الشجرة المنطاد
١
قال الكولونيل:
ركبنا الجياد لعدَّة ساعات، من الساحل مباشرة نحو قلب الجزيرة. كانت الشمس توشك على المغيب، حين غادرنا السفينة. لم نشعر بنسيمٍ يُذكَر، لا في البر ولا في البحر. كان الصهد يخيِّم على كل شيء، وظَلَّلتْ سحاباتٌ نحاسية اللون سلسلة التلال المنخفضة التي تبعُد عدة أميال إلى الداخل. قال بريري: «رياح!» فهزَّ كيلوا رأسه.
ظهرت آثار الجفاف الطويل الممتد، على النباتات من كل الأنواع. كانت العين تزوغ بين الشجيرات الصغيرة المصفرَّة اصفرارًا مَرَضيًّا — التي بلغت منها شدة الجفاف، في بعض الأماكن، حدَّ أن تكسَّرت أوراقها وسيقانها تحت سنابك الخيول — وبين الأشجار العطشى ذات اللون البني المصفر، التي حفَّت طريق الدواب. لم يكن ثمة شيء نامٍ أخضر اللون، إلا الصبار ذا الأوراق الجرسية الشكل، القادر على الازدهار في أصعب الظروف، ولو في فوهة بركان ثائر.
انحنى كيلوا عن ظهر الحصان، واقتلع الجزء العلوي من إحدى هذه النباتات الممتلئة بالعُصارة، وكان حجمها مشابهًا لحجم الكمثرى التي تنمو في كاليفورنيا. سحق الورقة الجرسية الشكل بقبضة يده، والتفت إلينا، ليقذف في وجوهنا الساخنة بضع قطرات من مائها، تبعث على الامتنان.
ثم شرع الدليل يتحدث بسرعة بلغته المكونة من حروف متحركة وأخرى ساكنة. وتولى بريري مسئولية الترجمة لي.
أحَبَّ الإله لالالا امرأةً من الجزيرة. أتى إليها على شكل نار. أما هي، فلاعتيادها على درجات الحرارة العادية، لم ترتجف إلا قبل اقترابه منها. ثم خطب ودَّها على شكل زخَّة من المطر، وفاز بقلبها. كان كاكال إلهًا أقوى من لالالا، لكنه خبيث إلى أقصى درجة. طمع هو أيضًا في هذه المرأة التي كانت فائقة الجمال. لكن إلحاح كاكال ذهب سُدًى. وانتقامًا منها حوَّلها إلى صبارة، وغرَسها في الأرض تحت الشمس الملتهبة. لم يملك الإله لالالا من القوة ما يمنع به ذلك الانتقام، لكنه ظل ملازمًا للمرأة الصبارة، على هيئة زخات من المطر، ولم يتركها قط، حتى في أشد الفصول جفافًا. ولأجل ذلك، فإن الصبار ذا الأوراق الجرسية الشكل يُعد نبعًا لا ينضب للمياه العذبة الباردة.
بعد حلول الظلام بوقت طويل، وصلنا إلى القناة التي كانت المياه تجري فيها في السابق، لكنها جفَّت، وقادنا كيلوا لمسافة عدة أميال، على امتداد مجراها الجاف. كنا متعَبين للغاية، حينما طلب منا الدليل الترجُّل. ربط الخيول المتعَبة، ثم اندفع عبر الدغل الكثيف على الضفة. قطعنا مائة ياردة بشق الأنفس، حتى وصلنا إلى كوخ متهالك، ذي سقف من قش. رفع الهمجي كلتا يديه على رأسه، وأطلق لحنًا موسيقيًّا مصطنعًا، قريب الشبه بألحان قاطني الجبل. أخرجت هذه الصيحة ساكن الكوخ، الذي سلط عليه بريري ضوء المصباح. كان الساكن امرأة عجوزًا، لها مظهر قبيح، إلى درجة تفُوق ما يمكن تخيُّله في أسوأ الأحلام.
