نصيحة على فوهة بندقية
أسرع «بو عمير» يقفز مُختفيًا خلف الصخر، حتى لا يكون هدفًا واضحًا لمن يكون مُختفيًا في شقوق الجبل المتعرِّجة، وكان يفكر في الشيء الذي أضاء في جانب الجبل، ماذا يكون؟ ومن خلفه؟ وهل لهذا كله علاقة بوصولهم إلى جزيرة «سقطرى» …
وأخذ يقفز بخفة الغزال من صخرة إلى صخرة حتى وجد نفسه في قلب الجبل الساكن، ونظر إلى المياه من بعيد والقارب يقف في الخليج، وتصور أن القوة الغامضة، قد تستطيع في لحظة واحدة أن تُحيل القارب الكبير القوي إلى حطام، فاندفع إلى مكان الرجل، وبعد نحو نصف ساعة كان تقديره أنه قريب جدًّا منه، فأخذ يتنصَّت وينظر في مختلف الاتجاهات لعله يرى «الغطرة» الحمراء، وفجأةً أحسَّ بخطر مُبهَم يحُوم حوله فاستدار، ووجد الرجل يجلس خلفه موجهًا إليه بندقيته …
كان الرجل يجلس في فجوة مُحكمة، وقد اختفى تمامًا عن الرؤية، وتأكَّد «بو عمير» أن «أحمد» وبقية الشياطين لا يَرونه الآن ولا يرون الرجل، ونظر «بو عمير» إلى العينين الضيقتين الشبيهتَين بعينَي الثعبان، ثم قال مُتظاهرًا باللامبالاة: صباح الخير أيها الأخ!
لم يردَّ الرجل، وأخذ يمضغ شيئًا أخضر كالبرسيم بين شدقَيه، ولاحظ «بو عمير» أنه كلما تحرك حرك الرجل فوهة البندقية إلى صدره، فعاد يقول: لا أفهم لماذا تُوجِّه بندقيتك إلى صدري … إنني صديق!
لم يردَّ الرجل، وأحسَّ «بو عمير» ببعض الاضطراب، فماذا يريد هذا الرجل الصامت منه؟ وتحسَّس بطريقة لا شعورية الخنجر الذي معه، وسرعان ما كانت استجابة الرجل لهذه الحركة؛ فقد وضع يده على زناد البندقية … وسمع «بو عمير» تكة خفيفة عرف منها أن السلاح أصبح مُعدًّا للإطلاق عند أيِّ ضغط على الزناد.
وقف «بو عمير» حائرًا أمام الرجل، ماذا يفعل؟! إنه لا يردُّ، وهو يخشى إنِ استدار للعودة أن يُطلِق عليه الرجل الرصاص من الخلف، فوقف صامتًا، وأخيرًا نطق الرجل قائلًا: عودوا من حيث أتيتم!
تنفَّس «بو عمير» الصُّعَداء؛ فأخيرًا تحدَّث الرجل، وردَّ «بو عمير»: إننا أصدقاء جئنا لبحثٍ عِلمي عن تجمُّعات الأسماك!
ساد الصمت لحظات ثم قال الرجل: عودوا من حيث أتيتم.
ثم رفع البندقية إلى كتفه، ومضى يَمضغ الأعواد الخضراء، وفي عينَيه نظرة ثاقبة، ولم يكن أمام «بو عمير»، إلا أن يستدير ويمضي، ولم يكد يُدير ظهره للرجل حتى أحسَّ أن الرصاصة سوف تَنطلِق في هذه اللحظة؛ فقد كان هدفًا ممتازًا لطلقة قاتلة … ولكنه مضى ينزل الصخور دون أن تنطلق الرصاصة. حتى إذا وجد نفسه بجوار مُنعطَف في الصخور أسرع يتوارى خلفه، وأحسَّ بغضبٍ شديد يجتاحه، هل من المنطق أن يعود إلى القارب دون أن يحصل على أية معلومات ذات قيمة من الجزيرة؟! إن الشياطين لا يَعبثون، ولا يَهرُبون، ولا يُهمهم تهديدات أي مخلوق … وتذكر الوميض الذي رآه عندما نزل الشاطئ، وقرَّر أن يبحث عن مكانه، ونظر إلى حيث كان يقف عندما نزل الجزيرة … وخُيِّل إليه أنه يرى من بعيد جدًّا شبح سفينة، ولكنه لم يكن متأكدًا.
سار «بو عمير» سريعًا في الاتجاه الذي حدَّده لمصدر الضوء المفاجئ الذي شاهده من شاطئ الجزيرة، وبينما هو يمدُّ يدَه ليُمسِك بحافَّة صخرية، لمسَت شيئًا جعله يتوقف، كان هناك سلك كهربائي غليظ أُخفيَ بمهارة بين الصخور، ودُهش «بو عمير» لوجود مثل هذا السلك بين الصخور الجرداء، ولكنه أحسَّ بسرور خفي، فهناك شيء في الجزيرة.
