الإنتاج العقلي
وفي حياتنا العقلية تقصير معيب يصيبنا منه كثير من الخزي كما يصيبنا كثير من الجهل وما يستتبعه الجهل من الشر، ولا بد من إصلاحه إن كنا نريد أن ننصح لأنفسنا ونعيش عيشة الأمم الراقية، وإن كنا نريد أن ننصح للعلم نفسه ونشارك في ترقيته وتنميته، وإن كنا نريد أن ننصح للشعب فنخرجه من الجهل إلى المعرفة، ومن الخمود والجمود إلى النشاط والإنتاج، ومظهر هذا التقصير المخزي إهمالنا الشنيع للترجمة والنقل عن اللغات الأوروبية الحية، فما أكثر الآثار العلمية والفنية والأدبية التي تنعم بها الإنسانية الراقية، وما أشد جهلنا لهذه الآثار وغفلتنا عنها! وما أقل حظنا من الاستمتاع بلذاتها النقية الممتازة، وما أكثر حديثنا عن مجد العرب الأولين حين أقبلوا في شرهٍ رائع على آثار الأمم المتحضرة فنقلوها إلى لغتهم، ومزجوها بتراثهم، وغذوا بها عقولهم وقلوبهم، وكونوا منها حضارتهم.
نتحدث بهذا كله فنملأ به أفواهنا وننفخ له أوداجنا ونظل بعد ذلك خامدين جامدين لا نسير سيرتهم ولا نسلك طريقهم والآثار العلمية والفنية تزيد وتزيد، والعقول الأوروبية والقلوب الأوروبية تستمتع بها وتستمتع، والحضارة الأوروبية ترقى وترقى ونحن مستمتعون بما نحن فيه من العجز والقصور: نعجب بقديمنا وإن لم نكن له أهلًا، ونرضى عن حديثنا وإن لم يكن خليقًا بالرضا، وما أكثر ما نتحدث عن لغتنا العربية التي نحبها ونكبرها ونقدسها ونريد أن نجعلها لغة حية مرنة خصبة تسع كل ما في الأرض من علمٍ ومن فلسفةٍ وأدب، وتعبر عن كل ما يعرض من الخواطر والآراء وما ينشأ من الظواهر وما يستكشف في العلم والعمل، نتحدث بذلك في أنديتنا ومجالسنا ونذيعه في صحفنا ومجلاتنا، ولكننا لا نفعل شيئًا لنلائم بين سيرتنا وبين هذا الحديث، ونحن من غير شكٍّ أقل الأمم حظًّا من الترجمة، وأقلها علمًا لا أقول بدقائق الحياة العقلية الأوروبية بل أقول بأيسر مظاهرها، ومصدر ذلك أننا نجهل كثيرًا من اللغات الأوروبية، وأن الذين يعرفون قليلًا من هذه اللغات لا يكادون يعرفونها معرفة حسنة، وأن الذين يحسنون هذه اللغات لا يكادون يقرءون ما يُذاع فيها من علمٍ وأدب: إما لأنهم مصروفون إلى أعمالهم اليومية الشاقة، وإما لأنهم لم يُثقَّفوا الثقافة التي تحبب إليهم القراءة وتدفعهم إلى الاطلاع، وينشأ عن هذا أننا لا نترجم، وكيف نترجم إذا كنا لا نقرأ؟ وكيف نقرأ إذا كنا لم نُثقَّف هذه الثقافة التي تجعل القراءة جزءًا مقومًا لحياتنا اليومية؟ وينشأ عن هذا كله خطر عظيم جدًّا وهو أن القارئين الكاتبين منا على قلتهم يجهلون الحضارة الحديثة جهلًا تامًّا؛ لأن كثرة هؤلاء القارئين الكاتبين تجهل اللغات الأجنبية جهلًا تامًّا ولأننا لا نترجم لها إلى اللغة العربية ما لا تستطيع أن تقرأه في اللغات الأجنبية.
ومن هنا كان المثقفون في مصر فريقين: قلة ضئيلة تعرف بعض اللغات الأوروبية ولا تقرأ فيها وهي مع ذلك تتمدح وتستطيل وترى نفسها ممتازة، وكثرة تجهل اللغات الأوروبية جهلًا تامًّا ولا تجد من التراجم ما يضع عنها إصر هذا الجهل، فتزدري أوروبا وتزدري حضارتها وتزدري من يعجبون بأوروبا وحضارتها.
وقد قلت غير مرة في غير هذا الحديث إن من غير المعقول أن تُكلَّف كثرة القارئين الكاتبين في أمةٍ من الأمم إتقان اللغات الأجنبية، فلا بد من أن تنقل لها خلاصة هذه اللغات إلى لغتها العربية، ذلك حق لها على الدولة وهو حق لها على المثقفين القادرين على الترجمة، وقد ذكرت في هذا الحديث نفسه أن التلاميذ والطلاب عندنا لا يقرءون؛ لأنهم لا يجدون ما يُقرأ، ولأننا لا نقدم إليهم ما يُقرأ، ونحن لا نستطيع أن نقدم إليهم ما يقرأ إلا إذا ترجمنا وألفنا، ومن المحقق أننا لن نؤلف التأليف الذي يُرضي حاجتنا إلى العلم والأدب إلا إذا ترجمنا وأكثرنا من الترجمة، ذلك حري أن يمنحنا ما نقرأ أولًا وأن يدفع كثيرًا من الشباب إلى التقليد والمحاكاة، وقد فرغ الناس من إثبات أن التقليد عنصر من أرقى عناصر الحياة العقلية وأقواها، فلنترجم إذَنْ ولنكثر من الترجمة، ولنبذل في ذلك أقصى ما نملك من الجهد وأكثر ما نستطيع من المال، وعلى الدولة المسكينة يقع هذا العبء كما يقع عليها كثير من الأعباء وقتًا طويلًا؛ لأن ظروف الحياة المصرية تقتضي ذلك وتفرضه فرضًا، وإذا كانت وزارة المعارف تمنح الإعانات لكثيرٍ من الجماعات والهيئات التي يشك في نفعها، فلا أقل من أن تنشئ مكتبًا للترجمة على أن يكون عمله منوعًا بعض الشي، فينهض بنقل الآثار الأدبية والعلمية والفلسفية الخالدة التي أصبحت تراثًا للإنسانية كلها والتي لا يجوز للغة حية أن تخلو منها، يترجم هذه الآثار لإغناء اللغة نفسها ومنحها ما تحتاج إليه من المرونة، ولإرضاء الكرامة القومية، ولا ينبغي أن نشفق من قلة القارئين؛ فإن القارئين سيكثرون وهم يكثرون من يومٍ إلى يوم، ثم يترجم هذا المكتب الآثار الثقافية الوسطى التي تتجه إلى عامة المثقفين على اختلافهم وتنوعهم وتباين حظوظهم من الثقافة، وواضح جدًّا أن هذا المكتب لن يستطيع وحده أن ينهض بهذه الأعباء الثقال، فلا بد من تشجيع المترجمين وإغرائهم بالمال، ومهما تبذل وزارة المعارف في ذلك فلن تندم عليه؛ لأنه سيغني اللغة ويحييها، وسيغذي العقل المصري وينميه، وسينشر الثقافة ويذيعها، وسيقرب بين الطبقات المختلفة في الشعب، وسيحقق الكرامة القومية التي تريد أن ترتفع عن الجهالة والغفلة، وألا تكون صفوتنا دون غيرها من صفوة المثقفين في الأمم الأخرى، وألا تكون عامتنا دون غيرها من عامة الناس في الأمم الأخرى أيضًا.