التعاون على تنظيم الثقافة وتوحيد برامجها
وليس هذا كل ما ينبغي أن تنهض به مصر لنشر الثقافة في الأقطار العربية، بل هناك شيء آخر قد عم الشعور به واشتدت الحاجة إليه حتى أخذت وزارة المعارف تفكر فيه وتستعد له وهو: التعاون على تنظيم الثقافة وتوحيد برامجها بالقياس إلى الأقطار العربية كافة، يدعو إلى ذلك حاجة هذه البلاد إلى توحيد الجهود ما دام مثلها الثقافي الأعلى واحدًا، ويدعو إلى ذلك أن التعليم العالي في مصر قد بلغ من الرقي درجة تدعو إليه طلاب العلم في الأقطار العربية، وللتعليم العالي في مصر نظم دقيقة شاقة قد تحول بين هؤلاء الطلاب وبين الانتفاع به والظفر بإجازاته ودرجاته، فلا بد من أن يُهيَّأ هؤلاء الطلاب لهذا التعليم تهيئة حسنة تلائم تهيئة المصريين له، وقد اجتمع فريق من قادة الرأي الشرقي العربي منذ أكثر من عام في لجنة التأليف والترجمة والنشر وتشاوروا في ذلك كما تشاوروا في غيره من ألوان التعاون الثقافي ورسموا لذلك خطة وشرعوا له نظامًا، ثم أخذت وزارة المعارف تفكر فيه وتستعد للدعوة إلى مؤتمر عربي شرقي، والذي أرجوه أن يكون انعقاد هذا المؤتمر دوريًّا وأن يكون هذا المؤتمر متنقلًا في الأقطار العربية على نحو ما يسير عليه المؤتمر الطبي الذي أُنشئ منذ حين.
وقد شهدتُ في العام الماضي — ممثلًا لوزارة المعارف — مؤتمر اللجان الوطنية للتعاون الفكري، فتحدثت فيه إلى المؤتمرين بأن مصر تستطيع أن تكون مركزًا من أهم المراكز لهذا التعاون الفكري، إذا نهضت بتبعاتها الثقافية نحو الأقطار العربية؛ ذلك لأنها بحكم مركزها الجغرافي وبحكم نهضتها الحديثة أصدق صورة لما تطمح إليه عصبة الأمم من هذا التعاون الفكري الخالص الذي يقارب بين الأمم ويلغي ما بينها من الفروق ويرتفع بحياتها العقلية عن ألوان الخصومة وضروب النزاع، فالجامعة المصرية مثلًا بيئة تلتقي فيها الثقافات الإنسانية كلها تقريبًا، يحملها إليها أساتذة ممتازون من المصريين ومن الأوروبيين على اختلاف أوطانهم ومذاهبهم في السياسة والدين والاقتصاد، وهذه الثقافات كلها تلتقي وتمتزج وتُصهر في العقل المصري الذي يسيغها ويتمثلها ويطبعها بعد ذلك شيئًا ما بطابعه المصري الخالص، وهو قادر بعد هذا على أن يذيعها في بلاد الشرق شرقية غربية عربية أوروبية بريئة مما يفسد الثقافة عادة من التعصب والهوى.
وقد وقع هذا الحديث من المؤتمرين موقعًا حسنًا، فهل يقع هذا الحديث من المصريين أنفسهم موقعًا حسنًا، وهل يشعر المصريون بأن فرصة ذهبية كما يقال تتاح لهم الآن؟ فلكل شر أثر حسن، والشر أن حاجتنا إلى الأوروبيين لا تزال شديدة في التعليم، والأثر الحسن لهذا الشر أننا نستطيع أن نكون رسل العلم والثقافة والأمن والسلم والتوفيق بين الشرق والغرب جميعًا.
فإذا أرادت مصر أن تنتهز هذه الفرصة فذلك يسير عليها لا يحتاج إلى أن تُعنَى بتقوية الصلة بينها وبين لجنة التعاون الفكري في جنيف ومعهد التعاون الفكري في باريس من جهة، وبينها وبين البيئات والمعاهد العلمية في الشرق العربي، بل في الشرق الإسلامي من جهةٍ أخرى.