وجوب الصراحة في الأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية
لكن السبيل إلى ذلك ليست في الكلام يُرسل إرسالًا، ولا في المظاهر الكاذبة والأوضاع الملفقة، وإنما هي واضحة بَيِّنة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء، وهي واحدة فذة ليس لها تعدد، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحَب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يعاب.
ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع، والغريب أنا نسير هذه السيرة ونذهب هذا المذهب في حياتنا العملية اليومية، ولكننا ننكر ذلك في ألفاظنا وعقائدنا ودخائل نفوسنا، فنتورط في نفاقٍ بغيض لا أستطيع أن أسيغه ولا أن أسكن إليه، إن كنا صادقين فيما نعلن ونسرُّ من بغض الحياة الأوروبية فما يمنعنا أن نعدل عنها عدولًا ونصد عنها صدودًا ونطَّرحها اطِّراحًا؟ وإن كنا صادقين فيما نقدم عليه كل يوم وفي كل ثني من أثناء حياتنا العملية من تقليد الأوروبيين ومجاراتهم، فما يمنعنا أن نلائم بين أقوالنا وأعمالنا وبين آرائنا وسيرتنا؛ فإن هذا النفاق لا يليق بالذين يكبرون أنفسهم ويريدون أن يرتفعوا بها عن النقائص والدنيات؟
نحن في حاجةٍ إلى قوة الدفاع الوطني فنحن بين اثنتين: إما أن نؤمن بحاجتنا هذه إيمان الذين يجدُّون ولا يهزلون، وإذَنْ فقوة الدفاع الوطني عندنا يجب أن تكافئ قوة ما نتعرض له من الهجوم، ومعنى ذلك أن جيشنا يجب أن يُنظَّم تنظيمًا أوروبيًّا، وأن شبابنا يجب أن يُعدُّوا لهذا الجيش كما يُعدُّ الشباب الأوروبيون لجيوش أوروبا، وأن ضباط هذا الجيش يجب أن يأخذوا من الثقافة بنفس الحظوظ التي يأخذ بها ضباط الجيوش الأوروبية، وأن عدة هذا الجيش يجب أن تكافئ عدة الجيوش التي يمكن أن تغير علينا، ومعنى ذلك أننا مضطرون إلى أن نُهيئ فريقًا من أبنائنا لصنع ما يمكن صنعه من هذه العدة عندنا، واستعمال ما لا نصنعه منها، وأن يكون الفنيون من أبنائنا في شئون الحرب على اختلافها كالفنيين من أبناء الأمم التي يمكن أن تغير علينا في يومٍ من الأيام.
ومعنى ذلك أن الدفاع عن حوزتنا والذياد عن حرمنا، والصيانة لاستقلالنا، كل ذلك يكلفنا ويفرض علينا أن نتهيأ لأمور الحرب كما يتهيأ لها الأوروبيون، وأن نوجِّه لونًا من ألوان التربية والتعليم عندنا نفس الوجه الذي يتجه إليه الأوروبيون عندما يهيئون أبناءهم للدفاع عن أرض الوطن.
هذه أشياء لا يجادل فيها مصري، ولعل حكومتنا تجد شيئًا غير قليل من الألم؛ لأن ظروف الحياة المادية لا تمكِّنها من أن تحقق آمال المصريين من هذه الناحية على النحو السريع الذي تريده.
فلو قال قائل: إنا قد ورثنا عن آبائنا وأجدادنا حرب الكر والفر، وهذه العدة التي تنحصر في السيف والرمح والقوس والسهم والدرقة والدرع، فلندع للأوروبيين نظامهم الحربي وما استحدثوا من ألوان السلاح وأدوات التدمير، ولنكتفِ بجيوشٍ تشبه في عُدَدِها وعَدَدِها جيش خالد بن الوليد أو جيش بيبرس …
لو قال قائل هذا الكلام للقيه المصريون جميعًا بالضحك والسخرية والاستهزاء، ولكان المحافظون وأنصار القديم أشد الناس التواء عليه وازورارًا عنه.
نحن إذَنْ نريد أن نضارع الأمم الأوروبية في قوتها الحربية لنرد عن أنفسنا غارة المغير ولنقول لأصدقائنا الإنجليز بعد أعوام: انصرفوا مشكورين فقد أصبحنا قادرين على حماية القناة، ومن أراد الغاية فقد أراد الوسيلة، ومن أراد القوة فقد أراد أسباب القوة، ومن أراد جيشًا أوروبيًّا قويًّا فقد أراد تربية أوروبية وتعليمًا أوروبيًّا يهيئان الشباب لتكوين الجيش القوي العزيز.
ونحن في حاجةٍ إلى استقلال اقتصادي ما يشك في ذلك شاكٌّ ولا يجادل في ذلك مجادل، بل نحن ندعو إليه، ونلح فيه، ونثقل على الحكومة بالدعاء والإلحاح، نطالبها بما تستطيع وما لا تستطيع، ونتعجلها إلى ما تملك وما لا تملك.
