تشابه الإسلام والمسيحية في علاقتهما بالفلسفة
وجاء الإسلام وانتشر في أقطار الأرض، وتلقته مصر لقاءً حسنًا، وأسرعت إليه إسراعًا شديدًا، فاتخذته لها دينًا، واتخذت لغته العربية لها لغة، فهل أخرجها ذلك عن عقليتها الأولى؟ وهل جعلها ذلك أمة شرقية بالمعنى الذي يُفهَم من هذه الكلمة الآن؟!
كلا! لأن المسيحية التي ظهرت في الشرق قد غمرت أوروبا، واستأثرت بها دون غيرها من الديانات، فلم تصبح أوروبا شرقية ولم تتغير طبيعة العقل الأوروبي. وإذا كان فلاسفة أوروبا وقادة الرأي الحديث فيها يعدون المسيحية عنصرًا من عناصر العقل الأوروبي فلست أدري ما الذي يفرق بين المسيحية والإسلام وكلاهما قد ظهر في الشرق الجغرافي، وكلاهما قد نبع من منبعٍ كريمٍ واحد، وهبط به الوحي من لدن إله واحد يؤمن به الشرقيون والغربيون على السواء!
وكيف يستقيم للعقل السليم والرأي المنصف أن يقرأ الأوروبيون الإنجيل فلا يرون به بأسًا على العقل الأوروبي، ولا يرون أنه ينقل هذا العقل من الغرب إلى الشرق، فإذا قرءوا القرآن رأوه شرقيًّا خالصًا مع أن القرآن كما يقول في غير عوجٍ ولا التواء إنما جاء متممًا ومصدقًا لما في الإنجيل!
إذا صح أن المسيحية لم تمسخ العقل الأوروبي، ولم تخرجه عن يونانيته الموروثة، ولم تجرِّده من خصائصه التي جاءته من إقليم البحر الأبيض المتوسط، فيجب أن يصح أن الإسلام لم يغير العقل المصري، أو لم يغير عقل الشعوب التي اعتنقته والتي كانت متأثرة بهذا البحر الأبيض المتوسط، بل يجب أن نذهب إلى أبعد من هذا فنقول مطمئنين إن انتشار الإسلام في الشرق البعيد وفي الشرق الأقصى قد مد سلطان العقل اليوناني وبسطه على بلادٍ لم يكن قد زارها إلا لمامًا، ولم يستطع أن يستقر فيها استقرارًا متصلًا إلا بعد أن استقر فيها الإسلام.
وما كان الأوروبيون ليجادلوا في ذلك أو ينكروه لو أن المسيحية انتشرت في الشرق البعيد والشرق الأقصى منذ العصور الأولى كما انتشر فيهما الإسلام.
وأغرب من هذا أن بين الإسلام والمسيحية تشابهًا في التاريخ عظيمًا، فقد اتصلت المسيحية بالفلسفة اليونانية قبل ظهور الإسلام فأثرت فيها وتأثرت بها، وتنصرت الفلسفة، وتفلسفت النصرانية، ثم اتصل الإسلام بهذه الفلسفة اليونانية فأثر فيها وتأثر بها، وأسلمت الفلسفة اليونانية وتفلسف الإسلام.