ومضى يتتبع السلك الذي كان يَظهر أحيانًا ثم يختفي حتى وجد «بو عمير» نفسه قد اقترب من أعلى قمة في الجزيرة دون أن يدري، ولاحظ على يساره فتحة عميقة، نظر فيها، فوجد أنها تُطلُّ على البحر مباشرة، وشاهد من بعيد زبد المياه الأبيض، وتوقف لحظات يلتقط أنفاسه …
وفي هذه اللحظة سمع صوتًا مُتقطِّعًا يشبه الصوت الذي تُصدرُه آلة كاتبة من طراز كبير، وأخذ يستمع في انتباه، وبعد لحظات كان متأكدًا من مصدر الصوت … ومن أنها ليست آلة كاتبة، ولكنها آلة تتحدَّث بشفرة خاصة؛ فقد كانت الدقات والوقفات تمضي بأسلوب خاص، ورغم تدريب الشياطين على فكِّ الشفرة، فإن «بو عمير» لم يستطع أن يفهم اللغة التي تتحدَّث بها الآلة …
وأخذ يسير مُحاذرًا اتجاه مصدر الصوت، وفي لحظة كالبرق لمح — وهو يمر بأحد المنحنيات — رجلين يقفان ومع كلٍّ منهما بندقية مثل التي شاهدها مع الرجل ذي الغطرة الحمراء … ورفع أحد الرجلين بندقيته ليُطلقها، وبسرعة البرق كان خنجر «بو عمير» يَطير في الهواء ويستقرُّ في ذراع الرجل الذي صرخ من الألم ثمَّ استدار «بو عمير» وقفز في الهواء … وسمع طلقة رصاص تمرُّ بجانبه، ثم ألقى بنفسه في قفزة رائعة عبر الفتحة الواسعة التي تؤدي إلى البحر، ووجد نفسه يسبح في الهواء فترةً تزيد على الدقيقة، وعرف أنه ينزل من ارتفاع شاهق جدًّا، وأن المياه إذا لم تكن عميقة بما يكفي فسوف يتحطَّم على قاع البحر، ثم لمست ذراعاه المبسوطتان المياه، وأحس بألم وهو يمرق في المياه نازلًا في العمق، وظل يهبط ويهبط حتى فقد قوة اندفاعِه وأخذت حركته تُبطئ، فدار في حركة لولبية، وأخذ يشق طريقه إلى سطح المياه.
عندما صعد «بو عمير» إلى السطح لم يُصدِّق عينيه … كانت قمة الجبل التي قفز منها شاهقة حتى بدا له أنها تُطاول السحاب، وعجب كيف نزل سليمًا إلى المياه … ثم أدار رأسه وأخذ يسبح متجهًا إلى «صقر البحر»، وكان متأكدًا أن بقية الشياطين يَرقبونه وهو قادم، وعندما اقترب وجد «أحمد» يُمسك بالمنظار المكبر، فأشار له. وبادَلَه «أحمد» الإشارة، وبعد دقائق كان على سطح القارب وأخذ يَستجمِع أنفاسه، وقد أحاطت به الشياطين.
قال «أحمد»: لقد شاهدتُك وأنت تقفز من قمة الجبل، لقد كانت قفزة رائعة يا «بو عمير» تستحق عليها التهنئة، ولكن لماذا قفزت؟
رد «بو عمير»: لأنقذ حياتي.
لم يُعلِّق أحد من الشياطين على ما قاله «بو عمير» … وانتظروا حتى يهدأ ويروي لهم تفاصيل ما جرى في الجبل، وعندما انتهى من حديثه قالت «إلهام»: نُقطة مراقَبة في الجبل، شيء مدهش!
عثمان: لعلها نقطة مراقبة حكومية!
أحمد: في مثل هذه الحالات. لا أعتقد أن هذه النقطة لها علاقة بالحكومة؛ لأنه إذا كانت نقطة المراقبة حكومية فإنَّ الاستقبال لا يكون بهذا الأسلوب، ومن الواجب وجود لافِتة تُوضِّح أنه ممنوع الاقتراب من هذا المكان.
عثمان: معك حق؛ فقد حاوَلوا قتل «بو عمير» على الفور.
بو عمير: ولا تنسوا تحذير الرجل الذي كرَّره مرتين عودوا من حيث أتيتم. إن هذا التحذير يعني أشياء كثيرة، منها أننا قد نتعرَّض لمُحاولة الاعتداء علينا في أي وقت.
