أتُوجَدُ ثقافةٌ مصريةٌ، وما عسى أن تكون؟
وبعد هذا الحديث الذي أراه قد طال أكثر مما قدرت له أن يطول تعرض مسألة لا بد من الوقوف عندها والإجابة عليها، أتوجد ثقافة مصرية وما عسى أن تكون؟ فأما أنا فأجيب على هذه المسألة بأن الثقافة المصرية مهما تكن ضعيفة ومهما تكن ناقصة ومهما تكن محتاجة إلى التقوية والتنمية والإصلاح، فهي موجودة ما في ذلك وما ينبغي أن يكون في ذلك شك، هي موجودة متميزة بخصالها وأوصافها التي تنفرد بها من غيرها من الثقافات.
وأول هذه الصفات المميزة لثقافتنا المصرية أنها تقوم على وحدتنا الوطنية وتتصل اتصالًا قويًّا عميقًا بنفوسنا المصرية الحديثة كما تتصل اتصالًا قويًّا عميقًا بنفوسنا المصرية القديمة أيضًا، تتصل بوجودنا المصري في حاضره وماضيه، ومن حيث إنها تصور آمالنا ومُثلنا العليا في الحياة فهي تتصل بمستقبلنا أيضًا بل هي تدفعنا إلى هذا المستقبل دفعًا، ولك أن تنظر في أي لونٍ من ألوان العلم والأدب والفن التي تدرس في مصر والتي ينتج فيها العلماء والأدباء والفنانون المصريون، فسترى أنها مطبوعة بالطابع المصري القوي الذي لم يستطع الزمان أن يمحوه أو يعفي آثاره، سترى فيها هذا الذوق المصري الذي ليس هو ابتسامًا خالصًا ولا عبوسًا خالصًا ولكنه شيء بين ذلك فيه كثير من الابتهاج وفيه قليل من الابتئاس، وسترى فيه هذه النفس المصرية التي تجمع بين الجدة والقدم والتي تثب إلى أمام ولكنها تستأني وقد تقف من حيث تستأني وقد تقف من حينٍ إلى حين لتنظر إلى وراء، سترى فيها الاعتدال المصري الذي يُشتق من اعتدال الجو المصري والذي يأبى على الحياة المصرية أن تسرف في التجديد، ثم ستراها قد اتخذت اللغة العربية المصرية لها أداة مرنة أنيقة رشيقة لا تنبو عن الذوق ولا تتجافى عن الطابع ولا تكلف قارئها مشقة وجهدًا، ولا تقل إن اللغة العربية مشتركة بين مصر وغيرها من البلاد العربية، فهذا حق، ولكن لمصر مذهبها الخاص في التعبير كما أن لها مذهبها الخاص في التفكير، والبلاد الأخرى تتأثر مصر ولعلها تتنافس في تأثر مصر في تفكيرها وتعبيرها، وإذا أردت أن تحلل الثقافة المصرية إلى عناصرها الأولى فهذه العناصر بينة واضحة: هي التراث المصري الفني القديم، وهي التراث العربي الإسلامي، وهي ما كسبته مصر وتكسبه كل يوم من خير ما أثمرت الحياة الأوروبية الحديثة، هي هذه العناصر المختلفة المتناقضة فيما بينها أشد الاختلاف والتناقض، تلتقي في مصر فيصفي بعضها بعضًا، ويهذب بعضها بعضًا وينفي بعضها من بعض ما لا بد من نفيه من الشوائب التي لا تلائم النفس المصرية، ثم يتكون منها هذا المزاج النقي الرائق الذي يورثه الآباء للأبناء وينقله المعلمون إلى المتعلمين، وأنا أعلم أن كثيرًا من رجال الثقافة الممتازين في أوروبا يضيقون بالثقافات الوطنية ويكرهونها ويودون لو لم تعرف الإنسانية إلا ثقافة واحدة، أنا أعلم هذا ولكني أعلم أنه مخالف لطبيعة الأشياء، فمن عناصر الثقافة ما هو بطبيعته شائع عام مشترك بين الناس جميعًا، ترى ذلك في كثيرٍ من ألوان العلم، ومن عناصر الثقافة ما هو بطبيعته شخصي مقصور على هذه الأمة أو تلك، يجري ذلك في كثيرٍ من ألوان الفن، ولكن طبيعة الحياة الإنسانية قد أتاحت للناس أن يخصصوا العام فيطبعوه بطابعهم، وأن يعمموا الخاص فيجعلوه شركة بين الأمم جميعًا، فالعلم لا وطن له، ولكنه إذا استقر في وطنٍ من الأوطان تأثر بإقليمه وبيئته ليستطيع أن يتصل بنفوس ساكنيه، والفن شخصي متأثر بمنتجه مصور لنفسه ومزاجه، ولكنه لا يكاد يظهر حتى يكتسب من وجود نفسه صفة لا أدري كيف تحدد ولكنها تصل بينه وبين الناس جميعًا وتقربه إلى نفوس الناس جميعًا، هذا التمثال المصري وطني خالص ممثل للطبيعة المصرية والذوق المصري، ولكنه لا يكاد يظهر في ضوء الشمس حتى يعجب المثقفين جميعًا ويتصل بنفوسهم، وهذا اللون من ألوان الموسيقى ألماني أو فرنسي يصور فاجنر كما يصور ألمانيا ويصور برليوز كما يصور فرنسا، ولكنه لا يكاد يوقع حتى يهز قلوب المثقفين جميعًا ويتصل بأذواقهم.
فليست الثقافة وطنية خالصة ولا إنسانية خالصة، ولكنها وطنية إنسانية معًا وهي في أكثر الأحيان فردية أيضًا، فمن ذا الذي يستطيع أن يمحو بتهوفن من موسيقى بتهوفن؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يمحو راسين من شعر راسين؟
وإذن ففي مصر ثقافة مصرية إنسانية فيها شخصية مصر القديمة الهادئة، وفيها شخصية مصر الباقية الخالدة، وهي في الوقت نفسه إنسانية قادرة على أن تغذو قلوب الناس وعقولهم وتخرجهم من الظلمة إلى النور، وقادرة على أن تتيح لهم من اللذة والمتاع مما يجدونه أو لا يجدونه في ثقافتهم الخاصة، وآية ذلك أن هذه الثقافة تعلِّم كثيرًا من العرب غير المصريين وتلذهم، وأن القليل الذي تُرجم إلى اللغات الأوروبية قد أعجب الأوروبيين وأرضاهم، فلنقنع أنفسنا إن لم تكن مقتنعة بأننا مهما نكن مبطئين فإن لنا شخصية قوية خصبة تنتج للناس ما يفيدهم ويمتعهم كما تنتج لنا ما يفيدنا ويمتعنا، وكل ما يجب علينا هو ألا نهمل هذه الثقافة فتضعف أو يدركها الجمود، وأن نمنحها ما نملك من قوةٍ وجهد لتنمو وتذكو؛ فإن في نمائها وذكائها نماء لنا وذكاء، بل نماء لغيرنا من الناس وذكاء أيضًا.