معاهد العلم ليست مدارس فحسب
والقسم الأخير من هذا التقرير خليق أن نطيل التفكير فيه والعناية به أكثر مما تعودنا أن نفعل إلى الآن، فقد تعودنا أن ننظر إلى الجامعة وإلى معاهد التعليم عامة على أنها مدارس يدرس فيها العلم، ويصاغ فيها العقل صيغة حسنة أو سيئة على هذا النحو أو ذاك، ولكنها على كل حالٍ مدارس يُعنى فيها بالعقل وملكاته قبل كل شيء.
فأما الأشياء الأخرى التي تمس الخلق والجسم والسيرة الشخصية الوطنية والإنسانية، فأمور لا تُعنى بها المعاهد إلا عناية إضافية عارضة، ومع ذلك فقد فرغ الناس من إثبات أن المعرفة وحدها ليست كل شيء، وأن الذكاء الممتاز خطر إذا لم يقومه خلق كريم وسيرة فردية واجتماعية صالحة وجسم سليم مبرأ من العلل والأدواء، وقد آن لنا أن نعتقد بل أن نستيقن أن معاهد العلم ليست مدارس فحسب ولكنها قبل كل شيء وبعد كل شيء بيئات للثقافة بأوسع معانيها وللحضارة بأوسع معانيها أيضًا، فالطالب الذي يتصل بالجامعة لا ينبغي أن يفهم ولا أن تفهم أسرته ولا أن تفهم الأمة أو الدولة أنه إنما يتصل بها ليحصِّل مقدارًا من العلم ويبلغ بعقله طورًا من الرقي، ثم ينصرف عنها ليستغل ما حصَّل من العلم وما بلغ من الرقي فيما يضطرب فيه من فروع الحياة، شأنه شأن الرجل يلم بالمطعم ليقيم أوده إن كان مقلًّا وليستمتع بلذات الطعام والشراب إن كان غنيًّا موسرًا، فإذا أرضى حاجته من ذلك انصرف عن المطعم ليفني في ألوان النشاط المختلفة ما تزود به من طعام وشراب ولذة.
كلا، لا ينبغي أن نفهم هذا أو ما يقرب منه حين نتصل بالجامعة أو نرسل أبناءنا إليها، وإنما ينبغي أن نفهم أننا إنما نتصل بأسرة جديدة ونرسل أبناءنا إلى أسرةٍ جديدة ليست أقل تأثيرًا في حياتنا وحياتهم ولا أقل سيطرة عليها من أسرتنا القديمة التي نشأنا فيها، وهذه الأسرة الجديدة هي البيئة الجامعية التي تقوم على الحب والمودة وعلى التعاون والتضامن بين أعضائها جميعًا سواء منهم الطلاب والأساتذة الذين يعملون فيها بالفعل والذين بعدت عنهم أشخاصًا في الزمان أو في المكان؛ لأن عروة هذه الأسرة أمتن وأبقى من أن يفصمها بعد الزمان والمكان.
وقد قلت إن قوام هذه الأسرة إنما هو الحب والمودة والتعاون والتضامن، فأحب أن يفهم الأساتذة والطلاب أن هذه الأسرة يجب أن تكون صورة مصغرة محققة للمثل الأعلى الذي ينبغي أن يطمح إليه الأفراد في الجماعة الواحدة، وأن تسمو إليه الجماعات في الوطن الواحد، وأن تتعاون على بلوغه الأوطان المختلفة في أقطار الأرض كلها.
ومن هنا قلت إن الجامعة بيئة لا يتكون فيها العالم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذي لا يكفيه أن يكون مثقفًا بل يعنيه أن يكون مصدرًا للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضرًا بل يعنيه أن يكون منميًا للحضارة، فإذا قصرت الجامعة في تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين فليست خليقة أن تكون جامعة، وإنما هي مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة، وما أكثرها! وليست خليقة أن تكون مشرق النور للوطن الذي تقوم فيه والإنسانية التي تعمل لها، وإنما هي مصنع من المصانع يعد للإنسانية طائفة من العلماء ومن رجال العمل، محدودة آمالهم محدودة قدرتهم على الخير والإصلاح.
