مشكلات التعليم العالي: مصادرها
ومشكلات التعليم العالي في مصر سواء أكَثُرت أم قلت يسيرة جدًّا لسببٍ يسير أيضًا وهو أن التعليم العالي قد تحرر من سلطان وزارة المعارف منذ أنشئت الجامعة وأصبح طليقًا سمحًا لا تقوم أمامه هذه العقبات التي تقيمها هذه العقلية الخاصة في وزارة المعارف راضية أو كارهة أمام ألوان التعليم المختلفة، والمشرفون على أمور التعليم العالي في الجامعة فنيون يعرفون صناعتهم حق المعرفة فيُقدِمون عن علمٍ وبصيرةٍ إذا أقدموا، ويحجمون عن رَوِيَّة وأناة إذا أحجموا، وقد يخطئون في بعض الأمر، ولكن نظمهم وقوانينهم الجامعية مرنة سمحة وعقولهم أيضًا مرنة سمحة، فأيسر شيء عليهم وأحب شيء إليهم أن يرجعوا عن الخطأ إذا تبينوه ويعودوا إلى الصواب إن ظهر لهم أنهم قد جاروا عنه أو تنكَّبوا طريقه.
وأكبر الظن أنك إذا وقفت عند مشكلةٍ من مشكلات التعليم الجامعي ثم حللتها ورددتها إلى أصولها ومصادرها فستنتهي دائمًا إلى أن أصل هذه المشكلة ومصدرها إنما هي الدولة في أي مظهر من مظاهر سلطانها، فحينًا يكون أصل المشكلة ومصدرها في وزارة المعارف؛ لأنها لم تهيئ الطلاب في التعليم الثانوي تهيئة تلائم حاجة التعليم الجامعي، أو لأنها أشارت على وزير المعارف أن يحجم حين تطلب إليه الجامعة أن يُقدِم وأن يُقدِم حين تطلب إليه الجامعة أن يحجم. وحينًا يكون أصل المشكلة ومصدرها وزارة المالية؛ لأنها لم تمنح الجامعة ما هي في حاجةٍ إليه من المال سواء أكان ذلك عن عنادٍ وبخل أم كان ذلك عن عجزٍ واضطرار، أو لأنها منحت الجامعة ما تطلب من المال ولكنها قامت دون ما للجامعة من حقٍّ في إنفاق هذا المال كما ترى في أمور التعليم الجامعي الذي لا تفهمه وزارة المالية ولا تسيغه في كثيرٍ من الأحيان. ومرة أخرى يكون البرلمان نفسه أصل المشكلة ومصدرها، وذلك حين يدخل فيما لا ينبغي أن يدخل فيه من شئون الامتحان مثلًا كما قدمنا، ولو قد استمتعت الجامعة باستقلالها الصحيح المعقول بالقياس إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية لاستطاعت أن تحل أكثر مشكلاتها في غير جهدٍ ولا مشقة؛ ذلك أن في الجامعة أصلًا من الأصول الفنية الخصبة التي تمكن من معالجة المشكلات في لينٍ ورفق والتغلب عليها في أناةٍ ومهل، وهو أن أمور التعليم موكولة إلى مجالس الكليات التي تتألف من رجال التعليم أنفسهم ثم إلى مجلس الجامعة الذي يتألف من رجال التعليم الجامعي ومن ممثلي سلطان الدولة، وإن أمور المال موكولة إلى مجلس إدارة الجامعة الذي يتألف من رجال التعليم الجامعي ومن ممثلي سلطان الدولة والذين يمثلون سلطان الدولة أنفسهم يشترط فيهم أن يكونوا قد مارسوا التعليم العالي مراسًا فعليًّا في بعض معاهده.
