Wave Image

مقدمة

عرَف العالم العربي والإسلامي، منذ وقتٍ طويل، نُقَّادًا للاستشراق هاجَموه على أساسٍ ديني، وسعَوا إلى الدفاع عن الإسلام ضدَّ الصُّورة المُتَجنِّية التي رسمتْها له كتابات كثيرٍ من المُستشرِقين. ولكنَّ الأمر لم يقِف عند هذا الحد، بل إنَّ الكثيرين من هؤلاء النُّقَّاد قد جَمعوا في فئةٍ واحدة بين المُستشرِقين والمُلحِدين، أو بين المُستشرِقين وأعداء الإسلام أو الأمة العربية، وأصبح التعبير «افتراءات أو أكاذيب المُستشرِقين» من أكثر التَّعبيرات وُرودًا على الألسُن. وفي بعض الأحيان كان هناك وَعيٌ بأنَّ المُستشرِقين يَكيدون للإسلام وللعرَب كما يَكيد لهم المُستعمِر؛ أي إنه كان هناك وَعيٌ بالبُعد السياسي لموضوع الاستشراق، ولكن هذا البُعد السياسي كان في أغلب الأحيان يندرِج تحت البُعد الدِّيني ويتَّخِذ شكل عنصرٍ من عناصره؛ أعني جزءًا من الكلِّ الأكبر والأهم؛ فالحقيقة الكبرى، في نظَرِ هؤلاء النُّقَّاد، هي أنَّ كثيرًا من المُستشرِقين يُشاركون في مؤامرةٍ تستهدِف تجريح الإسلام وتشويه تعاليمه وتشكيك أبنائه فيه، وهي مؤامَرة قد يُنظَر إليها على أنها امتداد للحملة الصليبية على الإسلام، التي يَظلُّ هؤلاء المُستشرِقون مُمثِّلين مُتأخِّرين لها، أو على أنها انتقام من هزيمة أوروبا المسيحية على يد الإسلام العثماني. أو مُحاوَلة لوضع العوائق والسُّدود في وجه نهضةٍ إسلامية حديثة لو قامت لكان فيها تهديدٌ حقيقي لحياة المُجتمَعات التي ينتمي إليها هؤلاء المُستشرِقون.

كان النَّقد المُوجَّه إلى الاستشراق ظاهرةً قديمة إذن، وقد ظهر بوضوحٍ في بُعده الديني، أو في بُعده السياسي المرتكِز على الدِّين، في كتابات رُوَّاد النهضة العربية، وعلى رأسهم جمال الدين الأفغاني، ولم يتردَّد خلفاؤه من رُوَّاد الفكر الإسلامي الحديث، سواء أكانوا من الإصلاحيِّين أم من السلفيِّين، في خَوض المعارك ضِدَّ التصوير الاستشراقي للإسلام، وكانت هذه المعارك تحتلُّ قدْرًا غير قليلٍ من اهتمام الشيخ محمد عبده ورشيد رضا ومحمد فريد وجدي بل، إنَّ كلَّ مُفكرٍ إسلامي ذي شأن، منذ عهد هؤلاء الرُّوَّاد حتى جِيل العقَّاد ومحمود شاكر، قد أدلى بدَلْوِه في هذه المعركة، وظهرت في كتاباته، في لحظةٍ أو أخرى، ردودٌ تتفاوت عُنفًا، على حُجَج المُستشرِقين ودعاواهم، تدخل ضِمن إطار سَعيهم إلى صدِّ الهجمات على الإسلام وإزالة الشوائب عن صورته داخل البلاد الإسلامية وخارجها.

وعلى هذا يُمكن القول إنَّ نقدَ الاستشراق قد صاحَب عصر النهضة الفكرية الحديثة في العالم الإسلامي منذ بدايته. وكان مِحور هذا النقد دينيًّا دفاعيًّا، بالمعنى الذي تدلُّ عليه الكلمة الإنجليزية Apologetic. أمَّا العنصر السياسي فيه فكان غائبًا في كثيرٍ من الأحيان، وإذا وُجِد فقد كان هامِشيًّا يرتدُّ في نهاية الأمر إلى خِدمة الهدَف الديني. وهكذا فإن المَوجة الحالية في الهجوم على الاستشراق، التي كان أهمَّ معالمها كتابٌ أحرَز شُهرة واسعةً هو كتاب إدوارد سعيد، ليست جديدة في العالم العربي على الإطلاق. ولكن الجديد حقًّا هو أن الطابع السياسي-الحضاري قد أصبح المِحور الأساسي لهذا النقد الجديد. أمَّا الجانب الدِّيني فقد اختفى أو توارى إلى حدٍّ لم يعُد يُمثِّل معه إلَّا واحدًا فقط من عناصر هدفٍ سياسي حضاري أوسَعَ مدًى بكثير، أصبح الآن يُنسَب إلى الاستشراق، هو هدف مُساعدة العالَم الغربي في السيطرة على الشرق، بأوسع معاني هذه الكلمة. وهكذا فإن بؤرة الاهتمام، في هذا النقد الجديد، قد انعكست. ولم يكن ذلك بالأمر المُستغرَب؛ لأن الذين حملوا لواءه لم يكن يُتوقَّع منهم، بحُكم تكوينهم الثقافي، أن يكونوا دُعاةً دِينيِّين، وإنما هم أساسًا مُثقَّفون علمانيون، بل إن أهمَّهم، مثل أنور عبد الملك وإدوارد سعيد، مسيحيون، ومِنْ ثَمَّ كانت نظرتُهم إلى الإسلام سياسيةً حضارية في المحلِّ الأوَّل.

