جزيرة السمك واللؤلؤ!
كانت الطائرة قد ارتفعت بهم إلى عَنان السماء عندما جاء صوت مذيعة الطائرة تقول: إن الكابتن «رحباني» وطاقم الطائرة يتمنَّون لكم رحلةً سعيدة. إننا الآن على ارتفاع ٣٠ ألف قدم فوق سطح البحر، وسوف نقطع الرحلة في حوالي ساعتَين، وهذه هي الرحلة رقم ٧٤٣ لشركة الخطوط الجوية اللبنانية.
كان الشياطين يستمعون إلى المذيعة دون أن يركِّزوا على شيء ما؛ فكثيرًا ما ركبوا خطوط الطيران … وكثيرًا ما استمعوا إلى هذه الجملة التقليدية التي تُقال مع كل رحلة. فقط يتغيَّر رقم الرحلة. كان كل واحد منهم يفكِّر في طول الرحلة التي سوف يستغرقها الطيران. وكان «أحمد» يستعرض زملاء المغامرة الذين وقع عليهم الاختيار؛ «فهد» و«باسم» و«قيس» و«إلهام». لقد فكَّر بعضَ الوقت قبل أن يوافق على اختيار «إلهام»؛ فمنذ مدة لم تخرج واحدة من الشياطين في مغامرة ما. لكن الواقع أن وجود أيٍّ منهن كان يساعدهم كثيرًا؛ فهن لسن فقط قادراتٍ على الصراع، بل إنهن أيضًا وبوصفهن فتيات، يمكن أن يكون لديهن عمل يلائمهن.
نظر «أحمد» إلى «إلهام» فوجدها مشتبكةً في حوارٍ مع جار لها. ابتسم «أحمد» وهو يقول بينه وبين نفسه: «اكسب صديقًا في كل مرة.» هذه هي القاعدة التي يسير عليها الشياطين؛ فأصدقاء السفر هم أحسن مصدر للمعلومات.
في نفس الوقت كان بقية الشياطين يفعلون نفس الشيء، أمَّا «أحمد» فقد كان يقرأ كتابًا عن المحيط الهادي. وتوقَّف «أحمد» عند نقطةٍ بعينها هي تلك التيارات التي يموج بها المحيط؛ فهناك التيار الاستوائي الشمالي، والاستوائي الجنوبي، والتيار الأسترالي الشرقي، وتيار همبولت، أو بيرو، وتيار اليابان، وتيار كاليفورنيا، وكل هذه التيارات تتسمَّى بالمناطق التي تأتي منها.
شرد قليلًا يفكِّر في تلك التيارات التي يمكن أن تكون مغامرةً أخرى غير مغامرة العباقرة؛ فالمؤكَّد أنهم لن يستطيعوا استخدام الطيران، فلا بد لهم من وسيلة غير مرئية، ولا بد أن تكون أعماق المحيط.
أخذ يقلِّب في الكتاب حتى توقَّف عند معلومات قرأها: مساحة المحيط الهادي تبلغ ١٨١ مليونًا و٢٠٠ ألف كيلو متر مربع. ويبلغ طوله ألفًا و٦٩٩ كيلومترًا، ويبلغ عرضه ١١ ألفًا و٦٣٢ كيلومترًا، أمَّا متوسِّط عمقه فيبلغ ٤٢٧٠ مترًا. إن هذا يعني في النهاية أنهم سوف يصارعون عالَمًا غريبًا عليهم، وسوف لن تكون الأعماق ولا التيارات هي كل عناصر الصراع؛ فأعماق المحيط تزخر بعشرات الأحياء الضخمة والقاتلة في نفس الوقت. إنها مغامرة مركَّبة إذن.
أغلق «أحمد» الكتاب، وظلَّت عيناه ترقبان قطعان السحب السابحة في الفضاء أسفل الطائرة. نظر في ساعة يده، ثم فكَّر: إن بداية الليل هو بالنسبة لنا نهاية الرحلة حيث ننزل في «طوكيو»؛ فقد تعدَّدت المطارات التي نزلوا فيها؛ مطار بيروت، ثم مطار نيودلهي، ثم هونج كونج، وأخيرًا طوكيو.
