خرج ولم يعد
عند هذا الحد، كان يُمكن اعتبار الحديث مُنتهيًا، ولكن ما قاله الشيخ «غزاوي» عن العودة؛ «من الأفضل لكم أن تعودوا من حيث أتيتم.» شدَّ انتباه «أحمد»؛ فهي نفس الجملة التي سمعها «بو عمير» من الرجل في الجبل، وليسَت الشياطين ممَّن يكتفُون بسَماع النصائح، ولهذا قال «أحمد»: يا شيخ «غزاوي»، ليس من عادَة العرب الكُرَماء أن يستقبلُوا ضيوفهم بهذا الشكل، لقد تركتَنا واقفين ولم تدعُنا إلى تناول الشاي أو القهوة.
بدا في الوجه الذابل الهادِئ شيء من الاهتمام، وقال الشيخ: معذرةً يا ولدي … ولكن أنت أخطأت الحديث؛ لقد تحدَّثتَ في البداية عن حضوركم لبحث تجمُّعات الأسماك.
ثم عدت فتحدَّثت عن القوة التي تُدمِّر الطائرات والسفن، لهذا شككتُ في أمرك!
ونفثَ من فم نرجيلته خيطًا طويلًا من الدخان ثم قال: تفضَّلا بالجلوس.
وجلس «أحمد» و«عثمان» على حاشيتين من الصوف الخشن، وصفق الشيخ «غزاوي» بيديه النحيلتَين وظهر شابٌّ له شاربٌ يتدلَّى على جانبي فمه، فقال له الشيخ: قهوة يا ولد، واختفى الشاب كما ظهر. وقال «أحمد»: هل تُحدثني قليلًا يا سيدي الشيخ عن هذه الجزيرة وأحوالها وما يتحدث عنه الناس من أمر هذه القوة العجيبة التي تُحطِّم الطائرات والسفن؟!
شدَّ الشيخ نفسًا عميقًا من نرجيلته ثم قال: هذه يا ولدي جزيرة صغيرة وبعض أهلها يعمل في زراعة النخيل وشجيرات الصبر، والبعض يعمل بالصيد، وقد كنا حتى الاستقلال نتبع بلاد الإنجليز، ولكن نحن الآن مُستقلُّون، وأصبحنا جزءًا من جمهورية اليمن الديمقراطية أو اليمن الجنوبية كما تُسمونها.
سكت الشيخ النحيل لحظات ثم مضى يقول: وقد كانت هذه الجزيرة التي تتميَّز بكثرة المواني الطبيعية فيها، أكبر وكر للقراصنة في القرون الماضية، كان القراصنة يَأوُون بسفنهم المحمَّلة بالغنائم؛ حيث يتم التبادل والتجارة، وقد احتلتها البرتغال فترة من الزمن منذ نحو ٤٠٠ سنة.
جاء الشاب ذو الشاربين بفناجين صغيرة مسطحة «بيشة»، ومعه إبريق من النحاس المشغول، أخذ يصبُّ منه القهوة، ويمدُّ يده إلى كل من «أحمد» و«عثمان» والشيخ، وأخذ الصديقان يجرعان القهوة الشديدة المرارة وعيونُهما معلَّقة بشفتي الشيخ الشاحبتَين، وعاد الرجل يقول: ومنذ ذلك التاريخ البعيد من أيام القراصنة ظهر هذا الوحش الكبير الذي يعيش تحت الماء، يُحطِّم السفن ويَلتهم الملاحين!
أحمد: وهل رأيت هذا الوحش يا شيخ «غزاوي»؟
الشيخ: لا … أصدقك القول إنني ركبت البحر وأنا في التاسعة من عمري، وقد تجاوزت الآن السبعين، ولكن بعض الناس شاهَدُوه، إنه حيوانٌ بحريٌّ طوله يقدر بعشرات الأمتار، وأنفه ينفث لهبًا يحرق كل شيء.
أحمد: هل شاهده أحد في الفترة الأخيرة، مثلًا منذ سنة أو ستة أشهر؟
الشيخ: لا … لا … لم يرَه أحد منذ سنوات طويلة.
