قلة إنتاج المثقفين وأسبابها
وليس يكفي أن نشكو من أن الإنتاج العقلي في مصر قليل؛ قليل في الكم، وقليل في الكيف أيضًا، فقد كان ينبغي لحياتنا العقلية الحديثة التي لم تنشأ اليوم ولا أمس، أن تنتج أكثر جدًّا مما أنتجت وأن ترفعنا إلى منزلة أرقى من المنزلة التي نحن فيها من الثقافة العالمية، وفي الأرض أمم اتصلت بالحياة الحديثة في الوقت الذي اتصلنا بها فيه، أو بعد هذا الوقت بزمنٍ طويل أو قصير، ولكنها كانت أسرع منا إلى الانتفاع بهذا الاتصال وأقدر منا على أن تفرض نفسها على الحياة الحديثة، وتضطر الأمم الراقية إلى أن تجتهد في معرفتها، ثم إلى أن تجد في هذه المعرفة متاعًا ولذة، ثم إلى أن تترجم عنها إلى لغاتها المختلفة، وما أظن أن هذه الأمم قد خلقت من جوهرٍ أرقى من جوهرنا، أو امتازت بملكات لم نظفر منها بنصيب، وإنما أتيحت لها ظروف لم تُتَح لنا، وبعض هذه الظروف خارجي لا نسأل عنه إلا بمقدار، وبعضها داخلي نلام عليه أشد اللوم، وليس هذا الكتاب إلا صورة لما نستحقه من اللوم، على ما ورطنا فيه أنفسنا من تقصير.
وقد فهمت أني أشير إلى بعض الأمم التي خضعت مثلنا لسلطان الترك ثم تخلصت من هذا السلطان شيئًا فشيئًا أثناء القرن الحاضر — كما تخلصنا نحن منه — حتى تم لها استقلالها السياسي الذي لم يكد يتم لنا إلى الآن، فهذه الأمم قد أسرعت إلى الحياة الأوروبية الحديثة فاتصلت بها اتصالًا لا تردد فيه، وما أسرع ما انتفعت بهذا الاتصال وانتهت إلى غايته، فأصبحت مشاركة بالفعل في الحياة العقلية الأوروبية، تختلف حظوظها من هذه المشاركة ولكنها أرقى منا على كل حال، وأنا أعلم أن هذه الأمم لم تخلص من الترك لتقع في يد الإنجليز وأن استمتاعها بالاستقلال السياسي قد أتاح لها من الحرية في تنظيم أمورها ما لم يتح لنا إلا منذ وقت قصير جدًّا، بل أنا أعلم أنها قد وجدت من أوروبا حبًّا لها، وعطفًا عليها، ومعونة متنوعة على تحقيق أغراضها، وكان مصدر هذا كله السياسة أحيانًا والدين أحيانًا أخرى، وأننا نحن لم نظفر من أوروبا بشيءٍ مثل هذا، ولعلنا ظفرنا بما يناقض هذا كل المناقضة فكنا موضوع الطمع الأوروبي والمنافسة الأوروبية، والظلم الأوروبي، وأخرنا هذا كله عما كان ينبغي أن نبلغ من الرقي منذ اتصلنا بالحياة الحديثة ولكن هذا كله لا يعفينا من اللوم؛ لأننا لم نحسن مقاومة أوروبا، ولم نحسن انتهاز الفرص التي سنحت لنا، ولم نأخذ أمورنا بالجد والحزم، وإنما تواكلنا وتلكأنا واكتفينا بالظواهر، وأرجأنا العمل من يومٍ إلى يوم، وها نحن أولاء قد ظفرنا بحريتنا، وكان الحق علينا أن يدفعنا هذا الظفر دفعة قوية إلى أمام، ولكنا ما نزال بعد الاستقلال كما كنا قبل الاستقلال نُسمِع العالم جعجعة ولا نريه طحنًا.
فليس يكفي أن نشكو من هذا وإنما يجب أن نطب له، وليس يكفي أن نعيب المثقفين المصريين والأدباء بقلة الإنتاج وإنما يجب أن نلتمس الأسباب التي اضطرتهم إلى قلة الإنتاج وأن نطب لهذه الأسباب إن كان إلى الطب لها سبيل.
