ما تحتاجه الجامعة لتنهض بهذا القسط من التعليم
ولكن الجامعة لا تستطيع أن تنهض بهذا العبء ولا أن تنهض بعبء التعليم نفسه إلا إذا ظفرت بشيئين؛ أحدهما: أن تبلغه الآن وقد كان يجب أن تبلغه منذ أنشئت وهو الاستقلال الصحيح، والثاني: تستطيع أن تبلغه شيئًا فشيئًا وتصل إليه قليلًا قليلًا وهو الثروة وسعة ذات اليد.
فأما استقلال الجامعة فقد قررته قوانينها وتسجله الحكومات المختلفة في فرصٍ مختلفة وظروفٍ متباينة، ولكن الحياة الواقعة للجامعة تدل على أن هذا الاستقلال لا يزال متواضعًا أو أكثر من المتواضع، ونحن حين نذكر استقلال الجامعة نفهم منه أمرين أساسيين؛ أحدهما: أن تستقل الجامعة بشئونها المالية في حدود القوانين العامة بعد أن يقر البرلمان ميزانيتها في كل عام، والثاني وهو أخطرهما وأهمهما: أن تستقل الجامعة بشئون العلم والتعليم استقلالًا تامًّا لا تحده إلا سيادة الدولة هذه التي تجعل من حق البرلمان إقرار القوانين التي تنظم كل ما يجري في أرض الوطن متصلًا بحياة الناس وأعمالهم، ومعنى هذا أن تكون الجامعة مستقلة بشئون العلم والتعليم بعد أن تصدر القوانين التي تنظم هذه الشئون.
فأما الاستقلال المالي فليس للجامعة منه حظ قليل أو كثير، ومن الحق أن ميزانية الجامعة منفصلة يصدر بها قانون خاص، ولكن هذا شكل من أشكال الاستقلال لا حقيقة من حقائقه، ويكفي أن تعلم أن الجامعة التي يعترف لها القانون بتدبير أمورها المالية لا تستطيع أن تتصرف في أيسر الأمر إلا إذا أذنت لها وزارة المالية، ووزارة المالية هنا ليست الوزير ولا الوكيل وإنما هي المكاتب التي يشرف عليها في أكثر الأحيان موظفون لا يعرفون من أمر العلم والتعليم شيئًا، فالجامعة مقيدة بأسخف القيود وأثقلها حين تريد أن تشتري الكتب أو تبيع ما تطبع منها وحين تريد أن تشتري حتى أهون الأدوات، وحين تريد أن تعين كبار الموظفين وصغارهم في هيئة التدريس وفي مكاتب الإدارة والكليات، وواضح جدًّا أن هذا التضييق الشنيع لا يمكن أن تستقيم معه أمور التعليم الابتدائي فضلًا عن التعليم الجامعي.
وأما النوع الثاني من الاستقلال الذي هو قوام الحياة الجامعية والذي لا وجود للجامعة بدونه؛ فحظ الجامعة المصرية منه ضئيل جدًّا ولعله إلى الشكل والصورة أدنى منه إلى الحقيقة الواقعة، ولم ينسَ الناس بعدُ تلك المحنة الجامعية التي أثيرت منذ أعوام حين أرادت إحدى الحكومات أن تُكرِه الجامعة على أن تمنح ألقاب الشرف لجماعة من الساسة، فظنت الجامعة أو ظن بعض الجامعيين أنها مستقلة، وهمت الجامعة أو هم بعض الجامعيين بمقاومة ما كان يراد من إقحامها في السياسة فكانت النتيجة ما يعرفه الناس، ومن الحق أن الشباب الجامعيين قد غضبوا لعدوان السلطان حينئذٍ على الجامعة غضبة شريفة تحدث الناس عنها في أقطار الأرض كلها، ومن الحق كذلك أن الرأي العام في مصر قد قاوم السلطان يومئذ مقاومة شديدة كريمة، ولكن من الحق أيضًا أن هذا الدرس لم يؤتِ ثمرة ولم ينتج للجامعة ما كان ينبغي أن ينتج لها من حماية استقلالها من كل عدوان، فليس الاعتداء على استقلال الجامعة