذلك على إتقان العلم بالتاريخ وإتقان درسه للطلاب في المدارس الثانوية. والكلية حريصة أشد الحرص على أن تطلب عناية خاصة للمتخرجين من هذا المعهد، فيجب أن تكون المرتبات التي تخصص لهم بعد التخرج ممتازة تلائم ما بذلوا من الجهد، وما أنفقوا من الوقت في الدرس، فهم ينفقون ثلاثة أعوام في التخصص بعد الليسانس، ولا بد من تشجيعهم على الإقبال على المعهد بمنحهم المكافآت الدراسية التي تعينهم على الفراغ للعلم في الوقت الذي يشتغل فيه زملاؤهم في المدارس والمصالح والدواوين.
ونوع آخر من العناية بالطلاب تحتاج إليه كلية الآداب أشد الحاجة وتحرص عليه أشد الحرص وترى أنه ليس أقل خطرًا ولا أهون شأنًا من العناية بالتعليم والتثقيف وتهيئة المستقبل؛ وهو الذي يتصل بحياة الطلاب الصحية والاجتماعية.
فمما يؤذي حقًّا أن نرى الطلاب كما هم الآن قد خُلِّي بينهم وبين الحياة المادية يشقون بآلامها ويتعرضون لما فيها من أخطار لا تحصى على الصحة والعقل والخلق جميعًا.
فكثير جدًّا من طلاب الكلية فقراء لا يجدون ما يقيم أودهم على الوجه الذي يحتاج إليه الشاب الذي يجدُّ في الدرس والتحصيل؛ غذاؤهم رديء ومسكنهم رديء والبيئة التي يعيشون فيها بعيدة عن أن تلائم صحتهم وحاجتهم إلى الهواء النقي وإلى النظافة التي لا أمل في الصحة بدونها، والطلاب جميعًا مهملون فيما يكون بينهم من العلاقات وفيما يكون بينهم وبين غيرهم من العلاقات أيضًا، تجري أمورهم كما تستطيع لا كما ينبغي، فيعرضهم ذلك لألوانٍ من الخطر على حياة العقل والخلق والجسم، ولا بد من العناية بتنظيم حياتهم الاجتماعية وأخذهم بما يحميهم من هذه الأخطار ويدفعهم إلى النشاط باسمين آملين لا عابثين ولا يائسين، ويرقِّي أذواقهم وينقِّي أخلاقهم وطبائعهم ويهيئهم ليكونوا رجالًا صالحين لمستقبل صالح.
وكان المأمول أن ينهض اتحاد الجامعة ببعض هذا ولكنه بذل كثيرًا من الجهد وأنفق كثيرًا من المال، ولم يصنع في هذا السبيل شيئًا فلا بد من تمكينه من ذلك وإعانته عليه، ولا بد من الحد في أن يهيأ للطلاب طعام صالح لا يكلفهم ثمنًا غاليًا ولو مرة واحدة في اليوم، ولا بد من تشجيعهم على الرياضة وأخذهم بها إن لم يغنِ التشجيع، ولا بد من تنشيطهم للرحلة والأسفار في أوقات الراحة والفراغ، ولا بد من أن تنظم لهم الاجتماعات التي يتناولون فيها بالبحث والمناظرة مسائل مختلفة تمس حياتهم العلمية والعملية والخلقية وتمس بعض المشكلات الاجتماعية التي لا ينبغي أن يجهلها الشاب.
فإذا وجدت الكلية من الجامعة والدولة معونة صادقة على تحقيق هذه الأغراض كلها كانت خليقة أن تنهض بما عليها من الواجبات على أحسن وجه وأكمله، وأن تؤدي أمانتها للأمة على خير ما تنتظر منها الأمة، وأن تلام إن قصرت في ذلك أو نكلت عنه.
وأما إذا لم تظفر بما هي أهل له من المعونة الصادقة فهي باذلة على كل حال ما تملك من الجهد لتحقيق أغراضها وإرضاء آمال الأمة، والله يتولاها بمعونته ورعايته وهو خير الحافظين.