هتف كيلوا: «أومانانا جيلال!»
ترجم بريري: «مرحبًا أيتها المرأة التقية!»
دار حديث طويل بين كيلوا والعجوز الشمطاء التقية، باحترامٍ من جانبه، وبتعالٍ أخلاقي ونفاد صبر من جانبها، في حين أنصت بريري بانتباه بالغ. قبض على ذراعي عدة مرات، كما لو كان غير قادر على كبح توتره. بدا أن المرأة مقتنعة بحجج كيلوا، أو أن توسلاته ألانت قلبها. أشارت أخيرًا إلى جهة الجنوب الشرقي، وهي تتلفظ على مهل ببضع كلمات، كان من الواضح أنها أثلجت صدور رفاقي.
كان الاتجاه الذي أشارت إليه المرأة التقية لا يزال في جهة التلال، لكنه ينحرف بعشرين أو ثلاثين درجة إلى يسار الاتجاه العام الذي سلكناه منذ غادرنا الساحل.
صاح بريري: «أسرعوا! أسرعوا! ليس لدينا وقت نضيعه.»
٢
ركبنا خيولنا ليلتنا كلها. ومع شروق الشمس، أخذنا استراحة لم تتعدَّ عشر دقائق، لتناول طعام الإفطار الهزيل الذي كنا نحمله في أجربتنا، ثم عدنا لامتطاء جيادنا، شاقِّين طريقنا عبر دغل كان يزداد وعورة أكثر فأكثر، وتحت شمس كانت حرارتها تزداد التهابًا.
أخيرًا قلتُ لصديقي قليل الكلام: «لعلك لا تمانع الآن إخباري بالسبب الذي يحمل شخصين متحضرين، وآخر همجيًّا لطيفًا، على خوض غمار هذه الغابة اللعينة، كما لو أنهم يؤدون مهمةَ حياةٍ أو موت!»
قال: «أجل، من الأفضل أن تعرف.»
أخرج بريري من جيب قميصه الداخلي خطابًا قُرئ وأُعيدت قراءته مرارًا حتى اهترأ. وتابع: «هذا خطاب من البروفيسور كويكفيرستش، من جامعة أوبسالا. وصلني وأنا في فالبارايسو.»
قرأ بريري بصوت خفيض خطابَ عالِم النبات السويدي العظيم، متلفِّتًا حوله بحذر، كما لو أنه يخشى أن تكون كل السراخس الشجرية في تلك البرِّيَّة الاستوائية مسترقة للسمع، أو أن تكون الأكمام الشبيهة بالقبعات، التي تغطي أشجار الكلاديوم العملاقة فوق رءوسنا، آذانًا تتربص لارتشاف سرٍّ عظيم من أسرار العلم.
كتب البروفيسور يقول: «ستُتاح لكم في هذه الجزر فرصة نادرة لبحث قصص استثنائية بعينها، أتاحها لي منذ سنواتٍ المبشر اليسوعي بيوتو، بخصوص الشجرة المهاجرة، شجرة الصبار التي عُني بها جانسين ومفكرون آخرون متخصصون في علم وظائف الأعضاء.
يزعم المستكشف سبور أنه رآها، لكن ثمة سبب قوي، كما تعلم، يجعلنا نتعامل مع جميع مزاعم سبور بحذر.
لكن الأمر اختلف بعد تأكيدات مراسلي الموثوق الأخير، المبشر اليسوعي. كان الأب بيوتو عالم نبات محنكًا، وراصدًا دقيقًا، ورجلًا شديد التقوى والورع. لم يسبق أن رأى الشجرة المهاجرة قط، لكن خلال زمن عمله الطويل في ذلك الجزء من العالم، جمع من مصادر مختلفة ومتنوعة عددًا كبيرًا من الشهادات التي تفيد بوجودها وبخصائصها.