مقصورًا على ظلم السلطان لهذا العميد أو ذاك أو حمل الجامعة بالعنف على ما لا تحب فهذا العدوان يسير أمره؛ لأن الناس جميعًا يحسونه ويشعرون به وينكرونه دائمًا ويقاومونه أحيانًا، إنما العدوان الخطر على استقلال الجامعة هو هذا الذي يظهر للناس على أنه شيء مشروع قد صدر من صاحب الحق فيه، هذا العدوان لا حيلة لأحدٍ فيه ولا قدرة لأحدٍ عليه وهو مع ذلك مصدر فساد عظيم وشر مستطير، هذا التغيير الذي تستبيحه سلطة الدولة لنفسها في نتائج الامتحان، وهذا التغيير الذي تستبيحه سلطة الدولة لنفسها في إلغاء الأحكام التي تصدرها مجالس التأديب الجامعية هو كل الشر وهو الذي يلغي استقلال الجامعة إلغاء، وما أظن سلطة الدولة تستطيع أن تنكر أنها اتخذت التشريع الذي لا غبار عليه من الوجهة القانونية ولا من وجهة سيادة الدولة وسيلة إلى إلغاء استقلال الجامعة، وإضاعة حقها في الإشراف وحدها على شئون العلم والتعليم، ولو أن سلطة الدولة اكتفت بتغيير بعض النظم التي تمس التعليم والامتحان لهان الأمر ولأمكن احتمال الشر، ولكن سلطة الدولة تجاوزت هذا فألغت نتائج الامتحان الجامعي وأنجحت بالقانون من لم تر الجامعة لهم حقًّا في النجاح، ووضعت الدرجات الجامعية بالقانون لمن لم تر الجامعة لهم حقًّا في الدرجات، ولو أن سلطة الدولة شملت بالعفو من عاقبتهم مجالس التأديب الجامعية في ظروفٍ سياسية بعينها لهان الأمر وأمكن احتمال الشر، ولقيل إن للاضطرابات السياسية نتائجها السيئة التي لا بد منها أحيانًا والتي يجب أن تحتمل، ولكن سلطة الدولة ألغت الأحكام التأديبية على بعض الطلاب الذين عبثوا بالامتحان وغشوا فيه، وهذا هو الفساد الذي ليس بعده فساد.
وما أحب أن أطيل في هذا الحديث البغيض ولا أن أتعمق الآثار المنكرة التي ينتجها هذا العدوان على استقلال الجامعة في حياة العلم والتعليم وفي أخلاق الطلاب وفي الصلة بينهم وبين أساتذتهم، وفيما ينبغي للسلطان الجامعي من الكرامة في نفوس الجامعيين أساتذةً وطلابًا، وفيما ينبغي لسلطان الدولة نفسه من الكرامة التي يجب أن ترتفع به عن مثل هذا الضعف والتهاون وتشجيع الشباب على الكسل والخمود وعلى العبث بالامتحان أحيانًا، وفيما ينبغي لسمعة التعليم المصري في البلاد الأجنبية من احترام الجامعات وتقديرها، لا أريد أن أطيل في هذا كله ولا أن أتعمقه؛ لأني أجد في نفسي اشمئزازًا من هذا الحديث، ولأني أكره الإطالة في شيءٍ أقل ما يوصف به أنه وصمة لتعليمنا الجامعي في وقت يجب أن يبرأ تعليمنا الجامعي من الوصمات.
وإنما أسجل هنا أن حياة الجامعة ستصبح عبثًا كلها إذا لم تعرف الدولة للجامعة استقلالها العلمي الصحيح وإذا لم تحترم هذا الاستقلال كما تحترم استقلال القضاء بالضبط، ولست أدري متى يفهم المشرفون على الأمر في مصر أن سيادة الدولة حق وخير ولكن بشرط ألا تتجاوز حدودها ولا تخرج عن أطوارها. إن الدولة لا تستطيع أن تغير أحكام القضاء باسم هذه السيادة ثم تزعم لنفسها أنها متحضرة، فهي كذلك لا تملك أن تغير أحكام الامتحان باسم هذه السيادة ثم تزعم أنها حفيظة على التعليم.