فالمشكلات التي تعرض للتعليم الجامعي سواء أكانت مشكلات فنية أو مالية أو إدارية لا تكاد تظهر حتى تجد أمامها رجالًا خبيرين بها وبأمثالها يستطيعون أن يفرغوا لها ويتوفروا على حلها ويأخذوا ذلك بالحزم إن احتاج إلى الحزم وبالأناة واللين إن احتاج إلى الأناة واللين، ومما يزيد في قيمة هذا الأصل وفي تيسير المشكلات الجامعية أن مجالسها لا تتألف من الجامعيين المصريين وحدهم، وإنما تتألف منهم ومن أساتذة أجانب ممتازين قد أُحسن اختيارهم، وهم لا يمثلون بلدًا بعينه أو ثقافة بعينها، وإنما يمثلون بلادًا مختلفة وثقافات مختلفة ونظمًا مختلفة للتعليم، فإذا عرضت مشكلة من المشكلات عرفت الجامعة كيف تعالجها الأمم الأجنبية إن عرضت لها ثم اختارت مما يعرض من ألوان الحل ما يلائم البيئة المصرية ومصالحها.
وما أحب أن يُظنَّ بي الغلو في تهوين أمر المشكلات الجامعية تعصبًا للجامعة وإيثارًا لها بالحمد والثناء، وإنما أريد أن أضرب الأمثال لطائفةٍ من مشكلات التعليم الجامعي كانت الجامعة تستطيع أن تحلها لو خُلِّيَ بينها وبين ذلك وأتيح لها ما ينبغي من الاستقلال والمال، وأظهر هذه المشكلات هذه التي تنشأ عن إقبال الشباب على كليات الجامعة وما تضطر إليه الكليات من رد بعضهم كارهةً وقبول بعضهم كارهةً أيضًا، فليست الجامعة هي التي تنشئ هذه المشكلة وإنما تنشئها الدولة نفسها وقد تحاول الجامعة حلها وقد تظفر بهذا الحل ولكنها لا تُوفَّق إلى تحقيقه؛ لأن الدولة تحول بينها وبين ذلك.
ولا يمكن أن تتهم الجامعة بالتقصير في النصح للدولة والشعب جميعًا فهي تلح في تمكينها من إنشاء فروع لها إن سمحت بذلك ظروف المال وفي تمكينها من ألا تقبل من الطلاب فوق ما تطيق إذا لم تنشأ هذه الفروع، وهي تنكر التدخل في شئون الامتحان أشد الإنكار وتُبلغ إنكارها هذا للدولة ولكنها لا تظفر بشيء، وأظرف من هذا كله ألا يجد رجال السلطة التشريعية والتنفيذية حرجًا في لوم الجامعة لأنها لا تنهض بأمور التعليم كما ينبغي.
وما عسى أن يكون رأيهم لو أن الجامعة رفضت قبول المئات والألوف من الطلاب واضطرتهم إلى البطالة؟ وما عسى أن يكون رأيهم لو أن الجامعة رفضت تنفيذ القوانين التي يصدرها البرلمان بإنجاح الراسبين؟ أما أنا فأعرف هذا الرأي فهم سيتهمون الجامعة بالثورة على السلطان والخروج على النظام.
أرأيت أن الجامعة ليست هي المسئولة عن هذه المشكلة وأن الدولة هي المسئولة عنها في أول الأمر وآخره؟ وهناك مشكلة أخرى قريبة من هذه؛ وهي أن قبول الطلاب يستتبع بطبيعة الحال تعيين من يحتاجون إليه من الأساتذة والمدرسين، ولكن الدولة التي تلح في قبول الطلاب تبخل بالمال أو تعجز عن المال الذي يستتبعه قبول هؤلاء الطلاب، كما أنها تبخل بالأماكن أو تعجز عن الأماكن التي يستتبعها قبول هؤلاء الطلاب، وينشأ عن ذلك أن تزدحم المدرجات في كلية الحقوق خاصة بمئات الطلاب وأن يخرج هؤلاء الطلاب بعد ساعة من الدرس ولم يسمعوا منه شيئًا ولم ينتفعوا منه بشيء.