أهو أمر لا يصدقه عقل يا عزيزي بريري، أن يكون هناك في مكان ما في نطاق الطبيعة، منظومة نباتية أعلى من الكرنب، دعنا نقول إن مثلها في ذلك مثل تفوُّق القردة على حيوان البَوْلَب البحري، من حيث التعقيد والإمكانات؟ إن الطبيعة متصلة؛ فلا نجد في أنظمتها أي ثغرات أو فجوات. قد يكون هناك روابط مفقودة في كتبنا وتصنيفاتنا وخزائننا، لكن العالم العضوي لا يحتوي على أي روابط مفقودة. أَوَليست كل المخلوقات الأدنى، تكافح للترقي للوصول إلى حالة من الوعي الذاتي وامتلاك الإرادة؟ خلال عملية التطور المتواصلة، والتمايز، وتحسُّن الوظائف المميزة، ما الذي يمنع أن يصل النبات إلى هذه الحالة، فيشعر ويريد ويفعل؛ أي باختصار: أن يحمل خصائص حيوان حقيقي ويمارسها؟»
تهدج صوت بريري من أثر الحماس وهو يقرأ ذلك.
تابع البروفيسور كويكفيرستش: «لا غرو أنك ستكون سعيد الحظ للغاية إن أنت عثرت على عينة من الشجرة المهاجرة التي وصفها بيوتو، ستجد أنها تمتلك نظامًا محددًا من الأعصاب والعقد العصبية الحقيقية، التي تشكل — في الحقيقة — ركيزة الذكاء النباتي. أهيب بك أن تتعمق جيدًا في دراساتك التشريحية لها.
وفقًا للدلائل التي أمدني بها الأب اليسوعي، فإن هذه الشجرة الاستثنائية، تنتمي إلى فصيلة الصباريات. أما جذورها فتكاد تكون بدائية، ما يمنحها ارتباطًا ضعيفًا بالأرض. ويمكن لهذا الارتباط أن ينفصم إراديًّا، لترتفع الشجرة عاليًا في الهواء، وتنتقل إلى مكان آخر من اختيارها، كأنها طائر يغير مسكنه. أعتقد أن هذه الهجرات، تتم بفضل خاصية إفراز غاز الهيدروجين، الذي تملأ به الشجرة إراديًّا عضوًا شبيهًا بالمثانة، يتكون من أنسجة بالغة المرونة، وبذلك ترفع نفسها عن الأرض، وتنتقل إلى مسكن جديد.
وأضاف بيوتو أن السكان المحليين لطالما عبدوا الشجرة المهاجرة، باعتبارها كائنًا خارقًا للطبيعة، وقال إن الغموض الذي أحاطوا به عبادتهم لها كان حجر العثرة الأكبر في طريق الدارسين.»
طوى بريري خطاب البروفيسور كويكفيرستش، هاتفًا: «هذا كل شيء! أَوَليست تلك مهمة تستحق المخاطرة أو التضحية بالحياة نفسها؟ لكي تضيف إلى الحقائق المسجلة حول مورفولوجيا النبات، الوجود المثبت بالأدلة لشجرةٍ تطوف، شجرة تمتلك إرادة، وربما قدرةً على التفكير؛ إنه مجد يستحق أن يُسعى إلى تحقيقه بأي ثمن! والراحل دو كندول من جنيف …»
صرخت فيه: «سحقًا للراحل دو كندول من جنيف!» إذ كان الجو شديد القيظ، وشعرتُ بأننا خرجنا في مهمة جنونية.
٣
كانت شمس اليوم الثاني من أيام رحلتنا توشك على المغيب، حينما أطلق كيلوا — الذي كان يركب متقدمًا إيانا بعدة قصبات — صيحة قصيرة، وقفز عن سرجه، وخرَّ إلى الأرض.