والواقع أني معجبٌ بهؤلاء المثقفين من المصريين؛ فهم قد بذلوا من الجهد، واحتملوا من العناء، ما لا يشعر به المعاصرون لهم وما سيقدره لهم التاريخ حق قدره، نشئُوا في بيئة معادية للثقافة أشد العداء، ممانعة لها أشنع الممانعة، وقد بدءوا بأنفسهم فحرروها من كثيرٍ من التقاليد الثقيلة الفادحة حتى عدَّتهم بيئتهم شُذَّاذًا، وقاومتهم ألوان من المقاومة فلم يهنوا ولم يضعفوا وإنما مضوا أمامهم لا يلوون على شيءٍ حتى كُتب لهم النصر.
قاومهم الشعب لأنه لم يفهم عنهم، وقاومهم السلطان الظاهر لأنه أشفق منهم، وقاومهم السلطان الخفي لأنه رأى فيهم قادة الحرية والهداة إلى الاستقلال، فثبتوا لهذا كله، وانتصروا على هذا كله، وخرجوا من المعركة ظافرين، وقد أدركنا هذا العهد الذي لم يكد ينتهي بعد، والذي ما نزال في أعقابه وما نزال نشهد بعض آثاره، والذي التقى فيه جيلان من المثقفين، أحدهما: الجيل القديم الذي كان يتخذ الأدب وسيلة إلى العيش وكسب القوت، ثم إلى كسب الثروة والحظوة عند الكبراء وأصحاب السلطان وعند الأغنياء والموسرين، مهدرًا في سبيل هذا كله بل في سبيل ما هو أيسر من هذا كله كرامته وحريته ورأيه وشعوره أيضًا، والجيل الحديث الذي آثر الحرية والكرامة على كل شيء، فلم يتخذ الأدب إلا سبيلًا إلى لذته العقلية، ومتعته الفنية، وإلى إيقاظ الشعور، وتنبيه الشعب إلى حقه وواجبه، وترقية الذوق، وإذاعة هذه الحياة العقلية الجديدة في مصر بوجهٍ عام، أدركنا هذا العهد الذي التقى فيه جيلان من المثقفين الأدباء، نزل أحدهما حتى عن رجولته، فأصبح ظلًّا للمنعم عليه بالقليل أو الكثير، ونزل أحدهما الآخر عن كل شيء في سبيل هذه الرجولة، فاضطر السادة والقادة والأغنياء والمترفين لا إلى أن يكبروه ويقدروه، بل إلى أن يتملقوه ويترضوه، ويصبحوا له ظلالًا في بعض الأحيان، وكان سبيل الجيل الحديث إلى ذلك أنه لم ير الأدب عَرَضًا من الأعراض أو سلعة من السلع يمكن أن تُعرض للبيع، وأن يظفر بها أكثر الناس بذلًا وأعظمهم سخاء، وإنما رأى الأدب صورة النفس وفيض العقل وخلاصة القلب، فآثره كما يؤثر نفسه وعقله وقلبه، والتمس الحياة المادية بوسائلها، وسلك إليها طرقها المألوفة: فمن هؤلاء المثقفين من التمس الحياة من العمل في الدواوين، ومنهم من التمسها من العمل في الصحافة، ومنهم من التمسها فيما شاء الله من الصناعات الحرة والأعمال الكريمة، التي لا تغض من صاحبها ولا تعرضه للهوان، فهذا هو الفتح الأول الذي ظفر به الجيل الحديث من المثقفين، وهناك فتحٌ آخر ليس أقل منه خطرًا، ولا أهون منه شأنًا، وهو الذي انتهى إليها أدباؤنا المحدثون حين ثبتوا لمقاومة الشعب وتنكر السلطان، وكيد السياسة، حتى كُتب لهم النصر على هذا كله وانتصرت آراؤهم ومقالاتهم على رغم ما احتملوا من العنف وما اضطروا إليه من الضيق، وما خضعوا له من الفتنة في أنفسهم وفي أخلاقهم وفي حريتهم وفي صحفهم: فمنهم من اضطر إلى الجوع ومنهم من عرف الفاقة، ومنهم من ذاق حياة السجن، ومنهم من تعرض لألوانٍ من الخطر قد تكون أشد من هذا كله وأسوأ عقبى.