وينتج عن هذا أمران خطيران: أحدهما أن الجامعة يجب أن تكون مستقر الثقافة العميقة العامة لا بالقياس إلى نفسها فحسب، بل القياس إلى غيرها من البيئات أيضًا، ولست أخفي عليك أني أعترف في صراحةٍ وألم بأن جامعتنا بعيدة كل البعد عن بلوغ هذه المنزلة؛ فهي ليست مستقر الثقافة العميقة العامة بالقياس إلى نفسها أولًا، وآية ذلك أنك تستطيع أن تتحدث إلى من شئت من الشباب الجامعيين فترى ثقافته سطحية ضيقة أشد الضيق، تحدث إلى المتخرج في كلية الآداب أو الحقوق فتراه حسن الحديث إلى حدٍّ متواضع في فنه الذي تخصص فيه، فإذا تجاوزت به هذا الفن فستراه كغيره من رجال الشارع، وتحدث إلى المتخرج في كلية الطب أو الهندسة على شيءٍ من الشك في ذلك ولكنك إذا تجاوزت به فنه الخاص فستراه رجلًا من عامة الناس.
وما ينبغي أن تكون هذه حال الرجل الجامعي وإنما أخص ما يمتاز به الرجل الجامعي سعة العقل والتفنن في ألوان المعرفة، ومصدر هذا الجهل الذي نسجله محزونين على الشباب الجامعيين أمران: الأول فساد التعليم الثانوي، والثاني أن الحياة الجامعية نفسها ضيقة محدودة مقسمة أقسامًا متمايزة؛ فكل فرعٍ من فروع الجامعة منحاز إلى نفسه منقطع عن غيره متوفر على جهوده الخاصة، ولو قد نظمت الحياة الاجتماعية للشباب الجامعيين تنظيمًا حسنًا؛ لأمكن أن يلتقي طلاب الطب والحقوق والعلوم والآداب والهندسة من وقتٍ إلى وقت، بل لأمكن أن يعايش بعضهم بعضًا وأن تتصل بينهم المودة والإلف فيتحدث بعضهم إلى بعض ويتثقف بعضهم على بعض، ويعرف أولئك أطرافًا مما عند هؤلاء، وتتحقق هذه الثقافة الواسعة المنوعة في غير جهدٍ ولا مشقة ولا عناء.
الأمر الثاني أن الجامعة يجب أن تكون مستقر الحضارة الراقية الممتازة التي لا تظهر آثارها في الإنتاج العلمي والعملي وحدهما، وإنما تظهر قبل كل شيء في هذه السيرة النقية الصافية التي تقوم فيها الصلات بين الناس على المودة الشائعة والاحترام المشترك والإيمان بالواجب قبل الإيمان بالحق، وتقدير ما لغيرك عليك قبل أن تقدر ما لك على غيرك، ثم في إكبار النفس والارتفاع بها عن الصغائر وتنزيهها عن الدنيات، ثم في هذا الذوق المهذب المصفى الذي يحس الجمال ويسمو إليه ويحس القبح فينأى عنه، وكل هذا لا يتحقق إلا حين تنظم الحياة الاجتماعية للشباب الجامعيين تنظيمًا حسنًا يمكنهم من أن يعايش بعضهم بعضًا ويصلح بعضهم من شأن بعض، ومن أن يشتركوا في الاستمتاع معًا بلذات العلم والفن؛ مرة بالاستماع للمحاضرات، وأخرى بالاستماع للموسيقى ومرة ثالثة بشهود التمثيل ثم بالاشتراك في الألعاب الرياضية قبل كل شيء وبعد كل شيء.
وليس يكفي أن ينشأ للجامعة اتحاد وأن توكل إليه هذه الشئون؛ فاتحاد الجامعة مؤلف من طلابها أو هم كثرته، وعلم الطلاب بهذا كله محدود أو قل إنه لا وجود له، والطاقة المالية لهذا الاتحاد لا تكاد تذكر فلا بد من أن تقوم الجامعة نفسها على هذا كله قيامًا حسنًا ومن أن تعنى به عنايتها بالتعليم نفسه؛ فإن لم تفعل فقد قصرت في مهمتها الجامعية تقصيرًا قبيحًا.