وتاريخ الديانتين واحد بالقياس إلى هذه الظاهرة، فما بال اتصال المسيحية بالفلسفة يجعلها مقومًا من مقومات العقل الأوروبي، وما بال اتصال الإسلام بهذه الفلسفة نفسها لا يجعله مقومًا من مقومات هذا العقل؟
جوهر الإسلام ومصدره هما جوهر المسيحية ومصدرها، واتصال الإسلام بالفلسفة اليونانية هو اتصال المسيحية بالفلسفة اليونانية، فمن أين يأتي التفريق بين ما لهاتين الديانتين من الأثر في تكوين العقل الذي ورثته الإنسانية عن شعوب الشرق القريب وعن اليونان؟
بل نحن نذهب إلى أبعد من هذا، فقد أغارت على أوروبا اليونانية الرومانية أممٌ جاهلة لا حظ لها من حضارة، ولا من ثقافة، ولا من دينٍ صحيح، فأفسدت عليها أمرها إفسادًا شديدًا، وعرَّضت حضارتها لخطرٍ عظيم، وكادت تطفئ سراج ذلك العقل اليوناني الذي كان يضيء فيها قبل انهيار الإمبراطورية الرومانية، وهي على كل حال قد هزمت هذا العقل هزيمة منكرة، واضطرته إلى بعض الأديرة. وفي أثناء ذلك كان الإسلام يترجم الفلسفة اليونانية ويذيعها وينميها ويضيف إليها، ثم ينقلها إلى أوروبا فتترجم إلى لغتها اللاتينية، وتشيع الحياة في العقل الأوروبي، وتبعث فيه القوة والنشاط، وتمكِّنه من أن يعود إلى الإشراق والتألق، في القرن الثاني عشر بعد المسيح، فما بال اتصال أوروبا بالثقافة اليونانية إبان النهضة يعد من مقومات هذا العقل، وما بال اتصال العقل الأوروبي بهذه الثقافة اليونانية نفسها من طريق المسلمين لا يعد من مقومات هذا العقل؟ وما بال اتصال الإسلام نفسه بالفلسفة اليونانية في عصوره الأولى لا يعد من مقومات هذا العقل، ولا يلغي ما يمكن أن يكون من الفروق بين الأمم التي تعيش في شرق بحر الروم والأمم التي تعيش في غرب هذا البحر نفسه؟
ولقد سمعت منذ أعوام محاضرة ألقاها المؤرخ البلجيكي العظيم بيرين في الجمعية الجغرافية وفي ظل كلية الآداب، فإذا هو يعلن في هذه المحاضرة أشياء لم يلتفت إليها الناس يومئذ، ولكنها تركت في نفسي أثرًا عميقًا.
كان يعلن أن إغارة الأمم المتبربرة على أوروبا لم تكن لتردها إلى الجهل الذي رُدَّت إليه في القرون الوسطى لو أن العلاقات البحرية ظلت متصلة بين الشرق والغرب، ولكن ظهور الإسلام، وقيام الخصومة بينه وبين المسيحية، قد قطع هذه العلاقات حينًا من الدهر، فاضطرت أوروبا إلى الفقر والبؤس، وانتهى ذلك بها إلى الضعف الاقتصادي، ثم إلى الجهل العميق، فلما استؤنفت الصلات بين الشرق والغرب نشطت أوروبا من عقالها، وخرجت من الفقر إلى الغنى، ومن الجهل إلى المعرفة، ومن الظلمة إلى النور.
ومعنى ذلك عندي وعند بيرين فيما أظن أن قوام الحياة العقلية في أوروبا إنما هو اتصالها بالشرق عن طريق البحر الأبيض المتوسط، فما بال هذا البحر ينشئ في الغرب عقلًا ممتازًا متفوقًا، ويترك الشرق بلا عقل، أو ينشئ فيه عقلًا منحطًّا ضعيفًا؟ وما بال العقل الذي ينشئه البحر نفسه على ساحله الشرقي، وما بال الفلسفة اليونانية التي نشأت ونمت على الساحل الشرقي لبحر الروم في العصور القديمة وفي القرون الوسطى، لا تؤثر في عقول أصحابها شيئًا، فإذا أرسلوها إلى غرب هذا البحر خلقت أهل هذا الغرب خلقًا جديدًا؟
كلا، ليس بين الشعوب التي نشأت حول بحر الروم وتأثرت به فرق عقلي أو ثقافي ما، وإنما هي ظروف السياسة والاقتصاد تُدِيل من أهل هذا الساحل لأهل ذلك الساحل، وإنما هي ظروف السياسة والاقتصاد تدور بين هذه الشعوب مواتية هذا الفريق، ومعادية ذلك الفريق.
فلا ينبغي أن يفهم المصري أن بينه وبين الأوروبي فرقًا عقليًّا قويًّا أو ضعيفًا، ولا ينبغي أن يفهم المصري أن الشرق الذي ذكره كيبلنج في بيته المشهور «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا» يصدق عليه أو على وطنه العزيز، ولا ينبغي أن يفهم المصري أن الكلمة التي قالها إسماعيل وجعل بها مصر جزءًا من أوروبا، قد كانت فنًّا من فنون التمدح، أو لونًا من ألوان المفاخرة، وإنما كانت مصر دائمًا جزءًا من أوروبا، في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية، على اختلاف فروعها وألوانها.