التعليم الديني للأقباط
وإعداد رجال الدين المسيحي لإخواننا الأقباط محتاج إلى عناية خاصة من الدولة، ومن الأقباط أنفسهم، لأسبابٍ طبيعية يسيرة أيضًا؛ فإن الأقباط مصريون يؤدون الواجبات الوطنية كاملة كما يؤديها المسلمون، ويستمتعون بالحقوق الوطنية كاملة كما يستمتع بها المسلمون، ولهم على الدولة التي يؤدون إليها الضرائب وعلى الوطن الذي يذودون عنه ويشاركون في العناية بمرافقه ما للمسلمين من الحق في العناية بتعليمهم وتقويمهم وتثقيفهم على أحسن وجه وأكمله.
وما نظن أن أحدًا يستطيع أن ينكر ذلك أو يجادل فيه بل ما نظن أن أحدًا أنكر ذلك أو جادل فيه، وقد قرر الدستور المصري الذي نؤمن به جميعًا أن المصريين سواء في الحقوق والواجبات، لم يفرق في هذه المساواة بين المسلمين وغير المسلمين، وإذا كنا قد لاحظنا فيما مضى من هذا الحديث أن الظروف المصرية لا تسمح في هذه الأيام ولا يُنتَظر أن تسمح في المستقبل القريب بإعفاء الدولة من العناية بالتعليم الديني في بعض مراحل التعليم؛ فإننا لم نلاحظ ذلك بالقياس إلى المسلمين وحدهم وإنما لاحظناه بالقياس إليهم وإلى غيرهم من أبناء مصر، وما دام القيام بالواجبات الوطنية هو مدار الاستمتاع بالحقوق الوطنية وجودًا وعدمًا كما يقول الفقهاء، وما دام الأقباط يستوون مع غيرهم في أداء الواجبات الوطنية بغير استثناء، فلا بد من أن يساووهم في الاستمتاع بالحقوق الوطنية بغير استثناء أيضًا، والتعليم من هذه الحقوق، فلا بد إذَنْ من أن يشترك المصريون جميعًا فيما يمكن أن يشتركوا فيه من مقومات الوحدة الوطنية، ولا بد إذَنْ من أن تنفرد طوائفهم الدينية بما لا بد من أن تنفرد به من التعليم الديني الخالص.
ولست أرى بأسًا بهذا النوع من الانفراد والافتراق، فهو لا يمس الوحدة الوطنية ولا يعرضها لخطرٍ ما، ولعله يعين على تقويتها وتذكية جذوتها.
ولعل الاختلاف بين المسلمين والأقباط في الدين أن يكون أشبه بهذا الاختلاف الذي يكون بين الأنغام الموسيقية فهو لا يفسد وحدة اللحن، وإنما يقويها ويذكيها، ويمنحها بهجة وجمالًا، وما أريد أن أدخل في تفصيل التعليم الديني للأقباط في بعض مراحل التعليم كيف يكون وعلى أي نحوٍ يُنظَّم، فهذا شيء تستطيع الدولة أن تنتهي به إلى غايته مستشيرة في ذلك القادرين على أن يشيروا عليها فيه من المثقفين المدنيين والدينيين بين الأقباط أنفسهم.
وإنما أريد أن أصل إلى تقرير ما بدأت به هذا الفصل من وجوب العناية بالإعداد الصالح لرجال الدين المسيحيين، فهم سيتصلون بالصبية والشباب من الأقباط يعلمونهم دينهم ويفقهونهم فيه، فلا بد من أن تتحقق الملاءمة بينهم وبين المعلمين المدنيين لتحقيق الملاءمة بين الثقافة الدينية التي يحملونها إلى هؤلاء الصبية والثقافة المدنية التي يحملها إليهم المعلمون المدنيون، وحتى يعصم الصبية من التناقض الشنيع الذي يكون بين ما يلقيه إليهم المعلم وما يلقيه إليهم القسيس إن وُكِّل هذا التعليم إلى القسيسين، والقسيسون بعد هذا سيتصلون بطبقات الطائفة القبطية على اختلاف مراكزها الاجتماعية وعلى اختلاف حظوظها من الثقافة، واتصال القسيسين بالمؤمنين من الأقباط أشد من اتصال رجال الدين بطبقات المسلمين كما هو معروف.