كل هذا قد احتمله الجيل الحديث من الأدباء والمثقفين فثبتوا له وظهروا عليه، فإذا سألت بعد ذلك عما لقي هؤلاء الأدباء المحدثون من معونة الدولة وتأييد الشعب، لم تجد شيئًا، ولم تكد تجد شيئًا، ومع ذلك فقد آن للدولة والشعب أن يعرفا للأدباء المحدثين حقهم عليهما، لا إيثارًا لهم بالخير، ولا ضنًّا بهم على المكروه، ولكن تمكينًا لهم من الفراغ للإنتاج الأدبي والفني الذي ذاق الشعب لذته وأصبح لا يطيق استغناء عنه؛ فإن هؤلاء الأدباء مهما يبذلوا من جهد، ومهما يكلفوا أنفسهم من عناء، فلن يستطيعوا أن يفرغوا للإنتاج القيم الذي يذكي الثقافة ويرقيها، ويهذب الأذواق ويصفيها، وأن يعملوا مع ذلك وأن يجاهدوا لكسب حياتهم اليومية؛ فإن الله لم يجعل لرجلٍ من قلبين في جوفه، وما ينبغي أن يتكلف الأدباء في مصر ما يتكلفه أمثالهم في البلاد الراقية الحية؛ لأن ظروف الحياة هنا مخالفة لظروف الحياة هناك.
ويجب أن نقدر أن عدد القارئين الكاتبين في مصر لم يكد يتجاوز العشرة في المائة من السكان، وأن كثرة هؤلاء القارئين الكاتبين مصروفة عن القراءة إلى الكسل؛ لأن التعليم لم يُزيِّن في قلبها حب القراءة، أو إلى العمل لكسب القوت؛ فإذا قرأت فهي إنما تقرأ الصحف وهذه المجلات الهينة اليسيرة، وهي تجد في هذه المجلات وتلك الصحف غذاء هينًا يسيرًا، يلائم ثقافتها وحاجتها إلى السرعة، وعجزها عن التأمل والتفكير، وتعمق الخواطر والآراء، فالأدباء إذا ألفوا أو ترجموا فإنما يبلغون عددًا قليلًا جدًّا من القراء، ومن القراء الذين يمنون عليهم بقراءة آثارهم، وأكثرهم لا يشتري هذه الآثار وإنما يستعيرها من هذا وذاك، ويتلقطها من هنا أو هناك.
ومن المحقق أن الإنتاج الأدبي صناعة لا تقوت صاحبها، ولا تقيم أوده في مصر كما يقول الفرنسيون، فإذا طلبت إلى الأدباء أن يفرغوا لهذا الإنتاج فقد طلبت إليهم أن يفرغوا للبؤس والجوع.
وإذَنْ فنحن بين اثنتين: فإما أن نريد تشجيع الإنتاج الأدبي وتمكين الأدباء من الفراغ له، وإذَنْ فلا بد من أن نهيئ لهم الظروف التي تيسر ذلك وترغبهم فيه، وإما أن نريد ترك أمورنا تجري على ما تجري عليه الآن، وإذَنْ فلنخلِّ بين الأدباء وبين حياتهم يحيونها كما يستطيعون، ينتجون حين يجدون من الفراغ والقوة وحسن الاستعداد ما يمكنهم من الإنتاج، فلن يكون الإنتاج الأدبي في هذه الحال إلا نافلة وشيئًا إضافيًّا قد يجيء وقد لا يجيء.