ومن المشكلات التي تُسأل عنها الدولة ولا تُسأل عنها الجامعة أن هناك ألوانًا من الثقافة العليا يجب أن تُعنَى بها مصر عناية خاصة؛ لأن طبيعة الحياة المصرية تقتضي هذه العناية، وتشعر الكليات المختلفة بوجوب هذه العناية فتؤدي واجبها وتضع النظم ومشروعات المراسيم ويقرها مجلس الجامعة على ذلك، ولكن الدولة تقوم دون ما أقرته الجامعة إما لأنها لا تجد المال أو لا تريد أن تمنحه، وإما لأن السياسة تضطرها إلى الممانعة فيما تريد الجامعة، وليس هذا مقصورًا على كلية بعينها وإنما هو شائع بين الكليات جميعًا، والذين يعرفون أمور الجامعة من قربٍ لا يجهلون ما تلقاه الجامعة من الجهد والمشقة حين تريد إنشاء كرسي من الكراسي لهذه المادة أو تلك من مواد التعليم.
وأنا أضرب لهذا مثلين في كلية الآداب نفسها؛ فما من شكٍّ في أن طبيعة الحياة المصرية تقتضي أن تُعنَى مصر عناية خاصة بدرس اللغات السامية بحيث تصبح القاهرة مركزًا من أهم المراكز إن لم تكن أهم المراكز لدرس هذه اللغات، وقد شعرت كلية الآداب بهذا منذ نشأتها وجدَّت فيه وكادت تظفر بشيءٍ منه، ولكن صاحب المعالي حلمي عيسى باشا حين مسخ النظم الجامعية لكلية الآداب لم يعفِ اللغات السامية من هذا المسخ فردَّها إلى شيءٍ من الضعف القبيح، ونحن نحاول أن نصلح هذا الشر ولكننا لا نبلغ مما نريد شيئًا؛ لأننا لا نجد من المال ما يمكننا من هذا الإصلاح، وقد كان فيما حدث من تنكر ألمانيا لبعض الممتازين في اللغات السامية فرصة سانحة لنا، لو عرفنا كيف ننتهز الفرص، لنجعل مصر ملجأً لهذه الدراسات السامية المضطهدة، ولكننا لم نفعل لأن الدولة لم تفهم خطر هذه الفرصة أو لم تُرِد أن تفهمها.
وليس من شك في أن طبيعة الحياة المصرية تقتضي أن تُعنَى كلية الآداب عناية خاصة بالدراسات الإسلامية على نحوٍ علمي صحيح؛ لأن كلية الآداب متصلة بالحياة العلمية الأوروبية وهي تعرف جهود المستشرقين في الدراسات الإسلامية ومن الحق عليها أن تأخذ بنصيبها من هذه الدراسات؛ لتلائم بين جهود مصر التي ترى لنفسها زعامة البلاد الإسلامية وبين جهود الأمم الأوروبية الأخرى، ولعلها تستطيع أن تبذل من الجهد في هذه الدراسات ما يعجز الأجانب عن بذله وأن تُوفَّق إلى نتائج لا يستطيع الأجانب أن يُوفَّقوا إليها، ولعلها تستطيع أن ترد كثيرًا من الأمر إلى نصابه وأن تصلح كثيرًا من خطأ الأجانب في ذات الإسلام، ولعلها تستطيع أن تتبين وتبين للناس ما كان للحضارة الإسلامية من صلة بالحضارة الأوروبية الحديثة ومن تأثيرٍ فيها، ولعلها تستطيع آخر الأمر أن تحيي من الآثار الإسلامية في العلوم والآداب ما لا يزال في حاجةٍ إلى الحياة.
وقد شعرت الكلية بوجوب هذه العناية فأدت واجبها واقترحت إنشاء معهد للدراسات الإسلامية يفرغ فيه حملة الليسانس في اللغة العربية واللغات الشرقية وفي الفلسفة الإسلامية وفي التاريخ الإسلامي للبحث العلمي الخالص عن الحياة الإسلامية وما يتصل بها من العلوم، وأقر مجلس الجامعة هذا الاقتراح ورُفِع إلى وزير المعارف منذ عام ونصف عام، ولكن مشروع هذا المرسوم نائم في مكتب الوزير منذ ذلك العهد؛ لأن رجال الوزارة أشاروا على الوزراء المختلفين بألا يوقظوه إشفاقًا من أن يغضب الأزهر، كأن درس الإسلام والبحث عن علومه أمران مقصوران على الأزهر وعلى الأزهر وحده.