زبيدة: إن تسليح القارب جيد جدًّا، مدفع عيار ٦ بوصة، مدافع رشاشة، صواريخ، عدا الأسلحة الخفيفة.
بو عمير: إنها حقًّا قلعة مسلحة، ولكن هناك ما هو أقوى.
وقام «بو عمير» إلى داخل «صقر البحر»، حيث اغتسل وغير ثيابه، ثم عقد الشياطين اجتماعًا، تقرَّر على إثره أن ينزل «أحمد» و«عثمان» في قارب لزيارة الجزيرة والتعرف على نوع الحياة فيها، والسؤال عن أي نشاط مريب يدور على أرضها أو حولها خاصة ظاهرة «القوة الخفية».
وسرعان ما نزل «أحمد»، و«عثمان» في قارب اتجه إلى شاطئ الجزيرة، وعندما اقترب الاثنان من الشاطئ استقبلهما عدد من المتسكِّعين، وصعد «أحمد» إلى البر وسأل أحد الواقفين: هل هناك أية «مقاهٍ» هنا؟
رد الرجل: نعم … هناك عدة مقاهٍ، أكبرها مقهى الجزيرة.
وأشار الرجل إلى مقهًى كبير نسبيًّا، واتجه «أحمد» و«عثمان» إليه، واتَّخذا مقعدَين، وطلبا كوبين من الشاي، وانتهز «أحمد» فرصة وجود رجلٍ من ماسِحي الأحذية، وأخذ يُجاذبه أطراف الحديث، فسأله عن سكان الجزيرة، وأجاب الرجل إنهم جميعًا من صيادي الأسماك.
أحمد: هل لهؤلاء الصيادين شيخ يُمكن الحديث معه؟
رد الرجل: نعم؛ إنه الشيخ «غزاوي»!
أحمد: وأين نستطيع أن نقابله؟
الرجل: إنه يُقيم في منزل صغير، فإما أن تجده هناك وإما أن تجده في عشَّته.
أحمد: وأين المنزل؟ وأين العشَّة؟
أشار الرجل إلى يساره قائلًا: المنزل الأخضر الصغير هناك، وأمامه مدفع قديم.
ثم أشار إلى امتداد الشاطئ بيده اليُمنى، وقال: والعشة على الشاطئ على بُعد نحو كيلو متر من هنا.
شكر «أحمد» الرجل ونفحَه بقشيشًا سخيًّا، ثم أشار إلى «عثمان»، وقال له: هيا بنا؛ ففي الأغلب سوف نجد شيخ الصيادين في عشَّته في مثل هذه الساعة من النهار، وسارا معًا، وقال «عثمان» وهو ينظر في اتجاه البحر: إنني لا أرى قاربنا من هذه الناحية.
رد «أحمد»: إنه مُختفٍ خلف الجبال الحمراء.
واستمرا يسيران وقابَلا أكثر من شخص في الطريق، وسألا عن العشة، حتى أشار إليها أحد الصيادين، وأكَّد أن الشيخ «غزاوي» موجودٌ بها!
اقترب الصديقان من العشة وكان يقف أمامها رجلان حياهما «أحمد» ثم سأل عن الشيخ غزاوي، فأشارا إلى داخل العشة.
دخل «أحمد» و«عثمان» إلى العشَّة، شاهدا رجلًا قصير القامة شديد النحافة يَرتدي سروالًا أبيض وعليه سُترة صفراء بأزرارٍ نُحاسية، وعلى رأسه قبَّعة من الفلِّين، وكان مزيجًا غريبًا من المواطن العادي و«الخواجة»، وكان مُمدَّدًا على خشبة مُستنِدًا على مسند من الخشب، وأمامه نرجيلة من النحاس مُغطَّاة بالصوف الأحمر، وضع طرفها في فمه وأخذ يُدخِّن، وقد بدا شاردًا، وكأنه يفكر في عالم بعيد لا يراه أحد سواه.
ألقى عليه «أحمد» و«عثمان» التحية، فردَّ بفتور ثم نظر إليهما مُستطلعًا، فقال «أحمد»: نحن أعضاء في بعثة علمية، وقد جئنا للبحث عن تجمُّعات السمك في هذه المنطقة، ونريد أن نلقي عليك بعض الأسئلة.
فقال الرجل: لا بدَّ أن تَحصُلا على إذن من السلطات المختصَّة قبل القيام بأي عمل.
سأله «أحمد»: وكيف نحصل على هذا التصريح؟ وكيف نأمن شرَّ القُوى الخفية؟
رد الرجل: عليكما بالذهاب إلى العاصمة «تمريدة»، ونصيحتي لكم أن تعودوا من حيث أتيتم.