وفي القراء مكر خطر، وفيهم دهاء شنيع، وفيهم استغلال أقل ما يوصف به أنه شديد القسوة؛ فهم يعلمون أن الأديب الذي يستحق هذا الوصف لا يستطيع أن يعيش إلا إذا أنتج؛ لأنه لا يستطيع أن يتلقى الحياة وأحداثها حتى يسيغها ويتمثلها ثم يخرجها بعد ذلك أدبًا في كتاب يقرأ، وهم من أجل ذلك يقسون على الأديب ولا يحفلون بآلامه؛ لأنهم واثقون بأنه سيقدم إليهم غذاءهم الروحي سواء أسعد أم شقي، وسواء أشبع أم جاع، ولكن ليأخذ القراء حذرهم من شيءٍ لعلهم لم يفطنوا إليه؛ لأنهم مشغولون بأنفسهم، مصروفون إلى لذاتهم ومتاعهم، وهو أن الحياة الحديثة لا تسمح باستغلال الأديب كما يستغل الحيوان، وكما تستغل الأدوات؛ ذلك أن للأديب الحق في أن يعيش كما يعيش معاصروه، ولعل له الحق في أن يعيش خيرًا مما يعيش معاصروه.
وما دام يستطيع أن يحتمل الألم، ويذوق ألوان العذاب ليغذو عقول معاصريه وقلوبهم، فلا أقل من أن يضمن له هؤلاء المعاصرون حياة لا أقول راضية ناعمة، وإنما أقول هادئة تمكنه من الفراغ لإعداد هذه المائدة التي يستمتع المعاصرون بما عليها من ألوان، فإن لم يفعلوا فلا على الأديب من أن يسير سيرة غيره من الناس، ومن أن يعيش كما يعيشون، ويضطرب في طلب الرزق كما يضطربون، وإني أؤكد لهؤلاء القراء وللدولة معهم، أن في مصر أدباء قد يكونون قليلين ولكنهم موجودون نعرفهم جميعًا، ولو قد مُكِّنوا من الفراغ لصناعتهم، وأتيحت لهم الراحة من هذا الجهد السخيف الذي يبذلونه في كل يوم ليعيشوا لكان شأن الأدب العربي الحديث في مصر الآن أرقى وأعظم خطرًا وأبعد أثرًا مما نرى.
ولقد شهدت في العام الماضي مؤتمرًا يعقده الأدباء العالميون بين حينٍ وحين، وكان موضوع بحث المؤتمر في هذه المرة مستقبل الأدب، فرأيت كثرة المؤتمرين والفرنسيين منهم خاصة يشكون أشد الشكوى وأمرَّها مما يتعرض له الأدباء من البؤس، ويلحون على الدولة في أن تشرِّع من القوانين وتتخذ من الإجراء ما يحميهم من هذا البؤس، ولا أستطيع أن أصور ما كان يملأ نفسي من العزة والفخر بأدبائنا المحدثين، حين تحدثت إلى هؤلاء المؤتمرين بالفرق الهائل بين قرائنا وقرائهم في العدد أولًا وفي الإقبال على القراءة والنشاط لها ثانيًا، ثم بهذه الأنفة الكريمة التي صرفت أدباءنا المعاصرين إلى الآن عن أن يطالبوا الدولة أو الشعب بالتأييد والتشجيع، أو أن ينتظروا من الدولة والشعب شيئًا، ومع ذلك فقد كان أدباؤنا إلى وقتٍ قريب جدًّا يسيرون سيرة أسلافهم ولا يعيشون إلا في ظل الأغنياء والموسرين، نعم، ولا أستطيع أن أصور ما كان يملأ نفسي من العزة والفخر بأدبائنا المعاصرين حين قصصت على هؤلاء المؤتمرين ما كان من إقدام صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا على تشجيع الإنتاج الأدبي حين كان رئيسًا للوزارة، ومن عرضه ألفين من الجنيهات على أن تكون جوائز للذين يفوزون في مسابقاتٍ أدبية أعلنت موضوعاتها، ومن إعراض أدبائنا كلهم أو أكثرهم عن هذه المسابقات وتركها للطلاب والشباب الناشئين.