ونحن لا نريد الاستقلال الاقتصادي لنتمتع بمشاهدته والنظر إليه، وإنما نريده لنحمي به ثروتنا وأقواتنا كما نريد الجيش لنحمي به أرض الوطن، فهذا الاستقلال الاقتصادي يجب أن يكون استقلالًا اقتصاديًّا من الطراز الأوروبي؛ لأننا لا نريد أن نستقل في الاقتصاد بالقياس إلى الحجاز واليمن والشام والعراق، وإنما نريد أن نستقل في الاقتصاد بالقياس إلى أوروبا وأمريكا.
فكما أن وسائلنا إلى حماية أرض الوطن هي نفس الوسائل التي يصطنعها الأوروبيون لحماية أوطانهم، فوسائلنا إلى حماية الاقتصاد القومي هي نفس الوسائل التي يصطنعها الأوروبيون والأمريكيون لحماية ثروتهم، وإذَنْ فلا بد من أن نهيئ شبابنا للجهاد الاقتصادي على نفس النحو الذي يهيئ الأوروبيون والأمريكيون عليه شبابهم لهذا الجهاد، ولا بد من أن ننشئ المدارس والمعاهد التي تهيئ لهذا الجهاد على النحو الذي أنشأ الأوروبيون والأمريكيون عليه مدارسهم ومعاهدهم؛ لأن من أراد الغاية فقد أراد الوسيلة، وليس يكفي ولا يستقيم في العقل أن نريد الاستقلال ونسير سيرة العبيد.
ونحن نريد الاستقلال العلمي والفني والأدبي، هذا الذي يمكِّننا من أن نهيئ شبابًا قادرين على حماية الوطن؛ أرضه وثروته من جهة، وعلى إشعار الأجنبي بأننا مثله وأنداده من جهةٍ أخرى. هذا الذي يمكِّننا من أن نتحدث إلى الأوروبي فيفهم عنا، ومن أن نسمع للأوروبي فنفهم عنه، ومن أن نشعر الأوروبي بأننا نرى الأشياء كما يراها، ونقوِّم الأشياء كما يقومها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها، وإذَنْ فنحن نطلب منها مثل ما يطلب، ونرفض منها مثل ما يرفض، ونريد أن نكون شركاءه في الحياة وأعوانه عليها، لا خدمه ووسائله إلى هذه الحياة.
فإذا كنا نريد هذا الاستقلال العقلي والنفسي الذي لا يكون إلا بالاستقلال العلمي والأدبي والفني، فنحن نريد وسائله بالطبع، ووسائله أن نتعلم كما يتعلم الأوروبي، لنشعر كما يشعر الأوروبي، ولنحكم كما يحكم الأوروبي ثم لنعمل كما يعمل الأوروبي ونصرف الحياة كما يصرفها.
ونحن نريد آخر الأمر أن نكون أحرارًا في بلادنا، أحرارًا بالقياس إلى الأجنبي بحيث لا يستطيع أن يظلمنا أو يبغي علينا، وأحرارًا بالقياس إلى أنفسنا بحيث لا يستطيع بعضنا أن يظلم بعضًا أو يبغي على بعض.
نريد الحرية الداخلية وقوامها النظام الديمقراطي، ونريد الحرية الخارجية وقوامها الاستقلال الصحيح والقوة التي تحوط هذا الاستقلال.
فإذا كنا نريد هذا صادقين فنحن نريد وسائله من غير شك، ووسائله هي هذه التي مكَّنت للأوطان الأوروبية والأمريكية من أن تكون حرة في داخلها، مستقلة في خارجها، كريمة في نفوسها وفي نفوس الناس.
ومعنى ذلك أننا بين اثنتين: فإما أن نريد حياة الحرية والعزة وإذَنْ فلنسلك إليها السبل التي سلكتها الأمم الحرة العزيزة، وإما أن نريد حياة الذلة والاستعباد وإذَنْ فالأمر يسير، وهو أن نترك أمورنا فوضى تمضي كما تستطيع على غير نظامٍ وفي غير طريق.
ولكننا لا نريد هذه الثانية، وإنما نريد الأولى من غير شك، نريدها منذ أقدم العصور، وآية ذلك أننا لم ننسَ استقلالنا يومًا ما، ولم نُفنِ شخصيتنا الوطنية في جيلٍ من هذه الأجيال الكثيرة التي أغارت علينا، وإنما احتفظنا بهذه الشخصية دائمًا وطالبنا بهذا الاستقلال دائمًا، وقد أتيح لنا بفضل جهادنا في هذا العصر الحديث أن نردَّ لهذه الشخصية المصرية الخالدة حقها من العزة والكرامة والاستقلال.
فالحق علينا أن نحتفظ بما كسبنا، وألا نضيع ما فزنا به، وأن نحوط الاستقلال الذي استرجعناه، وننمي العزة التي كسبناها، وننشئ لمصر الحديثة أجيالًا من الشباب كرامًا أعزاء أُباة للضيم حُماة للحرم، لا يتعرضون لمثل ما تعرض له بعض أجيالنا السابقة من الذلة والهوان.
وسبيل ذلك واحدة لا ثانية لها، وهي بناء التعليم على أساسٍ متينٍ.