والظريف أن الأزهر نفسه يطالب أشد المطالبة بإحياء الثقافة الدينية في الشباب الجامعيين، فإذا همت الجامعة بإحياء هذه الثقافة غضب الأزهر وأشفقت وزارة المعارف من غضبه وكانت النتيجة أن تصد الجامعة صدًّا عن إحياء الثقافة الدينية الإسلامية، وحسبك بهذا شرًّا.
ومثلٌ آخر لما نقرره من أن الدولة هي المسئولة عما يكون من مشكلات للتعليم الجامعي؛ وهو هذا الذي كان منذ أعوام حين اقترحت كلية الآداب إنشاء معهد للأصوات وكانت كلية الآداب مقتنعة بأن هذا المعهد عظيم الخطر من جهتين؛ الأولى: أن الحاجة إليه شديدة جدًّا في تعليم اللغات الأجنبية على اختلافها، والثانية: أن إنشاءه ضرورة من الضرورات إذا أردنا درس اللهجات العربية قديمها وحديثها، وقد جاهدت كلية الآداب في إنشاء هذا المعهد ثلاثة أعوام كاملة ولكنها لم تظفر به؛ لأن أحمد عبد الوهاب باشا رحمه الله لم يستطع أن يفهم قيمة هذا المعهد وحاجة التعليم إليه، وكان وكيلًا للمالية وممثلًا للدولة في مجلس الجامعة، وتستطيع أن تسأل أي كلية من الكليات فسترى أن أمرها كأمر كلية الآداب وستقتنع بأن ما يعترض التعليم العالي في مصر من المصاعب سواء أَكَثُرَ أم قَلَّ، هيِّن جدًّا إذا ظفرت الجامعة بالاستقلال والمال.
وربما كان من أشد الأشياء تأثيرًا في تحقيق استقلال الجامعة أن تقوم الدولة في حزمٍ وعزم، وفي غير تثاقل ولا إبطاء على تحقيق أمر كَثُر التفكير فيه منذ أعوام، وأخذت به البلاد الراقية منذ زمن طويل جدًّا حتى أصبح أساسًا من أسس الحياة فيها؛ وهو أن تكون درجات الجامعة، وإجازات المدارس العليا شرطًا أساسيًّا للتقدم لشغل مناصب الدولة لا للظفر بها، ومعنى ذلك ألا تكون هذه الدرجات الجامعية والإجازات العلمية كافية ليتولى أصحابها المناصب على اختلافها، وإنما تُنال المناصب بالمسابقات الخاصة التي تُعقد لها في كل عام، أو كلما احتاجت الدولة إلى الموظفين في فرعٍ من فروعها، ذلك أنفع للدولة نفسها؛ لأنه يمكنها من اختيار الموظفين ومن التشدد في هذا الاختيار، وذلك أنفع للشباب أنفسهم؛ لأنه يدفعهم إلى النشاط والجد، ويشعرهم بأن الحياة ليست من السهولة واليسر بحيث يظنون، وإنما هي جهاد متصل وصراع مستمر، ثم هو بعد هذا كله مصلح للأخلاق مقوم للنفوس، ونريد أخلاق المسيطرين على الأمر ونفوسهم، كما نريد أخلاق الشباب ونفوسهم أيضًا؛ لأنه يمحو المحاباة محوًا فيعصم الوزارات والمصالح من التورط فيها، ويعصمها من أن تُتَّهم بها، ويعصم الشباب أنفسهم من أن يعتمدوا على غيرهم، ويتخذوا جاه السادة والقادة والأغنياء وسيلة إلى المنصب، ثم هو يعصم الشباب مما يستتبعه هذا من ضعف الخلق، والشعور بالذلة، والتورط في الإلحاح، وبذل ماء الوجه لهذا الغني أو ذاك القوي، وهو آخر الأمر يحقق في نفوس الناس جميعًا صورة كريمة نقية للدولة ومناصبها والوسائل التي تُبتغى إليها، وهو فوق هذا كله يريح الجامعة من عناءٍ ثقيل؛ لأنه يرد الامتحانات فيها إلى الطور الذي لا ينبغي أن تعدوه؛ وهو أنها مقياس لانتفاع الطالب بما درس من العلم واستحقاقه للدرجة الجامعية.
