التعليم الديني في الأزهر
وفي مصر لون من ألوان التعليم العالي لا بد من أن نقف عنده وقفةً قصيرة لتكون دورتنا حول الثقافة في مصر محيطة بها من جميع أقطارها، وهو التعليم الديني في الأزهر الشريف، وقد عرضنا للأزهر أثناء هذا الحديث غير مرة وأطلنا الوقوف عنده أحيانًا ولكننا نحب أن نسجل هنا أننا مؤمنون بأن مهمة الأزهر في تكوين الثقافة أعظم خطرًا وأبعد أثرًا في حياة مصر خاصة وفي حياة العالم الإسلامي عامة مما يظن الأزهريون أنفسهم لأسبابٍ مختلفة، منها أن الأزهر أكثر معاهد التعليم في مصر وفي الشرق الإسلامي حظًّا من الطلاب، فيجب أن تظفر فيه هذه الكثرة الضخمة من الشباب المصريين والمسلمين بثقافةٍ ليست أقل من الثقافة التي يظفر بها الشباب في الجامعة وفي مدارس التعليم العام لا من جهة الكم ولا من جهة الكيف كما يقال، ومنها أن الأزهر معهد الدراسات الدينية الإسلامية وهو من هذه الجهة شديد الاتصال ويجب أن يكون شديد الاتصال بطبقات الشعب على اختلافها وتباينها، فهو إذَنْ من أهم المصادر للثقافة في مصر والشرق، ويجب أن تكون الثقافة التي تصدر عنه وتتغلغل في طبقات الشعب كلها ثقافة راقية ممتازة ملائمة لحياة الشعب وحاجاته لا مناقضة لهذه الحاجات وتلك الحياة، ومنها أن الأزهر مظهر من مظاهر المجد المصري القديم حمل لواء المعرفة في مصر وفي الشرق الإسلامي قرونًا متصلة فيجب أن يكون حاضره ومستقبله ملائمَين لماضيه المجيد، ويجب أن يكون عنوانًا للمجد المصري الحديث كما كان عنوانًا للمجد المصري القديم، وسبيل ذلك أن تكون الثقافة التي تصدر عنه والمعرفة التي تُطلب منه ملائمتين أشد الملاءمة لحاجات الناس وآمالهم في هذا العصر الحديث.
ومنها أن الأزهر مصدر الحياة الروحية للمسلمين وهو من هذه الجهة مطالب بما لا تطالب به المعاهد الأخرى، مطالب بأن يشيع في نفوس الناس الأمن والرضا والأمل والرجاء ويعصمهم من الخوف والسخط ومن اليأس والقنوط وهو لن يبلغ منهم ذلك إلا إذا لاءم بين الثقافة التي تصدر عنه فتنتشر في أقطار الأرض الإسلامية وبين نفوس المسلمين وقلوبهم كما يكونها العصر الحديث وكما يصوغها التعليم المدني الحديث.
وليس من الخير أن يكون الأزهر حربًا على الحياة الحديثة فإن هذه الحرب لا تجدي ولا تفيد وإنما الخير والواجب أن يكون الأزهر ملطفًا للحياة الحديثة مخففًا لأثقالها ملائمًا بينها وبين ما يأمر الله به من الخير والمعروف مباعدًا بينها وبين ما ينهى الله عنه من الشر والمنكر، وذلك لا يكون إلا إذا عرف رجال الدين حياة الناس كما يحيونها وأتقنوا العلم بأسرارها ومشكلاتها وما تجر على الناس من شرٍّ وما تدفعه إليه من إثم، وسبيل ذلك أن يتثقف الأزهر بالثقافة الحديثة كما يتثقف بها غيره من المعاهد، وأن يمتاز بعد هذا بما لا تمتاز به المعاهد الأخرى من هذه الثقافة الدينية الخالصة بحيث إذا اتصل رجاله بطبقات الناس لم يناقضوهم ولم يباينوهم ولم يجدوا مشقة في الوصول إلى قلوبهم والانتهاء إلى نفوسهم والتأثير في هذه النفوس وتلك القلوب.