هرع بريري إليه في الحال. وتبعتُه بسرعة أقل؛ إذ كانت مفاصلي متيبسة للغاية، ولم أملك شيئًا من الحماسة العلمية لتليينها. كان بريري منكبًّا على يديه وركبتيه، يتفحَّص بتلهُّف ما بدا أنه اضطراب حديث في التربة. وكان الهمجي منبطحًا، يمرِّغ جبهته في التراب، كما لو أنه في حالة هيام ديني، ويترنم باللحن المصطنَع نفسِهِ، الذي سمعناه في كوخ المرأة التقية.
سألته: «أثر أيِّ حيوانٍ ذلك الذي عثرت عليه؟»
أجاب بريري بلهجة أقرب إلى الغضب: «لم أعثر على أثر أي حيوان! هل ترى هذا الكشط الكبير المستدير على سطح التربة، حيث وَطِئَها وزن ثقيل؟ هل ترى هذه الأغوار الصغيرة المتكوِّنة حديثًا في الأرض، وتشع من نقطة واحدة كأنها رءوس نجمة؟ إنها الآثار التي خلَّفتها جذورٌ نحيلة مُنتزعة من مغارسها السطحية. هل ترى تصرفات كيلوا الهستيرية؟ أقول لك إننا في طريقنا إلى العثور على الشجرة المقدسة. لقد كانت هنا، ولم يمضِ على ذلك زمن طويل.»
نزولًا على تعليمات بريري الحماسية، تابعنا المطاردة سيرًا على الأقدام. اتجه كيلوا جهة الشرق، واتجهتُ أنا إلى الغرب، وسلك بريري المسلك الجنوبي.
ولكي نغطي المنطقة بالكامل، اتفقنا على أن نسير في مسارات متعرجة تتسع تدريجيًّا، وأن نتواصل بعضنا مع بعض على فترات، من خلال طلقات نارية. ما كان بالإمكان وضع خطة أسخف من هذه؛ ففي غضون ربع ساعة، جُنَّ جنوني وفقدت اتجاهاتي في إحدى الأجمات. ولمدة ربع ساعة آخر، أطلقت رصاصات من مسدسي على نحو متكرر، ولم أحصل على أيِّ ردٍّ من الشرق ولا من الجنوب. قضيت ما تبقَّى من النهار في سعيٍ متخبط، لشق طريقي للعودة إلى المكان الذي كانت الخيول فيه، ثم غربت الشمس، تاركة إياي في ظلمة مفاجئة، وحيدًا في برِّيَّةٍ لها من الاتساع والخصائص ما لم يكن لديَّ أدنى فكرة عنه.
لن أضجرك بتفاصيل معاناتي طوال تلك الليلة، والنهار التالي، والليلة التالية، ونهار آخر. حينما كان يحل الظلام، كنت أهيم في الأرجاء بيأس أعمى، متشوقًا لضوء النهار، ودون جرأة على النوم أو حتى التوقف، وفي حالة رعب مستمر من المخاطر المجهولة التي تحيط بي. وفي النهار، كنت أتوق لليل، إذ كانت الشمس الحارقة تنفذ من خلال الأسطح الأشد كثافة التي وفرتها أوراق الأشجار الوارفة، وتدفعني إلى حافة الجنون. كانت المؤن في جرابي قد نفدت؛ فكانت زجاجة المياه الخاصة بي على السرج، وكنت سأموت من العطش لا محالة، لولا نبات الصبار ذي الأوراق الجرسية، الذي وجدته مرتين. لكن في تلك التجربة المريعة، لا عذاب الجوع والعطش، ولا عذاب الحر، كان يعدل بؤس التفكير في أن حياتي ستضيع فداءً لأوهام عالِم نبات مجنون يحلم بالمستحيل.
المستحيل؟
في عصر اليوم الثاني، بينما كنت لا أزال أهيم على وجهي في أنحاء الغابة، فقدتُ ما تبقَّى من قوَّتي وسقطتُ على الأرض. كان اليأس واللامبالاة قد أفسحا المجال منذ وقت طويل لرغبة عارمة في الفَناء. أغلقت عينيَّ بارتياح لا يوصف، وبدت الشمس الحارقة لطيفةً على وجهي، بينما غبتُ عن الوعي.