فلا بد إذَنْ من أن يُثقَّف هؤلاء القسيسون تثقيفًا ملائمًا للحياة الحديثة وللعصر الحديث، حتى لا يحملوا إلى الناس باسم الدين ثقافة تضطرهم إلى الحيرة والاضطراب والعجز عن احتمال أعباء الحياة المدنية.
والكنيسة القبطية مجد مصري قديم، ومقوم من مقومات الوطن المصري، فلا بد من أن يكون مجدها الحديث ملائمًا لمجدها القديم، ولا ينبغي أن نخلي بين رجالها وبين هذه المحافظة الخاطئة التي قد تغض من هذا المجد وتضع من قدره، وما ينبغي أن نقارن بين رجال الكنيسة القبطية ورجال الكنائس الأخرى فنرى هذه الفروق التي أقل ما توصف به أنها لا تلائم الكرامة المصرية ولا ينبغي أن يرضى عنها المصريون.
وكما أن الأزهر مصدر الثقافة للعالم الإسلامي فينبغي أن تصدر عنه لهذا العالم ثقافة تلائم حاجاته الحديثة، فالكنيسة القبطية مصدر الثقافة الدينية لأوطانٍ أخرى غير مصر فيجب أن تصدر لهذه الأوطان ثقافة دينية تلائم حاجاتها الحديثة أيضًا.
ونتيجة هذا كله أن الدولة المصرية والكنيسة القبطية يجب أن تتعاونا على إصلاح التعليم الديني المسيحي وتنظيم المعاهد التي تخرج القسيسين والرهبان، والملاءمة بين هذه المعاهد الدينية الخالصة ومعاهد التعليم المدني بحيث تفتح لطلاب المعاهد الدينية المسيحية أبواب الحياة المدنية إن أرادوا أن ينهضوا بأعبائها كما طلبنا ذلك بالقياس إلى الأزهر والأزهريين.
ولا بد من أن أصارح المثقفين من الأقباط بأنهم مقصرون أشد التقصير في ذات تعليمهم الديني وبأن كل شيء يمكن أن يُفهَم إلا هذا الفرق الشنيع بينهم وبين قسيسيهم ورهبانهم في الثقافة، ولقد دعتني الظروف الحسنة والسيئة كما تدعو غيري من المصريين إلى مشاركة بعض الأصدقاء من الأقباط فيما يلم بهم من الخير والشر وشهود بعض حفلاتهم الدينية في الكنائس وفي الفنادق وفي الدور، فلست أدري كيف أصف هذا الألم الذي يثيره في نفسي الاستماع لصلواتهم يتلونها في لغة عربية محطمة أقل ما توصف به أنها لا تلائم كرامة الدين مهما يكن، ولا تلائم ما ينبغي للمصريين جميعًا من الثقافة اللغوية، ولقد عجزت أحيانًا عن مقاومة هذا الضيق فصارحت به بعض كبار الأقباط وألححت عليهم في وجوب العناية بالترجمة الصحيحة النقية لكتبهم المقدسة إلى اللغة العربية وفي تعويد القسيسين النطق الصحيح النقي بهذه اللغة.
فليست اللغة العربية لغة المسلمين وحدهم ولكنها لغة الذين يتكلمونها مهما تختلف أديانهم، وما دام الأقباط مصريين وما دامت اللغة العربية مقومًا من مقومات الوحدة المصرية والوطن المصري فلا بد من أن يتثقف بها رجال الدين من الأقباط كما يتثقف بها رجال الدين من المسلمين، وأنا أعلم أن اللغة العربية ليست هي اللغة الأولى للتوراة والإنجيل ولكني أعلم أن الإنجليزية والفرنسية والألمانية ليست هي اللغات الأولى للتوراة والإنجيل ومع ذلك فالتوراة والإنجيل قد تُرجما إلى هذه اللغات تراجم لا أقول إنها صحيحة فحسب، بل أقول إنها رائعة أيضًا، بل أنا أعلم أن النص الأول للتوراة والإنجيل لم يكن لاتينيًّا ولا يونانيًّا، ومع ذلك فترجمته إلى هاتين اللغتين لا غبار عليها، وجملة القول أن هناك أمرين لا بد من أن يستقرا في نفوس المصريين جميعًا؛ أحدهما: أن الأقباط مصريون فيجب أن يثقفوا في أمر دينهم ودنياهم كما يتثقف المصريون، والثاني: أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية لمصر فيجب أن يكون حظ الأقباط من إجادتها وإتقان العلم بها والقدرة على استعمالها كحظ غيرهم من المصريين.