والشر كل الشر أن يتحدث رجل الدين إلى الناس فلا يفهمون عنه لأنه قديم وهم محدثون وأن يتحدث الناس إلى رجل الدين فلا يفهم عنهم لأنهم محدثون وهو قديم، ولا ينبغي أن يغتر الأزهر لأن الناس يسمعون له الآن ويفهمون عنه بعض الشيء، فكثرة المصريين لا تزال متأثرة بعقلية القرون الوسطى، ولكن طبيعة الحياة ستخرجها غدًا وبعد غد عن هذا الطور وستصوغ الأجيال الناشئة والأجيال المقبلة صيغة حديثة أوروبية، فلا بد من أن يجاري الأزهر هذا التطور ليكون اتصاله بالأجيال الناشئة والأجيال المقبلة أجدى وأقوى من اتصاله بالأجيال الماضية والأجيال الحاضرة، ومنها أخيرًا أن الأزهر مشرق النور الديني للبلاد الإسلامية كلها، وأخص ما يمتاز به الإسلام أنه دين الحرية والعلم والمعرفة، وأنه دين الحرية والعلم والمعرفة كما تفهمها الأجيال على اختلافها لا كما فهمها جيل بعينه وكما تحققها العصور على اختلافها لا كما حققها عصر بعينه.
فالإسلام دين التطور والطموح إلى المُثل العليا في الحياة الروحية والمادية جميعًا، ويجب أن يكون رجاله الناشرون له الذائدون عنه الداعون إليه ملائمين كل الملاءمة لطبيعته هذه السمحة التي تشجع التطور ولا تمانعه وتؤيد الطموح ولا تأباه، وسبيل ذلك ألا تكون محافظة الأزهر على القديم مانعة له من الأخذ بأسباب الحديث.
كل هذه الأسباب يحقق ما قدمناه من أن مهمة الأزهر أخطر جدًّا مما يظن الأزهريون، وإذَنْ فلا بد من أن تكون سيرة الأزهر ونظم التعليم فيه ملائمة لهذه المهمة الخطيرة، وهذا يقتضي أولًا أن يعدل الأزهر عدولًا تامًّا عما دأب عليه من الانحياز إلى نفسه والعكوف عليها والانقطاع عن الحياة العامة، وقد يقال إن الأزهر قد أخذ يترك هذه السيرة ويتصل بالحياة العامة ويأخذ بحظوظٍ حسنة من الثقافات الحديثة على اختلافها، وهذا صحيح في ظاهره ولكنه في حقيقة الأمر غير صحيح؛ فالأزهر ما زال منحازًا إلى نفسه مستمسكًا بهذا الانحياز حريصًا عليه، وهو من أجل هذا الانحياز نفسه يريد أن يتصل بالحياة العامة على النحو الذي نراه الآن، يريد أن تكون له نظمه الخاصة وإجازاته الخاصة وطرقه الخاصة في الحياة والتعليم، ويريد مع ذلك أن يفرض نفسه على الحياة العامة فرضًا وأن يفرض نفسه باسم الدين وما هكذا يكون الاتصال الصحيح بالحياة العامة والاشتراك فيها. إن الأزهر حين يسلك طريقه التي يسلكها في هذه الأيام لا يشارك في الحياة العلمية والعملية وإنما ينافس فيها ويريد الاستئثار بها أو ببعض فروعها دون غيره من المعاهد؛ تنشئ الدولة معاهد التعليم فينشئ الأزهر معاهد على نحو ما تنشئ الدولة، وتنشئ الدرجات الجامعية فينشئ الأزهر الدرجات الجامعية ثم يقول للدولة: هذه معاهدي تشبه معاهدك، وهذه درجاتي وإجازاتي تشبه درجاتك وإجازاتك فينبغي إذَنْ أن يكون الشباب الذين يخرجون من معاهدي ويظفرون بإجازاتي ودرجاتي كالشباب الذين تخرجينهم وتمنحينهم الإجازات والدرجات، ويجب أن يشغلوا من المناصب ما يشغله هؤلاء وأن ينهضوا من أعباء الحياة العامة بما ينهض به هؤلاء، فإن لم تفعلي فأنت ظالمة لرجال الدين وظالمة للدين نفسه فيهم.
