ليست الثقافة محصورة في المدارس والمعاهد
وإذا نظمت مصر شئون التعليم المدني والديني على هذه الأنحاء التي بيَّنَّاها في كل ما قدمنا من الفصول فلا ينبغي أن ترضى ولا أن تطمئن ولا أن تخدع نفسها ولا أن تظن أنها أدت كل ما يجب عليها للثقافة؛ فإنها إن نهضت بكل ما طلبنا إليها أن تنهض به لم تتجاوز أن تؤدي ما عليها من الواجب لنوعٍ بعينه من أنواع الثقافة الرسمية المنظمة، وهناك واجبات أخرى يجب أن تؤديها مصر دولةً وشعبًا لأنواعٍ أخرى من الثقافة ليست محصورة في المدارس ولا مقصورة على معاهد التعليم.
وليس يكفي أن تتعاون الدولة والشعب على تعليم أبناء الشعب وتثقيفهم وتخريجهم في المعاهد والمدارس ومنحهم الدرجات والإجازات وتهيئتهم لاستقبال الحياة واحتمال أثقالها، بل لا بد من أن تتعاون الدولة والشعب على أشياء أخرى ليست أقل خطرًا ولا أهون شأنًا من أمور التعليم، لا بد من أن تتعاون الدولة والشعب على تمكين المثقفين من أن ينتجوا فيضيفوا إلى الثقافة ويجددوها ويشاركوا في تنمية الثروة الإنسانية من العلم والفلسفة ومن الأدب والفن، وفي تمكين الإنسانية من الانتفاع بما تنتجه المعرفة في الحياة العملية اليومية، ولا بد من أن يتعاون الشعب والدولة على نشر أعظم حظ ممكن من الثقافة في طبقات الشعب، على أن تكون هذه الثقافة التي تنشر في طبقات الشعب واسعة عميقة منوعة بحيث تتحقق الصلة العقلية والقلبية بين صفوة الشعب الممتازين وبين غيرهم من الطبقات التي تصرفها الحياة اليومية عن الفراغ للمعرفة، ولا بد من أن يتعاون الشعب والدولة على أن تتجاوز الثقافة الوطنية حدود الوطنية فتغذو أممًا أخرى قد تحتاج إلى هذا الغذاء المصري وتتصل بأممٍ أخرى راقية قد لا تكون محتاجة إلى ثقافتنا المصرية، ولكننا محتاجون إلى أن تعترف لنا هذه الأمم بأننا لسنا خاملين ولا خامدين ولا قاعدين ولا عيالًا عليها، ولا بد من أن يتعاون الشعب والدولة على تحقيق الصلة المنظمة الخصبة المنتجة بين مصر وبين الثقافات الأجنبية على اختلافها وتباين لغاتها ومناهجها، فإذا كان الاستقلال السياسي لا يقتضي العزلة المطلقة، ولا يتحقق إلا إذا قام على تبادل المنافع بين الدول، وإذا كان الاستقلال الاقتصادي لا سبيل إليه إلا إذا تحقق التعاون وتبادل المنافع بين الدول والشعوب في شئون المال والاقتصاد، فالاستقلال الثقافي لا معنى له إلا إذا كان أخذًا وإعطاء؛ أخذًا لما تنتجه الأمم الأخرى من أنواع المعرفة، وإعطاءً لما ننتجه نحن من أنواع المعرفة، ومن المحقق أننا قد نستطيع منذ الآن أن نشارك في ترقية الحضارة وتثبيت السلم بما ننتج في عالم السياسة والاقتصاد، فآراؤنا في السياسة قد تُسمع في بعض البلاد وقد يأخذ بها بعض الشعوب، ونحن عنصر ذو خطر في التوازن السياسي في البحر الأبيض المتوسط، وسنكون غدًا أو بعد غد أمناء على طريق المواصلات بين الشرق والغرب، ونحن نصدر ونستورد من الغلات ما يجعل مركزنا الاقتصادي في الحياة العالمية ذا خطر لا بأس به.