والأمر الذي ينبغي أن ننتبِه إليه هو أنه لم يكن هناك اتِّصال بين فِئتَي النُّقَّاد هاتين، ولم يكن من المُتَصوَّر أن يقوم بينهما أيُّ اتِّصال؛ ذلك لأنَّ لكلٍّ منهما مُنطلَقَها الخاص. وفي هذا المُنطلَق نواحي قوةٍ ونواحي ضعف. فالفئة التي تنقُد الاستشراق من منظورٍ إسلامي كانت تتميَّز بعُمق جُذورها الإسلامية، فضلًا عن حماستها الدِّينية المُتوقِّدة، ولكن كان يَعيبُها في كثيرٍ من الأحيان سطحِيَّة النظرة إلى أعمال المُستشرِقين وتأمُّلها من زاويةٍ واحدة، هي مُحتواها الدِّيني، بل إنَّ بعض أفرادها كانوا يُطلِقون على الاستشراق أحكامًا منقولة مُتسرِّعة لم تكن مَبنية على اطلاعٍ كافٍ ودراسة مُتأنِّية، وهؤلاء هم في الغالِب ممَّن يفتقِرون إلى ثقافةٍ أجنبيَّة تُتيح لهم معرفة أعمال المُستشرِقين في لُغاتها الأصلية، فضلًا عن عجزِهم التامِّ عن استِيعاب مناهج البحث الحديثة. أمَّا الفئة الأحدَثُ عهدًا، والتي تنقُد الاستشراق من منظورٍ علمانيٍّ مُرتكِزٍ على البُعد السياسي-الحضاري، فإن قُدرتَها على معرفة أعمال المُستشرِقين بصورةٍ مُباشِرة أعظم بكثير، كما أن في استطاعتها، بما درستْهُ وأتقنَتْهُ من مناهج البحث الغربية الحديثة، أن تخوض المعركة ضِدَّ المُستشرِقين بأسلحةٍ مُتكافئة، ولكن يَعيبُها في مُعظم الأحيان ضَعف الإلمام بالتُّراث الشرقي ذاته، والافتقار إلى جُذورٍ عميقة في الثقافة الإسلامية، لا بالقياس إلى النُّقَّاد الإسلاميِّين فحسب، بل بالقياس أيضًا إلى المُستشرِقين أنفسهم.

وهكذا فإن نُقَّاد الاستشراق من مُنطلَقٍ إسلامي تقليدي تنقُصهم في أغلب الحالات — ولا أقول في جميع الحالات؛ لأنَّ هناك دائمًا استثناءات هامَّة — المعرفة الكافية بالمَصدَر الذي ينبُع منه الاستشراق ذاته؛ أعني بالحضارة التي انبَثقَ منها الاستشراق من حيث هو مَبْحثٌ علمي، وبالمناهج التي تُتَّبَع في أبحاثه. والدلالة الحقيقية لنواتج هذا المَبحث. أمَّا نُقَّاده من المُنطلَقِ السياسي الحضاري فينقُصهم الإلمام الكافي بالموضوع الذي يتحدَّث عنه المُستشرِقون، ومِنْ ثَمَّ كانت تفاصيل ذلك التُّراث الشرقي الذي يُريدون أن يَصدُّوا هجمات المُستشرِقين عليه، مجهولة لدَيهم إلى حدٍّ بعيد. وهكذا فإن الفِئتين لم تلتَقِيا؛ لأنَّ كلًّا منهما تسير في خطٍّ يزداد تباعُدًا عن الأخرى. وأغلب الظنِّ أنَّ كلًّا منهما لم تَطَّلِع على أعمال الأخرى إلَّا في أحوالٍ نادرة، بالرغم من أنهما يُحارِبان، نظريًّا، معركةً واحدة ضِدَّ خصمٍ واحد، بل إن الأرجح عندي أنَّه لو أُتيحت لأفراد إحدى الفئتين فرصة الاطلاع على أعمال الفئة الأخرى، لما وَجدوا فيها ما يُعينُهم في معركتهم، وربما نظروا إليها بعينٍ مُرتابة وأدرَجُوها ضِمن فئة الخُصوم؛ إذ يرى الإسلاميُّون في النُّقَّاد العلمانِيِّين نفس العيوب التي يرونَها في المُستشرِقين، أعني الإفراط في العلمانية نتيجةً للتأثُّر بأساليب التفكير الغربية. والوقوع في أسْرِ المُصطلَح الأجنبي الدخيل والمنهجية المُستمَدَّة من تراث الغرب بوجهٍ عام. أمَّا العلمانيُّون فيرَون أنَّ أعمال الإسلاميِّين ترسُم صورةً للشرق لا تَقلُّ في تشويهها عن تلك التي يرسُمُها المُستشرِقون له، مع فارقٍ واحد، هو أنَّ التشويه في الحالة الأولى جاء نتيجة التحمُّس الزائد، بينما نجَمَ في الحالة الثانية عن التحامُل المُفرِط.