وليس يعنيني ولا يقع من نفسي أي موقع ما أقرأه وأسمعه بين حينٍ وحين من تصريح الوزراء ورؤساء الوزارات على اختلافهم أمام البرلمان وفي الصحف بأنهم يحترمون استقلال الجامعة ويؤيدونه، فهذا كلام قد يكون له أثر في نفوس العامة من الناس، فأما الجامعيون فإنهم يؤثرون أن تحترم الدولة استقلال الجامعة بالفعل لا بالألفاظ، وأهون عليهم بل أحب إليهم أن تنسى الدولة استقلال الجامعة إذا تحدثت وألا تعرض له بخيرٍ ولا بشر، ذلك أحرى أن يضمن للجامعة حياة خالصة للعلم وخالصة من شوائب السياسة أيضًا، وأما منح الجامعة ما تحتاج إليه من مالٍ لتتمكن من تحقيق أغراضها العلمية الخطيرة فواجب لا معنى لإطالة القول فيه، ومن الحق أن نسجل هنا أن الدولة المصرية ليست شديدة البخل على الجامعة وأنها تمنحها ما تستطيع أن تمنحها من المعونة، وما أظن أنها تبخل إلا حين تضطرها الظروف إلى الاقتصاد أو حين تخطئ في تقدير ما يحسن وما لا يحسن الاقتصاد فيه.
وإنما اللوم كل اللوم على الأفراد القادرين الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الوطن، والذين لا يكنزون الذهب والفضة وإنما ينفقونهما فيما لا خطر له بل فيما يخزي من تحقيق اللذات والشهوات، إن مما يخزي أصحاب الثروة والغنى في مصر أن أول هبة قُدِّمت للجامعة المصرية بعد أن تولت الدولة أمورها إنما قدمها كريم يوناني لتشجيع درس الحضارة اليونانية في كلية الآداب وهو المسيو أرستوفرون.
وما زلنا إلى الآن ننتظر الغني المصري الذي ينشئ في الجامعة الجوائز لتشجيع الطلاب على الجد والتفوق، والذي ينشئ في الجامعة الكراسي لتمكينها من درس هذا العلم أو ذاك، ولكن أغنياءنا في شغلٍ عن هذه الصغائر بما يملأ حياتهم من جلائل الأعمال هذه التي تحبب الفقر إلى الفقراء؛ لأنه يعصمهم من أمثالها، بل هذه التي تملأ قلوب الفقراء بغضًا وغيظًا وتدفعهم إلى التفكير في توزيع الثروة وفيما يقوم عليه النظام الاجتماعي في مصر من العدل والإنصاف.
وأظرف ما في أمر أغنيائنا أنهم يقرءون ما تنشره الصحف أحيانًا من أنباء الأغنياء الأوروبيين الذين ينزلون عن المقادير الضخمة من أموالهم لتحقيق المنافع العامة فيعجبون وتنطلق ألسنتهم بالإعجاب والثناء، ولكنهم لا يكفرون في أنفسهم ولا في ثروتهم ولا في أن للوطن حقًّا في هذه الثروة أكثر من هذه الضرائب اليسيرة التي يؤدونها إلى الدولة في كل عام، وأظرف من هذا كله أن ألسنتهم ربما انطلقت بالنقد اللاذع للدولة؛ لأنها لا تنفق على التعليم كما ينبغي، ولا يفكرون في أن الدولة لا تستطيع أن تنفق على كل شيء، وفي أن الجامعة قد تحسن العناية بالتعليم إن أمدوها هم ببعض ما يكنزون أو يبددون من المال، وأشد من هذا كله إيذاء للنفوس وإثارة للسخط في القلوب ما يبذله الأغنياء من الجهود العنيفة ليحملوا الجامعة والمدارس بفضل ما لهم من جاهٍ على أن يقبلوا أبناء الفقراء وأبناءهم هم أحيانًا بغير أجر، وكان أيسر من ذلك أن ينزلوا للجامعة أو للمدارس عن بعض أموالهم لتستطيع إباحة التعليم لأبناء الفقراء، ولكن هذه مسألة تتصل بأخلاقنا الاجتماعية وما أظنها تصلح حتى تصلح الثقافة وتشيع ويكثر فينا الأغنياء المثقفون تثقيفًا صحيحًا.