أقول إن من المحقق أننا نستطيع منذ الآن أن نشارك مشاركة قيمة في الحياة السياسية والاقتصادية وأن حظنا من هذه المشاركة سيقوى من يومٍ إلى يوم، ولكن مشاركتنا في الحياة الثقافية لا تكاد تُذكر؛ لأن حظنا من الثقافة لا يكاد يُذكر، وستظل مشاركتنا في الحياة الثقافية ضئيلة وقتًا يختلف قِصَرًا وطولًا باختلاف ما نبذل من جهدٍ وما نأخذ به أمور الثقافة من جد، بل أنا أخشى أشد الخشية أن يكون تقصيرنا في ذات الثقافة شديد الخطر على مكانتنا السياسية والاقتصادية؛ لأن الفوز في السياسة والاقتصاد لا يتأتى للأمم الجاهلة ولا للشعوب الغافلة ولا للدول التي لا تمنح الثقافة من عنايتها إلا حظًّا يسيرًا، لا بد إذَنْ من أن يتعاون الشعب والدولة على هذه الأشياء التي أشرنا إليها آنفًا، وهذا التعاون يستتبع بعض المسائل ويثير بعض المشكلات، فتعاون الشعب والدولة على تمكين المثقفين من الإنتاج كيف يكون وعلى أي نحوٍ يكون، أما في مصر فلا بد من الاعتراف أن هذا التعاون أمنية قد تُحقَّق يومًا ما ولكن تحقُّقها الآن ليس يسيرًا؛ لأن الشعب لا يقدر شئون الثقافة كما ينبغي ولأن الأغنياء لم يشعروا بعدُ بما يجب للوطن في أموالهم كما ينبغي أيضًا، فسيظل العبء واقعًا على الدولة ولا بد للدولة من أن تنهض به وإلا قصرت في ذات الوطن وفي ذات الثقافة تقصيرًا شنيعًا.
وأيسر نظرة فيما تبذل الدولة الراقية من الجهد والمال لتشجيع المثقفين على الإنتاج في العلم والفلسفة وفي الأدب والفن تكفي لإقناعنا بأن أمامنا طريقًا طويلة جدًّا لا بد من أن نسلكها قبل أن نبلغ ما بلغته الأمم الراقية، وأقل ما يجب أن تنهض به الدولة في مصر لمعونة البحث العلمي وتمكين المثقفين من الإنتاج هو أن تنظم الهيئات العلمية والأدبية والفنية تنظيمًا حسنًا وأن تمنحها معونة مالية صالحة، وأن ترسم لها خطة العمل وأن تتحقق من حينٍ إلى حينٍ أنها ناهضة بما كُلِّفت أداءه من الواجبات.
وفي مصر هيئات علمية مختلفة ولكنها مشتتة لا تستطيع التعاون وهي في الوقت نفسه فقيرة لا تجد ما تنفقه، فقد أنشئ مجمع فؤاد الأول للغة العربية منذ أعوام، وأنشئ المجمع العلمي المصري منذ قرن ونصف قرن، وأنشئت الجمعية الجغرافية في القرن الماضي وأنشئت جمعية فؤاد الأول للتشريع والاقتصاد وجمعية فؤاد الأول للحشرات ومعهد فؤاد الأول للأحياء المائية، وجمعية الأطباء وجمعية المهندسين والمجمع المصري للثقافة العامة العلمية، ولجنة التأليف والترجمة والنشر، وجماعات أخرى لا تحضرني الآن، والدولة تنفق على بعض هذه الهيئات ولكن في غير نفعٍ، وتعين بعضها الآخر ولكن إعانة يسيرة لا تغني شيئًا أو لا تكاد تغني شيئًا، وأنا واثق بأن الدولة تستطيع أن تنظم هذه الهيئات تنظيمًا حسنًا وتمنحها من المعونة ما يمكنها من الإنتاج الصحيح، وبأنها إن فعلت فلن تمضي أعوام قليلة حتى تشعر مصر بأنها ليست أقل قدرة على الإنتاج العلمي والفني من كثيرٍ من الأمم الحية الراقية، وأي شيء أيسر من أن تنشئ مصر مجمعها المصري على نحو المجمع الفرنسي مثلًا، على أن يتألف هذا المجمع من هيئات خاصة لكل طائفةٍ من العلم أو الفن هيئتها المقصورة عليها؛ فهيئة للغة والأدب، وثانية للعلوم، وثالثة للطب، ورابعة للعلوم السياسية والفقهية والاقتصادية، وخامسة للفنون الجميلة.
إذا أنشأت مصر هذا المجمع فلن تجد في إنشائه مشقة؛ لأن لكل هيئة من هيئاته نواة قائمة عاملة في مصر، فلسنا نطلب إلا أن تنظم هذه الهيئات وأن تكون منها الهيئة الثقافية العليا لا أقول في مصر وحدها بل في الشرق العربي أيضًا.