وهكذا تتَّسِم الكتابات الحالية عن الاستشراق بأنها في أغلب الأحيان أُحادية الجانب. ولستُ أعني بذلك أنها تتجاهَل أيَّ جانبٍ آخر في موضوع الاستشراق، وإنما أعني أن تركيز فئةٍ منها على الجانب الدِّيني يَمنعُها من أن تُدرِك بوضوحٍ الأبعاد السياسية والحضارية للمُشكلة وتُعطيها ما تستحقُّه من أهمية، على حين أنَّ إرجاع الفئة الأخرى مُشكِلات الاستشراق كلها إلى العامل السياسي الحضاري يَحُول بينها وبين عمل حسابٍ كافٍ للبُعد الدِّيني. وأعتقد أنَّ المُعالَجة الشاملة لمُختلِف هذه الجوانب، بطريقةٍ مُتساوية في الأهمية، هي إحدى النقاط التي تُبرِّر في نظرنا إضافة هذا البحث الجديد إلى سَيلِ البحوث التي تدفَّقَتْ أخيرًا حول هذا الموضوع.

على أنَّ هناك سِمةً أخرى، ربما كانت أخطر شأنًا من السابقة، يختلِف فيها هذا البحث عن بَقيَّة البحوث التي ظهرتْ في هذا الموضوع، هي أنَّه لا يكتفي بالسير في اتِّجاهٍ واحد، إذا جاز هذا التعبير، وإنما يسير في اتِّجاهين، وربما في ثلاثة. فالأبحاث الحالية تُعالِج موضوع الاستشراق من زاوية نظرة الشرقي إلى ما يَكتُبه الغربيُّون عنه وعن ماضيه وحاضره. ولكن يبدو في نظرنا أن هذه المُعالَجة تغدو أخْصَبَ بكثيرٍ لو ارتبطَتْ ببحثٍ مُقارَن يدرُس، في كل حالة، نظرَتَنا نحن إلى الغرب ويُقارِن أخطاءهم بأخطائنا، وتَحيُّزاتهم بتَحيُّزاتنا. بل إننا سوف نجِد أنفسنا، في أحيانٍ كثيرة، مُضطرِّين إلى إجراء مُقارَنةٍ أخرى بين نظرة الغرب إلينا ونظرتنا نحن إلى أنفسنا، فنُضيف بذلك بُعدًا ثالثًا إلى الموضوع. ولو كُنَّا ممَّن يَميلون إلى استِكمال تناسُق البناء الشكلي وتحقيق «التماثل Sysmmetry» الكامل، كما يفعل الفلاسِفة أصحاب المذاهب عادةً؛ لأضَفْنا بُعدًا رابعًا، هو نظرة الغرْب إلى نفسه، حتى تكون الأركان الأربعة قد اكتملت: الشرق في نظر الغرب، والغرب في نظر الشرق، والشرق في نظر ذاته، والغرب في نظر ذاته. غير أنَّ هذا البُعد الأخير، على الرغم ممَّا فيه من خُصوبة، وما يُمكن أن يُلقِيَه من أضواءٍ على موضوع بحثِنا، سوف يفتَح أمامنا أبوابًا تبلُغ من التَّشعُّب حدًّا قد يُهدِّد بضَياع معالِم الهدف الأصلي، ومِنْ ثَمَّ فقد آثَرْنا أن نَستبْعِدَه. وهكذا تتبقَّى الأبعاد الثلاثة الأخرى لكي تُشكِّل مُعالَجةً لموضوع الاستشراق ضِمن إطار بحثٍ أوسَعَ في مُشكلات الالتقاء بين الحضارات، وهو الإطار الذي يُلقي أضواءً عظيمة الأهمية على موضوعٍ يَستحيل أن تَستبين مَعالِمُه بوضوحٍ ما دام يُبحَث بصورةٍ مُنعزِلة، أعني من زاوية التركيز على أخطاء أو تَحيُّزات النظرة الغربية — علمية كانت أو غير علمية — إلى الشرق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