كانت رحلةً مرهِقة؛ فلم يرتاحوا فيها لحظة. كان همهم أن يصلوا إلى نقطة النهاية حتى تبدأ المغامرة. وعندما ضمَّهم أخيرًا فندق «كيوتو» المتوسِّط الحجم، ألقَوا أنفسهم في المقاعد الوثيرة، والْتقت أعينهم في غير رغبة في أي كلام. كان واضحًا أنهم يحتاجون إلى بعض الوقت حتى يستردُّوا أنفاسهم وقواهم، ثم يبدأ الكلام.
غير أن «أحمد» لم يكن كذلك؛ فقد بسط أمامه خريطة، حتى إن «فهد» قال: أظن أن المحيط يمكن أن ينتظرنا.
وعلَّقت «إلهام»: أو أن العباقرة لن يعرفوا ساعة وصولنا الآن.
كان «أحمد» لا يزال مستغرقًا في الخريطة فوضع يده على مجموعة جزر هي مجموعة «ميكرونيزيا»، وهي المجموعة التي تضم جزر «مارياناس» التي يصل إليها الخط الملاحي من «طوكيو»، وتضم أيضًا جزيرة «ويك» التي لا يربطها بغيرها من الجزر أي وسيلة اتصال. في الجانب الآخر من الجزيرة كانت هناك جزيرة «جونستون»، ورغم أنها أقرب الجزر إلى جزيرة «ويك»، إلا أنها لا تربطها بها أي وسيلة اتصال.
فكَّر «أحمد» بسرعة: إن الطريق يمكن أن يكون بالطريق الملاحي من «طوكيو» إلى «مارياناس»، ثم نتحرَّك من «مارياناس» إلى «ويك»، على أن تكون «جونستون» هي القاعدة التي ننطلق منها، ونعود إليها، إذا احتاج الأمر.
عندما توصَّل إلى خطة متكاملة أغلق الخريطة، ثم أسرع ليأخذ دشًّا ساخنًا يستعيد به نشاطه. وعندما أبدل ملابسه كان بقية الشياطين في انتظاره.
طرح «أحمد» أمامهم فكرته التي كوَّنها عن تحرُّكهم والتي يجب أن تبدأ في الصباح مباشرة. استمعوا له في تركيز، حتى إذا انتهى من كلامه قال «فهد»: إنها خطة جيدة بالتأكيد، لكننا في النهاية لم نحدِّد هدفًا.
نظر له الشياطين في تساؤل فقال: يبدو أنني لم أشرح وجهة نظري جيدًا. لقد قال رقم «صفر» إن أمامنا خيطَين؛ إمَّا أن ننسف «نادي العباقرة»، أو نستطيع القبض عليهم.
أسرع «أحمد» يقول: هذه مسألة تحدِّدها ظروف الصراع.
قال باسم: إذن نحن في حاجة إلى شيئَين؛ أن نصل إلى «مارياناس»، ثم إلى «جونستون». ومن هناك نحتاج إلى وسيلة دائمة معنا، هي تلك التي نتحرَّك بها.
ردَّت «إلهام» بسرعة: أظن أن عملاء رقم «صفر» سوف يوفِّرون لنا هذا كله.
ابتسم «أحمد» ابتسامةً هادئة، ثم رفع سماعة التليفون القريبة منه وأدار القرص. انتظر لحظةً وقال: «النقطة نون» تتحدَّث.
جاءه الصوت الآخر مُرحِّبًا، ثم أخذ يشرح له مكالمة رقم «صفر» التي وصلته منذ بداية النهار. وقال في النهاية إن أماكنكم محجوزة على الباخرة التي تغادر «طوكيو» إلى «مارياناس» في التاسعة، وهناك سوف تتصلون بعميلنا الذي سيكون قد جهَّز لكم ما تحتاجونه. إن الفندق الذي سوف تنزلون فيه هو فندق «ساند» … إنني تحت أمركم.
انتهت المكالمة، فشكره «أحمد» ونقل إلى الشياطين ما دار بينهم.
قال «قيس»: إذن أنا في حاجة إلى النوم الآن. وفي أقل من ثلاث دقائق كان الشياطين يغطُّون في نوم عميق.
يتمتَّع الشياطين اﻟ «١٣» بالقدرة على النوم السريع في شتَّى الظروف. إنهم يملكون القدرة على الاستغراق في النوم عندما يقرِّرون ذلك.