هنالك تفرغ كل هيئة من هيئات هذا المجمع لعلومها وفنونها الخاصة باحثة مستقصية ومنتجة بعد البحث والاستقصاء، ثم متصلة بأمثالها من الهيئات الأخرى في أقطار الأرض، فمحققة بهذا الاتصال ما ينبغي أن يكون بيننا وبين غيرنا من الأخذ والعطاء في الإنتاج العقلي ومن تنمية الثروة الإنسانية من المعرفة والعلم، ولا بد من أن تمنح الدولة والشعب هذا المجمع من المعونة المالية ما يمكنه من النهوض بهذه الأعباء ذات الخطر، بحيث تجد كل هيئة ما تحتاج إليه إذا أرادت أن تبحث أو تستقصي أو تنشر أو تذيع، وبحيث تجد كل هيئة ما تحتاج إليه لتشجيع الباحثين من غير أعضائها على البحث والإنتاج بالمكافآت والجوائز، وبنشر ما يضعون من كتب، وإذاعة ما يكتبون من فصول تستحق الإذاعة فيما يكون لها من المجلات، والخير أن تؤلف من هذه الهيئات كلها هيئة صغيرة تمثل فيها وزارة المعارف والجامعة ووزارة التجارة والصناعة، وأهم الشركات التي تستغل المرافق العامة، لتكون هذه الهيئة صلة بين البحث العلمي الخالص وبين الحياة العملية الخالصة، ولتحقق ما لا بد من تحقيقه من التعاون بين البحث العلمي والفن التطبيقي، ومن حق الدولة حينئذ أن تنتظر من الشركات وأصحاب الأعمال بل أن تكلفهم المشاركة فيما يحتاج إليه المجمع وهيئته هذه من الإنفاق على البحث سواء كان علميًّا أم فنيًّا؛ ذلك بأن الدولة لن تستفيد وحدها من نتائج هذا البحث في العلوم الخالصة والفنون التطبيقية، وإنما تنتفع معها بل تنتفع أكثر منها هذه الشركات وما يشبهها من إدارات الأعمال الحرة، كما تنتفع الإنسانية كلها بما يكون من تقدم في العلم النظري أو الفن التطبيقي، ولا بد من أن يستقر في نفوسنا أن للعلم والفن والحضارة والإنسانية حقوقًا معلومة في أموال الأغنياء ورجال الأعمال؛ فإن أدوا هذه الحقوق من تلقاء أنفسهم فذاك وإلا أخذتهم الدولة بأدائها أخذًا وحملتهم عليه حملًا.
ولست أدري أيقدر القارئ ما يكون لهذا النشاط من أثرٍ في الحياة العلمية والعملية والخلقية أيضًا، ولكني مقتنع بأن هذا الأثر سيكون عظيمًا بعيدًا جدًّا، سيكون مشبهًا لأمثاله من آثار النشاط العلمي والعملي في البلاد الأوروبية الراقية، فإني لا أبتكر هذا النحو من النظام الذي أقترحه ابتكارًا ولا أخترعه من عند نفسي، وإنما أنقله من الحياة الأوروبية نقلًا، وأتوخى فيه ملاءمة البيئة المصرية الخاصة وما يمكن فيها وما لا يمكن، وما أدري أي مشقة نجدها في تحقيق هذا النظام ونحن ننفق أموالًا مهما تكن قليلة فإن فيها شيئًا من غناء، ولكننا ننفقها متفرقة موزعة فيضيع كل جزء منها في غير نفع، ولو قد أحصينا ما تبذله الدولة من الإعانة لهذه الهيئات وأشباهها لاجتمع لنا من هذا الإحصاء مقدار ضخم من المال، ولو قد بحثنا بعد ذلك عما ينتجه هذا المال من النفع لحياتنا العقلية أو العملية لما وجدنا شيئًا.
كم أنفقت مصر على المجمع اللغوي منذ إنشائه؟ وكم أنفقت مصر على هيئة كبار العلماء منذ إنشائها؟ وأي ثمرة علمية أو أدبية أو دينية جنتها مصر من هاتين الهيئتين منذ إنشائهما؟ أما المال فكثير، وأما النفع فلا أقول إنه قليل ولكني أقول في غير تردد: إنه غير موجود.
وأكبر الظن أننا سرنا في إنشاء هذه الهيئات وتشجيع أمثالها سيرة الذين يكلفون بالمظاهر ويشغفون بالرياء، ويريدون أن تكون لهم هيئات وجماعات كما أن لغيرهم هيئات وجماعات، وأظن أن قد آن الوقت لندع هذا الكلف بالمظاهر الكاذبة وننصرف عن هذا الشغف بالتقليد الذي لا يغني، ونأخذ أمورنا كلها بالجد فلا نقدم على شيء منها إلا ونحن نعرف ما نريد ولا نقدم على شيء منها إلا ونحن نريد تحقيق الغرض الذي من أجله يكون الإقدام.