هل أتت إليَّ امرأة جميلة وحنون، وأنا أرقد مغشيًّا عليَّ، وأخذت رأسي في حجرها، وأحاطتني بذراعيها؟ هل ضغطت بوجهها وجهي، في همسة تدعوني إلى التحلي بالشجاعة؟ كانت تلك هي الفكرة التي سيطرت على عقلي، حينما كافحت للحظة للعودة إلى وعيي؛ وتشبثت بالذراعين الدافئتين الطريتين، وأُغْمِيَ عليَّ من جديد.
لا ينظرن أحدكم إلى الآخر ويبتسم، أيها السادة؛ ففي هذه البرِّيَّة القاسية، في حالتي البائسة، وجدتُ حنوًّا ورقَّةً لطيفة. وحينما عاد إليَّ وعيي مجددًا، رأيت أن شيئًا ما كان منحنيًا فوقي؛ شيئًا فخمًا لكن ليس جميلًا، إنسانيًّا لكن ليس إنسانًا، حنونًا لكن ليس امرأة. كانت الذراعان اللتان حملتاني ووضعتاني رطبتين، وكانتا تنبضان بنبض الحياة. وكان ثمة عطر حلو خفيف، يشبه رائحة شعر امرأة معطَّر. كانت اللمسة تربيتًا، والضمة احتضانًا.
هل يمكنني أن أصف شكلها؟ لا، ليس بالتحديد الذي قد يُرضي أمثال كويكفيرستش وبريري. رأيتُ أن الجذع كان ضخمًا، والفروع التي حملتني عن الأرض واحتضنتني بعناية ورفق، كانت مرنةً وموزَّعة بطريقة تناظرية. وكان فوق رأسي إكليل من أوراق الشجر الغريبة، يتوسطه انتفاخ قرمزي مبهر. وبينما كنت أراقب، نما الانتفاخ القرمزي، لكن المجهود المبذول في المراقبة كان أكبر من احتمالي.
تذكَّروا من فضلكم، أنه في ذلك الوقت، كان الإرهاق البدني والألم النفسي قد أوصلاني إلى مرحلة كنت أتنقل فيها بين فقدان الوعي واستعادته، بمثل سهولة وتكرار تقلُّب المرء المستمر بين السُّبات واليقظة، في ليلة من الحمَّى. أن تحبني صبارة وتعتني بي في عز ضعفي، بدا وكأنه الشيء الأكثر طبيعية في العالم. لم أبحث عن تفسير لذلك الحظ السعيد، ولم أحاول تحليله؛ قَبِلْته ببساطة كأنه أمر طبيعي، مثلما يقبل طفل عطيةً ما من جهة غير متوقعة. أما الفكرة الوحيدة التي سيطرت عليَّ فكانت أنني وجدتُ صديقًا مجهولًا، مفطورًا على عطفٍ أنثوي، ولطفٍ لا يُقاس.
وبحلول الليل، بدا لي أن الانتفاخ القرمزي فوق رأسي أصبح متضخمًا تضخُّمًا كبيرًا، إلى حدِّ أنه كاد يملأ السماء. هل كنت أُهدهَد بلطفٍ بواسطة الذراعين اللينتين اللتين كانتا لا تزالان تحملانني؟ هل كنا نُقلِع معًا طافيين في الهواء؟ لم أكن أعرف، ولم أكن أهتم. والآن، تخيلتُ أنني كنتُ في مهجعي على متن سفينة، يكتنفني موج البحر، الآن تخيلتُ أنني أشارك نوعًا من الطيور العظيمة التحليق، الآن تخيلتُ أنني أُحمَل عبر الظلام بسرعة مذهلة، بإرادتي الحرة. أثَّر الشعور بالحركة المتواصلة على كل أحلامي. كلما أفقت شعرت بنسيم بارد يلفح وجهي باستمرار؛ وهو أول نسيم هواء أشعر به منذ هبطنا. كنتُ سعيدًا على نحو غامض أيها السادة. كنتُ قد تنازلت عن كامل مسئوليتي عن مصيري؛ فقد صرت في حماية كائن ذي قوًى خارقة.