وينتج عن هذا نظام ثنائي غريب في التعليم أولًا وفي إجازته ودرجاته ثانيًا، وفي شغل مناصب الدولة إن تم للأزهر ما يريده ثالثًا، وهذا شيء لا يُرى في غير مصر ولا يلائم عقلًا ولا نظامًا، إنما طبيعة الإصلاح أن يمتاز الأزهر أولًا بتعليمه الديني وأن يمتاز بهذا التعليم الديني من الناحيتين العملية والعلمية فيهيئ شبابه للنهوض بالأعباء الدينية التي تحتاج إليها الحياة العامة من جهةٍ وللتفرغ للبحث العلمي الخالص في شئون الدين من جهةٍ أخرى، هذا النحو من الامتياز الديني والاستئثار بالمناصب الدينية في الحياة العامة لا غبار عليه ولا جدال فيه. ومن طبيعته أن يمتاز الأزهر بإجازاته ودرجاته الدينية التي تؤهل، لا نقول لشغل المناصب الدينية العامة، بل للاستباق إلى هذه المناصب كما قدمنا في شأن الجامعة، فأما إذا أراد الأزهر أن يشارك شبابه في غير هذه المناصب الدينية من الحياة العامة فحقه في ذلك واضح لا جدال فيه وثابت لا يمكن إنكاره؛ لأن شبابه مصريون عليهم من الواجبات ولهم من الحقوق مثل ما على غيرهم وما لهم من الحقوق والواجبات، ولكن ينبغي أن يسلكوا إلى هذه الأعباء طرقها الطبيعية وأن يدخلوها من أبوابها المألوفة؛ أي ينبغي أن يتعلموا في معاهد الدولة المدنية ويظفروا بإجازاتها ودرجاتها المدنية ويسابقوا غيرهم من إخوانهم المدنيين إلى المناصب العامة، ذلك أحرى أن يلغي هذا النظام الثنائي الغريب وأن يحقق الوحدة العقلية في مصر وأن يحتفظ لسلطان الدولة بما ينبغي له من السيطرة على الشئون العامة جميعًا وعلى مناصب الدولة بنوعٍ خاص، وهو أحرى أن يصل الأزهر والأزهريين بالحياة المصرية اليومية ويمزج الأزهر والأزهريين بهذه الحياة مزجًا.
ولنضرب لذلك أمثالًا توضحه؛ فالأزهر يريد أن يخرج المعلمين في مدارس الدولة وهذا حق له لا ينبغي أن ينكره عليه أحد، ولكن بشرط أن يتعلم طلابه كما يتعلم غيرهم في معاهد الدولة وأن يظفروا بما يظفر به غيرهم من الإجازات والدرجات، فإذا أرادوا أن يعلموا اللغة العربية مثلًا فطريقهم إلى ذلك الآن دار العلوم وكلية الآداب ومعهد التربية، لا كلية اللغة العربية الأزهرية، وإن أرادوا أن يعلموا التاريخ أو الجغرافيا أو الطبيعة أو الكيمياء فطريقهم إلى ذلك كلية الآداب وكلية العلوم ومعهد التربية، وإن أرادوا أن ينهضوا بأعباء القضاء أو الطب أو الهندسة فطريقهم إلى ذلك كلية الحقوق والطب والهندسة، فأما أن تنشأ في الأزهر كليات وأن تمنح هذه الكليات درجات لا علم للدولة بها ولا سلطان للدولة عليها ثم يُفرَض المتخرجون في هذه الكليات على الحياة العامة فرضًا فهذا هو الذي لا يفهم ولا يمكن أن يساغ في بلدٍ متحضر.
