حُلم وأمل
وقد يحق لي بعد إملاء هذا الحديث الطويل الشاق، ويحق للقارئ بعد الفراغ من قراءته أن يفرغ كلٌّ منا لنفسه في مجلسه الذي يوافق فيه فراغه من الإملاء أو القراءة، وأن يرسل نفسه لحظات على سجيتها ويخلي بينها وبين الأمل الواسع والحلم البعيد.
فأما أنا فإني أطلق نفسي من القيود التي يفرضها عليها الإملاء المنظم والتفكير المنسق، أطلقها من هذه القيود وأخلي بينها وبين أملٍ لا يشبهه في السعة والجمال والتنوع إلا هذا الأفق الذي أحسه يمتد أمامي رائعًا بهذا الجو المشرق الصافي، وبهذه الجبال الشاهقة تتوجها الثلوج وتقوم على سفوحها الغابات مختلفًا ألوانها، ويبرق بينها ضوء حار يبعث في النفوس والأجسام حياة، ويضطرب بينها نسيم عذب يبعث في النفوس والأجسام نشاطًا، أخلي بين نفسي وبين هذا الأمل الواسع الحلو، أخلي بينها وبين هذا الحلم الرائع الجميل، فأجد لذة قوية تخرجني عن طوري أو تكاد، عميقة تتغلغل إلى أقصى ضميري أو تكاد، وإذا أنا فرح إلى أقصى غايات الفرح، مبتهج إلى أبعد حدود الابتهاج، سعيد إلى أرقى درجات السعادة؛ لأني أرى شجرة الثقافة المصرية باسقة، قد ثبتت أصولها في أرض مصر، وارتفعت فروعها في سماء مصر، وامتدت أغصانها في كل وجه، فأظلت ما حول مصر من البلاد وحملت إلى أهلها ثمرات حلوة، فيها ذكاء للقلوب وغذاء للعقول وقوة للأرواح، وهم يسعون في هدوءٍ واطمئنان وثقة إلى هذه الغصون النضرة الوارفة، فيستمتعون بمنظرها، ويأوون إلى ظلها ويستمتعون بثمراتها المتشابهة؛ لأنها تصدر عن شجرة واحدة هي ثقافة مصر المختلفة، ولأنها تحمل إليهم ألوان العلم وضروب المعرفة وصنوف اللذة الفنية على تنوعها، فيتلون هذه الآية الكريمة التي اقتبس ترجمتها أندريه جيد وزين بها كتابًا هو أبرع كتبه في تصوير لذات الحس، والتي أقتبسها أنا الآن لأن فيها أصدق صورة وأروعها وأبرعها للذة العقل والقلب والروح.
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
نعم، أرسل نفسي على سجيتها في هذا الحلم الرائع الجميل فأرى مصر وقد بذلت ما دعوتها إلى بذله من جهدٍ في تعهد ثقافتها بالعناية الخالصة والرعاية الصادقة، وأرى مصر وقد ظفرت بما وعدتها بالظفر به فانجاب عنها الجهل وأظلها العلم والمعرفة وشملت الثقافة أهلها جميعًا، فأخذ بحظه منها الغني والفقير والقوي والضعيف والنابه والخامل والناشئ ومن تقدمت به السن، وتغلغلت لذتها حتى بلغت أعماق النفوس، وانتشر نورها حتى أضاء القصور والدور والأكواخ، وشاعت في مصر كلها حياة جديدة وانبعث في مصر كلها نشاط جديد، وأصبحت مصر جنة الله في أرضه حقًّا يسكنها قوم سعداء ولكنهم لا يؤثرون أنفسهم بالسعادة وإنما يشركون غيرهم فيها، وأصبحت مصر كنانة الله في أرضه حقًّا يعتز بها قوم أعزاء ولكنهم لا يؤثرون أنفسهم بالعزة وإنما يفيضون على غيرهم منها.
هذا حلمٌ رائعٌ جميل تمضي فيه نفس هائمة تحب مصر وأهل مصر في الأفق الغريب الجميل من آفاق الألب، ولكنه حلم يسير التحقيق قريب التعبير؛ فإن مصر التي انتصرت على الخطوب، وثبتت للأحداث وظفرت بحقها من أعظم قوة في الأرض في هدوءٍ وأناةٍ وثقةٍ بالنفس وإيمانٍ بالحق، خليقةٌ أن تنتصر على نفسها وتَظْهر على ما يعترض طريقها من العقاب، وترد إلى نفسها مجدًا قديمًا عظيمًا لم تنسه ولن تنساه.