العقل الإسلامي كالعقل الأوروبي
نعم، قد عدَتْ على أهل الشرق القريب عوادٍ، وألمَّت بهم ملمَّات قطعت الصلة بينهم وبين أوروبا حينًا، وأفسدت عليهم أمرهم إفسادًا عظيمًا، ومكنت لأوروبا من أن تمضي في نهضتها حتى تقطع في سبيل الرقي شوطًا بعيدًا، على حين أخذ هذا الشرق القريب ينحط، ويسرف في الانحطاط، حتى كاد يفقد شخصيته العقلية، ثم أفاقت مصر، وأفاق معها الشرق القريب، فإذا أوروبا قد بلغت من الرقي حظًّا عظيمًا، وبسطت سلطانها على أعظم أقطار الأرض، وكان ذلك حين أغار العنصر التركي على هذه الأقطار الإسلامية في حوض بحر الروم، فردها إلى الانحطاط بعد الرقي، وإلى الجهالة بعد العلم، وإلى الضعف بعد القوة، ومحا أو كاد يمحو منها أعلام الحضارة، وقطع الصلة بينها وبين أوروبا دهرًا. ولكن يجب أن نلاحظ شيئين: أحدهما أن مثل هذه الظاهرة قد ألمَّت بأوروبا في أول القرون الوسطى حين أغار البرابرة عليها فحرموها مزايا الحضارة اليونانية الرومانية، فما بال هذه الظاهرة لم تجرد أوروبا من عقلها اليوناني، وما بالها تجرد الشرق القريب من هذا العقل نفسه؟ وما بال إغارة الترك على الشرق القريب تغيِّر طبيعة العقل فيه، على حين لم تتغير طبيعة العقل في أوروبا حين أغارت عليها الأمم المتبربرة، وقد اعتنق الترك دين الشرق القريب وحضارته كما اعتنقت الأمم المتبربرة دين الغرب وحضارته؟
والشيء الثاني الذي لا بد من ملاحظته هو أن في هذا الشرق القريب بلدًا قد ثبت لغارة الترك، وحمى منها الحضارة والعقل والتراث الإسلامي وإن كان قد لقي من هذه الغارة شرًّا كثيرًا.
وهذا البلد هو مصر، التي آوت الإسلام وعلومه وحضارته وتراثه المجيد، فحفظتها كنزًا مدخرًا، حتى إذا أتيحت لها الفرصة أخذت ترد هذا الكنز إلى الشرق والغرب جميعًا، فما بال قوم ينكرون على مصر حقها في أن تفاخر بأنها حمت العقل الإنساني مرتين: حمته حين آوت فلسفة اليونان وحضارته أكثر من عشرة قرون، وحمته حين آوت الحضارة الإسلامية وحمتها إلى هذا العصر الحديث؟
وإذَنْ فكل شيء يدل على أنه ليس هناك عقل أوروبي يمتاز من هذا العقل الشرقي الذي يعيش في مصر وما جاورها من بلاد الشرق القريب، وإنما هو عقل واحد، تختلف عليه الظروف المتباينة المتضادة فتؤثر فيه آثارًا متباينة متضادة، ولكن جوهره واحد ليس فيه تفاوت ولا اختلاف.
وقد ذكرت في غير هذا الموضع أن الكاتب الفرنسي المعروف بول فاليري أراد ذات يوم أن يشخص العقل الأوروبي فردَّه إلى عناصر ثلاثة: حضارة اليونان وما فيها من أدب وفلسفة وفن، وحضارة الرومان وما فيها من سياسة وفقه، والمسيحية وما فيها من دعوة إلى الخير وحث على الإحسان. فلو أردنا أن نحلل العقل الإسلامي في مصر وفي الشرق القريب أفتراه ينحل إلى شيء آخر غير هذه العناصر التي انتهى إليها تحليل بول فاليري؟
خذ نتائج العقل الإسلامي كلها، فستراها تنحل إلى هذه الآثار الأدبية والفلسفية والفنية، التي مهما تكن مشخصاتها فهي متصلة بحضارة اليونان وما فيها من أدب وفلسفة وفن، وإلى هذه السياسة والفقه اللذين مهما يكن أمرهما فهما متصلان أشد الاتصال بما كان للرومان من سياسةٍ وفقهٍ، وإلى هذا الدين الإسلامي الكريم وما يدعو إليه من خيرٍ وما يحث عليه من إحسان، ومهما يَقُلِ القائلون فلن يستطيعوا أن ينكروا أن الإسلام قد جاء متممًا ومصدقًا للتوراة والإنجيل!
وإذَنْ فمهما نبحث ومهما نستقصِ فلن نجد ما يحملنا على أن نقبل أن بين العقل الأوروبي والعقل المصري فرقًا جوهريًّا.