وقد يقال إن هذا النحو من النظام لا ينتج إلا الفصل بين الأزهر وبين الحياة العامة؛ لأن الأزهريين لا يستطيعون أن يتخرجوا في الأزهر وفي الكليات وفي المعاهد الأخرى، وهذا هو الذي نعارض فيه أشد المعارضة وننكره أشد الإنكار، فرجال الدين في البلاد الأوروبية يتخرجون في معهدهم الديني بعد درسٍ عميق وامتحان دقيق وحياة أشد ألف مرة ومرة من حياة الأزهريين، ولا يمنعهم هذا من أن يتخرجوا في الجامعات والمعاهد الدينية ويظفروا بإجازاتها ودرجاتها ويسابقوا زملاءهم المدنيين إلى المناصب ويظفروا بهذه المناصب أيضًا.
وقد كتبت غير مرة في نشاط رجال الدين الأوروبيين ونوهت ببراعتهم وتفوقهم في العلوم المدنية بل في الفنون التطبيقية على اختلافها، ولا تكاد ترى علمًا من العلوم أو فنًّا من الفنون إلا وقد نبغت فيه طائفة ممتازة من القسيسين والرهبان، فما بال الأمور تسهل بالقياس إلى رجال الدين في أوروبا وتعسر بالقياس إلى رجال الدين في مصر؟ وفي مصر نفسها أفراد تخرجوا في الأزهر وتخرجوا في بعض المعاهد والكليات لم تمنعهم أزهريتهم من التخرج في الجامعة، ولم تمنعهم جامعيتهم من التخرج في الأزهر، وأنا مؤمن بأن من أيسر الأشياء أن يلائم الأزهر بين حياته الخاصة وبين حاجات الحياة العامة، فيمكن طلابه من الاتصال بكليات الجامعة على اختلافها، كما يمكن طلاب الجامعة أنفسهم من الاتصال بالأزهر لا ليزاحموا أهله على المناصب الدينية بل ليتزودوا بحظوظٍ من علوم الدين، وقد قدمت أن إشراف الدولة واجب على التعليم الأولي والثانوي في الأزهر للأسباب التي بسطتها، وأضيف الآن أن هذا الإشراف نفسه قد يقارب — بل سيقارب — بين التعليم العام الأزهري والتعليم العام المدني وسيجعل الشهادة الثانوية للأزهر معادلة للشهادة الثانوية المدنية، ويومئذ تُفتح أبواب الجامعة والمعاهد العالية للأزهريين، كما تُفتح أبواب الأزهر للجامعيين، ويومئذ تمتزج الثقافة الدينية بالثقافة المدنية امتزاجًا حسنًا مفيدًا، ويومئذ تُفتح أبواب الأزهر ونوافذه للهواء الطلق والنور المشرق ويلتقي العلم والدين لقاءً حسنًا لا ينتج لمصر والمسلمين إلا خيرًا.
وإذا صدق ما انتهى إليَّ من الأخبار فقد فكر وزير المعارف هيكل باشا في شيءٍ كهذا وكتب إلى الأزهر يطلب إليه البحث في توحيد التعليم الديني والمدني في المرحلة الأولية والثانوية، فلم يرد الأزهر أن يسمع له ولا أن يستجيب لدعائه، وقد كان مع ذلك دعاء إلى الحق والخير ومصلحة مصر في الدين والدنيا جميعًا.
وإذا هدى الله الأزهر إلى هذا الصراط المستقيم وتمت المقاربة بين التعليم العام المدني والديني كانت أمور التعليم العالي في الأزهر هينة يسيرة كأمور التعليم العالي في الجامعة، فللأزهر استقلاله العلمي والمالي والإداري، وربما كان حظه من هذا الاستقلال أعظم من حظ الجامعة كثيرًا، وقد يجد الأزهر من المشقة أكثر مما تجد الجامعة فيما تواجه من المشكلات؛ لأنه ما يزال في حاجةٍ إلى الفنيين في شئون التعليم العالي، ولكن الفنيين المدنيين الذين يعينونه الآن على سلوك الطريق التي يسلكها في هذه الأيام سيجدون لذة ومتعة في إعانته على سلوك الطريق المُثلى وستكون معونتهم منتجة مجدية على حين أنها الآن لا تنتج شيئًا ولا تجدي نفعًا.