«زجاجة البراندي، يا كيلوا!»
كنا في وضح النهار. استلقيتُ على الأرض، وكان بريري يسند كتفي. ارتسمت على وجهه نظرة ذهول لن أنساها أبدًا.
صاح: «يا إلهي! كيف وصلتَ إلى هناك؟ لقد يئسنا من البحث منذ يومين.»
أعانني البراندي على تمالُك نفسي. وقفت على قدميَّ ونظرتُ حولي. كان السبب وراء دهشة بريري العارمة واضحًا من النظرة الأولى. لم نكن في البرِّيَّة، بل كنا على الساحل. كان هناك الخليج، والسفينة راسية على بُعد نصف ميل من الشاطئ. وكانوا قد بدءوا بالفعل يُنزلون قاربًا ليرسلوه إلينا.
وإلى الجنوب، كان في الأفق بقعة حمراء ساطعة، أكبر بقليل من نجمة الصباح؛ إنها الشجرة المنطاد تعود إلى البرِّيَّة. لقد رأيتها، ورآها بريري، ورآها كيلوا الهمجي. ظللنا نشاهدها حتى اختفت. شاهدناها بأحاسيس مختلفة كل الاختلاف: كيلوا أحس بمهابة خرافية، وبريري انتابه فضول علمي وخيبة أمل فادحة، وأنا امتلأ قلبي بالدهشة والامتنان.
وضعت كلتا يَدَيَّ على جبيني. لم يكن ذلك حلمًا إذن. الشجرة، التربيت، الاحتضان، الانتفاخ القرمزي، الرحلة الليلية عبر الجو؛ كل ذلك لم يكن صنيعة هذيان، ولا عرَضًا من أعراضه. سمُّوها شجرة، أو سمُّوها نباتًا حيوانًا، لقد كانت هناك! لندَعْ رجال العلم يتجادلون حول مسألة وجودها في الطبيعة؛ فما أعرفه هو ذا: لقد وجدَتْني وأنا مُشرِف على الموت، وحملَتْني لأكثر من مائة ميل، مباشرةً إلى السفينة حيث أنتمي. بعناية إلهية أيها السادة، أنقذ هذا الكائن النباتي الذكي والحساس حياتي.
عند هذه النقطة، نهض الكولونيل وغادر النادي. لقد تأثر كثيرًا. وبعد مدة وجيزة، دخل بريري، خفيفًا كعادته. التقط نسخة غير محررة من رحلات اللورد براجماتش في أرض كيرجيلون، وجلس على كرسيٍّ مُريح في زاوية المدفأة.
اقترب تراديز الشاب في تردد من الرحالة المخضرم وقال: «اعذرني يا سيد بريري، لكن أود أن أسألك سؤالًا عن الشجرة المنطاد. هل كانت هناك أسباب علمية للاعتقاد بأن جنسها كان …»
قاطعه بريري وقد بدا عليه السأم: «أوه، هل كان الكولونيل يختصك بهذه القصة الاستثنائية؟ هل شرفني مرة أخرى بقسط من المغامرة؟ نعم؟ حسنًا، هل أفلحت مغامرتنا هذه المرة؟»
قال الشاب تراديز: «لماذا؟ لا، لقد رأيتَ الشجرة آخر مرة، على هيئة بقعة قرمزية في الأفق.»
قال بريري، وقد بدأ يقطِّع أوراق كتابه بهدوء: «يا إلهي، فشلٌ آخر!»