وهذه مسألة تمَّت بعد تمارين طويلة أجرَوها في المقر السري. إنها مثل تمارين إطلاق الرصاص، أو الكاراتيه، أو أي من المهارات التي يملكها الشياطين. في نفس الوقت فهم لا يحتاجون إلى كمية نوم كبيرة. إن ساعاتٍ قليلةً من النوم العميق تجعلهم في منتهى النشاط؛ ولذلك ففي نفس اللحظة والتي كانت الشمس تُشرق فيها على المحيط الهادي كان الشياطين يؤدُّون تمارين الصباح، حيث تتهادى إليهم من النافذة العريضة مع نسمات الصباح النقية؛ فبعد ساعات تمتلئ شوارع «طوكيو» بآلاف من السيارات التي تجعل الهواء لا يطاق …
وعندما استعدُّوا جميعًا نزلوا بسرعة إلى قاعة الطعام، حيث تناولوا الإفطار وعرفوا أن أوتوبيس الفندق سوف ينقُل مجموعةً من السياح في طريقهم إلى الميناء للذهاب إلى جزر «مارياناس». كانت هذه فرصةً طيبة، حتى إن «إلهام» ابتسمت وقالت: اكسب صديقًا في كل مرة.
ابتسم الشياطين وأخذوا طريقهم إلى الأوتوبيس الذي كان يقف أمام باب فندق «كيوتو». انتشر الشياطين في أرجاء الأوتوبيس، كلٌّ منهم يجلس بجوار أحد السياح الذين كانت تجمعهم جنسيات متعدِّدة؛ منهم الأمريكي والإنجليزي، والفرنسي، وقليل منهم من أمريكا اللاتينية.
انطلق الأوتوبيس، وأخذ المذيع الداخلي يشرح للسيَّاح ما يرونه من مشاهد؛ ولذلك لم تكن هناك فرصة لأي من الشياطين أن يبدأ حوارًا مع جاره. وكان المذيع الياباني يتحدَّث بعدة لغات؛ فكان يقول المعلومات بالإنجليزية، ثم يُعيدها بالفرنسية.
لفت نظرَ الشياطين تلك الأعداد الضخمة من السيارات التي تجري في شوارع «طوكيو»، ومع ذلك فلم يكن هناك أي نوع من الزحام. إن النظام يُسيطر على كل شيء. كان منظرًا بديعًا فعلًا، تلك الأعداد الكبيرة التي تنطلق في تناسق بديع. كذلك الطرق المعلَّقة التي تتحرَّك فوقها السيارات، فتبدو وكأنها مدينة أخرى فوق المدينة.
في النهاية وصلوا إلى الميناء. لم يكن ميناءً كبيرًا. كان ميناءً صغير الحجم، وكان عدد البواخر الراسية فيه يُعَد على أصابع اليد الواحدة.
قال المذيع: إن هذا ليس هو الميناء الكبير. إنه ميناء خاص بالخطوط الملاحية الداخلية، وهذا يسهِّل حركة المواصلات إلى حدٍّ كبير.
في دقائق كانوا جميعًا قد استقلُّوا باخرةً متوسطة الحجم ارتفع صوتها في الفضاء فتردَّد صداه. ولم تمضِ دقائق أخرى حتى كانت الباخرة تغادر الميناء في هدوء وهي متجهة إلى عُرض المحيط الهادي. تناثر السيَّاح فوق سطح الباخرة حيث كانت الشمس تغطِّي كل شيء، وكان سطح المحيط يبدو وكأنه مرآة عاكسة تلمع تحت سقوط أشعة الضوء.
وعندما ابتعدت الباخرة عن الميناء جاء صوت مذيعها الداخلي يقول: إن القبطان «كاماكي» يتمنَّى لكم رحلةً طيبةً إلى جزر «مارياناس» التي نصلها بعد أربع ساعات. إننا نسير بسرعة ثلاث عقد في الساعة، وسوف تصبح خمس عقد بعد نصف ساعة أخرى؛ حتى نستطيع أن نقطع المسافة في الوقت المحدَّد. إن التقارير الجوية تقول إن الجو اليوم صحو، وإنه لا مجال لرياح عالية، أو حتى مجرَّد سحب ثقيلة. ونرجو أن تستمر الرحلة في هدوء.