نعم، كنت عزيزًا فخورًا حين كنت أتحدث بهذا للمؤتمرين ولكني الآن وأنا أتحدث إلى المواطنين أشعر بشيءٍ آخر هو الألم والخوف؛ الألم لهذه الجهود الضائعة والخوف على مستقبل حياتنا الأدبية من هذا الإهمال، وما أظن أن أحدًا من أدبائنا المعاصرين يخالفني إذا زعمت أن كل أديب في مصر إذا خلا إلى نفسه، واستقصى أمره، ووازن بين حياته وحياة أترابه من الموظفين وأشباه الموظفين، ومن المترفين وأشباه المترفين، تمثَّل — وكان صادقًا — قول العرجي:
فلتشعر الدولة بواجبها ولتنظم للأدباء من الجوائز وألوان التشجيع ما هم في حاجةٍ إليه، ويكفي أن تلاحظ الدولة وأن يلاحظ الشعب معها أن أخمل الأدباء في بلدٍ كفرنسا أو إنجلترا واثق إذا قبل الناشرون كتابه أنه سيجد قراء يُحصَون بالألوف الكثيرة، وأن أنبه الأدباء في مصر واثق بأنه حين ينشر كتابًا فلن يظفر إلا بألوف لا تبلغ أصابع اليد الواحدة، وهذه الألوف لن تقرأ كتابه في الأشهر ولا في العام ولكن في العامين أو في الأعوام المتصلة، وما أكثر الكتب القيمة التي لا تُطبع عندنا إلا مرةً واحدة.
وليس هذا كله ما ينبغي أن يظفر به الأدب والأدباء من تشجيع الدولة والشعب، بل هناك شيء آخر لعله أعظم خطرًا من المال وهو الحرية؛ فالأدباء عندنا ليسوا أحرارًا لا بالقياس إلى الدولة ولا بالقياس إلى القراء، وما أكبر النبوغ الذي يضيع ويذهب هدرًا؛ لأنه يكظم نفسه، ويكرهها على الإعراض عن الإنتاج خوفًا من الدولة، أو خوفًا من القراء، فليس كل موضوع يعرض للأديب عندنا تسيغه القوانين ويحتمله النظام ويرضى عنه ذوق الجمهور.
ولعل مما يباح للأدباء أن يتعرضوا له وينتجوا فيه أن يكون أقل جدًّا مما يحظر عليهم أن يتناولوه ويخوضوا فيه، ما أكثر الذين يعيبون أدباءنا بأنهم لا يتصلون بالشعب ولا يصورون حياته كما هي، ويتهمونه ظلمًا؛ لأنهم يتكلفون الأرستقراطية، ويتصنعون الامتياز، ولكن دع أدباءنا يتصلون بطبقات الشعب فيصوروا آلامها وحياتها البشعة، ثم انتظر بعد ذلك ما سيُصَب عليهم من اللوم وما سيُهَيَّأ لهم من الكيد، وما سيُوجَّه إليهم من التهم وما سينالهم من المكروه.
ما أكثر ما يعاب أدباؤنا بأنهم لا يعنون إلا بظواهر النفوس، ولا يصورون دخائلها، ولا يتعمقون ضمائرها، ولا يرسمون شيئًا من ذلك فيما ينتجون، ولكن دعهم يفعلوا ما يلامون على إهماله، ودعهم يظهروا النفس الإنسانية عارية كما يفعل زملاؤهم الأوروبيون، وثق بأنهم قادرون على ذلك خليقون أن يبرعوا فيه ويبهروا به إن حاولوه، دعهم يفعلوا ذلك ثم انتظر ما يصب عليهم الجمهور ورجال الدين وإدارة الأمن العام والنيابة من المكروه، يجب أن يُحرَّر الأدب والأدباء وأن يتاح لهم القول في كل ما يشعرون به ويجدون الحاجة إلى القول فيه، ويجب أن تكون قوانيننا سمحة وأن يكون تطبيقها سمحًا، وأن يكون ذوق الجمهور عندنا سمحًا كذلك.
ولنثق بأن الإنتاج القيم وحده هو الذي سيبقى وسينفع، وبأن الإنتاج السخيف أو المرذول لن يقاوم عوادي الدهر ولن يقوى على البقاء.
ولحرية الرأي شرها أحيانًا ولكن لها خيرها دائمًا، ونفع الحرية أكثر من ضرها على كل حال، وما أشك في أن كثيرًا من الآثام الفردية والاجتماعية سيزول أو تخف أضراره إذا أتيح للأدباء أن يتناولوه بالنقد والتحليل وبالعرض والتصوير، وما أشك في أن قوانيننا حين تتشدد في مصادرة ما تصادر من حرية الأدب لا تحمي الفضيلة وإنما تحمي الرذيلة وتخلي بينها وبين النفوس.