والفرق عظيم جدًّا بين الامتحان الجامعي إذا كان سبيلًا إلى المنصب وكسب القوت، الذي لا يكاد الشاب يفرغ منه حتى يطالب الدولة بالعمل في دواوينها، ملحًّا في ذلك متوسلًا إليه بالوسائل المعروفة المخزية، والامتحان الذي هو سبيل إلى الدرجة الجامعية ليس غير، والذي لا يكاد الطالب يفرغ منه وينجح فيه، حتى يتهيأ لمسابقةٍ أشد منه خطرًا، وأبعد منه أثرًا في حياته؛ لأنها هي التي ستقربه من المنصب وتوصله إليه.
إذا أخذت الدولة بهذا الرأي، وإذا أُصلِح التعليم العام على النحو الذي قدمناه أو على نحوٍ قريب منه، أمكن أن تفكر الجامعة في إصلاح نظم الامتحان فيها، وما أشد حاجة هذه النظم إلى التيسير والتخفيف؛ لأنها معقدة حقًّا، ولأنها ترهق الأساتذة والطلاب من أمرهم عسرًا، ولأنها تفسد التعليم الجامعي نفسه وتجعله وسيلة إلى الفوز في الامتحان، وتشغل الطالب عن لذة الدرس ومتعة البحث، ولكن ماذا تصنع الجامعة وهي مؤمنة بفساد التعليم العام من جهة، وبوجوب النصح للدولة والاحتياط في منح الدرجات الجامعية من جهةٍ أخرى.
أضف إلى هذا كله أن الأخذ بهذا الرأي سيفتح للجامعة أبوابًا من النشاط جديدة، وسيهيئ للثقافة نفسها ألوانًا من الرقي والامتياز؛ فالجامعة هي التي ستعد الشباب لهذه المسابقات بإنشاء المعاهد المختلفة التي تلائم بين العلم والعمل، وبين البحث النظري والتمرين الفني، وقد أشرت إلى بعض هذه المعاهد آنفًا حين ذكرت مدرسة التحرير والترجمة التي تطمع كلية الآداب في إنشائها، وبعض هذه المعاهد موجود بالفعل كمعهد الآثار في كلية الآداب، ومعاهد الدراسات الجنائية والمالية والإدارية في كلية الحقوق. وواضح جدًّا أن الكليات جميعًا ستجد الوسائل إلى إنشاء هذه المعاهد المختلفة التي يفرغ بعضها للتمرين العملي، ويفرغ بعضها الآخر للبحث العلمي الخالص، ولكن كيف السبيل إلى ذلك والمناصب تُشغل بغير حساب، والدولة تكتفي مرة بترتيب الناجحين فتأخذ لمناصبها الأول فالأول، وتهمل مرة أخرى هذا الترتيب فتؤثر المتأخر على المتقدم. ولست أنسى أني اتفقت مرة مع مصلحة الآثار الإسلامية على أن تتخير لما يخلو من المناصب فيها بين الذين يخرجون من معهد الآثار في الجامعة، وأن يكون تخيرها بطريق المسابقة، ولكن وزارة المعارف رفضت الأخذ بها الاتفاق، وزعمت أن امتحان المعهد يغني عن المسابقة، فكانت ملكية أكثر من الملك كما يقال.
فالعلة الصحيحة لكل مشكلةٍ من مشكلات التعليم العالي راجعة دائمًا إلى الحكومة، والحل الصحيح لكل هذه المشكلات يدور دائمًا مع ظفر الجامعة بما تحتاج إليه من الاستقلال والمال، قلنا ذلك وكررناه ولن نسأم من قوله وتكراره، حتى تظفر الجامعة بما تستمتع به الجامعات الأخرى من هذه الحياة الكريمة المستقلة التي قد يشوبها العسر أحيانًا، ولكنها بريئة دائمًا من الذلة، ومعصومة دائمًا من أن يتعرض لها السلطان بما ينافي حقها المقدس في الاستقلال.