صمت المذيع قليلًا، ثم بدأ يتحدَّث إليهم عن مجموعة جزر «مارياناس»، وعن حالة الجو فيها، وعن التيارات الدافئة التي تمر حولها فتجعلها مثل حمامات البخار، أو تلك التيارات الباردة التي تجعلها مثل ثلاجة منخفضة الحرارة. وضحك السياح وهم يسمعون تلك التعليقات. وعندما انتهى المذيع من حديثه الضاحك كان السياح قد شرد كلٌّ منهم في الأفق الأسود البعيد، وكأن كلًّا منهم يعرف أحدًا هناك. في نفس الوقت الذي كانت فيه طيور النورس البيضاء تطير حول السفينة وكأنها تقوم بنوبة حراسة لها. ولم يكن أمام الشياطين إلا أن يجتمعوا معًا.
إن الرحلة كانت أمتع من أن يقطعوها على أي سائح؛ فكلٌّ منهم أتى من أجل هذا الهدوء النفسي الذي يسيطر على الجميع.
قال «فهد» في هدوء: إننا في حاجة إلى رحلةٍ تجمع الشياطين كلهم، رحلة بلا مغامرة.
ابتسم «قيس» وقال: لا أظن أننا سوف نستمتع بها؛ فإننا سوف نخترع مغامرةً حتى يكون للرحلة طعم.
ابتسموا جميعًا وقال «باسم»: إن متعة الشياطين الحقيقية هي المغامرة.
انقضت الساعات في هدوء حتى لاحت الأرض من بعيد، وقال مذيع الباخرة: هذه مجموعة جزر «مارياناس»، وهي متناثرة في مساحة تبلغ أكثر من ميلَين. أكبرها جزيرة «مارياناس» الكبرى. وسُكَّان الجزر يعملون بالصيد؛ فهي تكاد تكون قاعدةً للصيد وتربية اللؤلؤ.
اقتربت جزيرة «مارياناس» الكبرى، وظهرت قوارب الصيد، ومجاميع الصيادين. كان منظرًا بديعًا فعلًا. وعندما ألقت الباخرة مراسيها، وبدأ السيَّاح يتقافزون، كان الشياطين يفكِّرون في شيء واحد؛ الوصول إلى فندق «ساند»؛ ولذلك فقد تركوا السيَّاح وتجمُّعهم وأسرعوا في الاتجاه إلى بوابة الميناء، وأمامها كانت عربات «الركشة» التي يجرُّها الإنسان لا تزال تُستخدم في الجزيرة. لقد كانت «الركشة» وسيلةً من وسائل المواصلات قديمًا، لكنها اختفت مع التقدُّم الكبير الذي تقدَّمه اليابان. لكن في مثل تلك الجزر التي تعتمد في بعض جوانب حياتها على السياحة، فإن الوسيلة القديمة لا تزال مستخدمة.
قال «أحمد» معلِّقًا: إنها مثل «الحنطور» في القاهرة. إنه يثير السيَّاح … بخطواته الوئيدة المريحة، وشكله القديم المأخوذ من العربات الفرعونية القديمة.
اقترب الشياطين من أحد أصحاب عربات «الركشة»، وسألوه عن الفندق، فابتسم الرجل وأشار إليهم أن يركبوا. ركب كل اثنَين في عربة وانطلقوا في شوارع الجزيرة. لم تكن كبيرةً بما يجعل المسافات بعيدة؛ ففي خلال عشر دقائق كانت عربات «الركشة» تقف أمام فندق «ساند».
أعطى «أحمد» للسائقَين أجور العربات، ثم أخذوا طريقهم إلى داخل الفندق. عندما اقترب «فهد» من موظَّف الاستعلامات نظر له الشاب مبتسمًا وقال: هل أنتم الأصدقاء الخمس؟
ابتسم «فهد» فقد عرف أن عميل رقم «صفر» قد أعدَّ كل شيء …
عندما أخذوا أماكنهم في حجراتهم دقَّ جرس التليفون، وعندما رفع «قيس» السمَّاعة كان هناك صوت هادئ يهنِّئهم بسلامة الوصول وهو يقول: إن كل شيء جاهز.
تحدَّث «قيس» بعض الوقت، ثم شكره وانتهت المكالمة. نقل للشياطين ما دار بينهم وبين العميل، ثم قال في النهاية: في السابعة مساءً سوف يكون «السهم» في انتظارنا.
نظرت «إلهام» في دهشة وهي تسأل: «السهم»؟
قال «أحمد»: نعم. «السهم» الذي ننطلق به إلى مغامرتنا.
هكذا قضَوا الوقت في أحاديث مختلفة حتى اقتربت الساعة من السابعة، فدقَّ جرس التليفون وجاءهم الصوت يقول: إن «السهم» عند النقطة «ق» على بُعد خمس دقائق.