الصحافة والسينما والراديو
وسيدهش القارئ حين يراني أطالب بشيءٍ من تقييد الحرية بعد أن طالبت الآن بإطلاقها، وذلك حين أتحدث عن هذه الأدوات الحديثة التي استكشفها العلم وابتكرتها الحضارة واتخذتها وسيلة إلى الإذاعة والتغلغل في طبقات الناس إلى أبعد حدٍّ ممكن، وأنا إنما أريد الحديث عن الصحافة والسينما والراديو.
ومن السخف أن يظن بي أحد أني أغض من قدر هذه الأدوات الثلاث أو أريد بها شرًّا، فأنا من المكبرين لها المؤمنين بنفعها الذين ينتظرون منها الخير كل الخير؛ لأني لا أنظر إليها على أنها أدوات للإذاعة وإنما أنظر إليها على أنها أدوات لتثقيف الشعب وتهذيبه وتصفية ذوقه وتنقية طبعه وتحقيق الصلة بينه وبين غيره من الشعوب، ولست أنظر إليها على أنها مكملة للتعليم الشعبي وإنما أنظر إليها على أنها قد تكون أشمل نفعًا وأبعد أثرًا من هذا التعليم، ولكن بشرط أن تحقق هذه الأغراض وألا تُصرَف عنها إلى أغراضٍ أخرى ليست من الخير في شيء، وأنا أعلم أن الأدباء والفلاسفة الأوروبيين يشفقون من هذه الأدوات الثلاث على العقل والثقافة أشد الإشفاق.
قد ألفوا في ذلك الكتب وكتبوا في ذلك المقالات وسيؤلفون الكتب ويكتبون المقالات، ولكني أعلم أن ظروف الحياة في مصر مخالفة لظروف الحياة في أوروبا؛ فالشعوب الأوروبية قادرة كلها على القراءة؛ لأنها أخذت بالتعليم منذ عهدٍ بعيد، ومن المحقق أن الصحافة والسينما والراديو خليقة أن تصرف الناس عن القراءة الهادئة المطمئنة، وأن تنافس الكتاب منافسة خطرة على العقل والثقافة، ولكن كثرة المصريين لا تقرأ فلا أقل من أن تُتلى عليها الصحف التي تعلِّمها وتهذبها بلغتها السهلة وعباراتها العربية وأساليبها اليسيرة، ولا أقل من أن يبلغ السينما والراديو عقولها وقلوبها وأذواقها بما يعرضان عليها ويحملان إليها من المشاهد والأخبار، ومن ألوان العلم والأدب والفن الميسرة المقربة إلى طاقتهم، وإلى أن تتعلم هذه الكثرة المصرية وتصبح هذه الأدوات خطرًا على القراءة الهادئة المطمئنة، نستطيع أن نعتمد على هذه الأدوات نفسها على أنها وسائل أساسية إلى تثقيف الشعب وتهذيبه وإرشاده إلى الخير في سيرته وإلى الصواب في رأيه.
وإذا طالبت بأن تحد حرية هذه الأدوات بعض الشيء فإني لا أريد أن تكون إدارة الأمن العام أو إدارة المطبوعات هي التي تقيد هذه الحرية، وإنما أريد أن تنظم هيئات من المثقفين تشرف من بعيدٍ على حياة هذه الأدوات الثلاث، وواضح أن هذه الهيئات لن تكون غريبة عن هذه الأدوات.
فنقابة الصحافة هي التي ستشرف على حياة الصحافة وهي التي ستوجهها وهي التي ستردها إلى القصد إن جارت عنه وإلى الخير إن تنكَّبت طريقه، وقُل مثل ذلك في لجنة الراديو، أما السينما فله قصة أخرى لأنه يأتينا من الخارج، والطارئ علينا منه أكثر جدًّا من الذي نستحدثه في بلادنا، وإذا كانت أوروبا نفسها على حريتها تشكو من خطره على الذوق والخلق، فأحرى بنا أن نحتاط منه للذوق والخلق، وأن نراقبه مراقبة دقيقة وألا نبيح عرضه إلا إذا وجدنا منه الخير وأَمِنَّا شرَّه على أقل تقدير، والمهم أن يكون أمر ذلك إلى هيئةٍ مثقفة ترتفع عن التحكم والجور وتتنزه عن الرجعية والجمود.