أحمد: ولماذا لا يراه الناس الآن، وكانوا يرونه في السنوات البعيدة؟
الشيخ: هذا سؤال لا يمكنني الإجابة عنه، ولعلَّ الوحش الآن يعيش في المياه العميقة حيث لا يراه أحد، ومع ذلك …
وخفق قلب «عثمان» و«أحمد» عند هذه النهاية، وانتظرا أن يكمل الشيخ جملته فقال: ومع ذلك يقول «دعيج» ابني إن أحدَ زملائه الشباب قد شاهده منذ أيام، ولكني لا أصدق ذلك؛ فهو يقول: إن هذا الوحش البحري هو «الهيولة» ويُشبه الحصان.
أحمد: هل يُمكن أن نتحدَّث إلى «دعيج»؟
صفق الشيخ بيديه فدخل الشاب ذو الشارب المدلى فقال له الشيخ: يا «دعيج» من هو صديقك الذي شاهد «الهيولة»؟
فهم «أحمد» و«عثمان» أنَّ «الهيولة» هي الاسم الذي يطلقونه على الوحش البحري. فرد «دعيج»: إنه «رعد».
أحمد: وهل نستطيع أن نقابل «رعد» هذا؟
رد «دعيج»: نعم؛ فهو يسكن إحدى القرى القريبة من هنا.
أحمد: وما هي الوسيلة لمقابلته؟
دعيج: سنركب الحمير؛ فالطريق وعر ويمر بالجبل!
أحمد: لا بأس، فلتبحث لنا عن ثلاثة حمير نركبها حتى نُكمل حديثنا مع والدك المحترم.
خرج «دعيج»، وقال «أحمد»: سيدي الشيخ، هل يوجد في الجبل الغربي قرب الشاطئ أي منشآت حكومية.
الشيخ: مثل ماذا؟
أحمد: مراكز للمراقبة، أو مصانع، أو مراكز أبحاث؟
الشيخ: لا … ليس هناك سوى شركة أجنبية تبحث عن كنوز القراصِنة التي غرقت في هذه الأنحاء بواسطة الوحش الخرافي.
أحمد: ومنذ متى تعمل الشركة في هذه المنطقة؟
الشيخ: لا أذكر … ربما منذ سنة أو أكثر.
ظهر «دعيج» عند الباب فقال «أحمد»: إننا نشكُرُك كثيرًا يا سيدي الشيخ، ولكن هناك سؤال أخير: لماذا هذه النصيحة بالعودة من حيث أتينا؟
رد الشيخ على الفور: لأنَّ عددًا كبيرًا من الأشخاص اختفى وهو يبحث عن الوحش الخرافي، وأي مواطن عربي في هذه الجزيرة سوف ينصحكُم بالابتعاد؛ حتى لا يكون مصيركم مصير من سبقكم.
قام «أحمد» و«عثمان»، ثم قال «أحمد»: لعلَّ حظَّنا يكون أفضل ممَّن سبقونا.
كانت الحمير الثلاثة تقف بجوار العشة، وسرعان ما قفز الشبان الثلاثة عليها، وانطلقوا أولًا بمُحاذاة البحر فترة، ثم انحرفوا ودخلوا في منطقة الجبال، وأخذت الحمير المدربة تقفز الفجوات والحفر، وتدخل في الأنفاق المظلمة وتخرج منها.
وابتسم «عثمان» وقال وهو يقطع الصمت العميق في الجبال: إن الإنسان يَظلِم الحمار كثيرًا، إنه حيوان طيب وعاملٌ، وعلى قدر لا بأس به من الذكاء.
لم يردَّ «أحمد» فقد كان غارقًا في خاطره، مُحاولًا استجماع الخيوط الكثيرة التي بدأت تتشابك في ذهنه، وكان «دعيج» في المقدمة يقود القافلة الثلاثية عبر الجبال والتلال.
بعد مسيرة استمرَّت أكثر من ساعة، بدت الأرض تنبسط مرة أخرى، وغاب البحر عن الأنظار، وبعد فترة ظهرت قرية صغيرة في حضن جبل شديد السواد كأنه قطعة من الليل، وظهرت أسراب النخيل المتراصَّة كصفوف الجنود.
وقال «دعيج» متحدثًا لأول مرة: هذه هي قرية صديقي «رعد» الذي شاهد «الهيولة» … للأسف إن أكثر الناس لم تُصدِّقه؛ لأنه لم يَصفْها الوصف الذي يعرفه الناس.
واقتربوا من القرية، ونظر «عثمان» إلى ساعته، كانت تقترب من الثالثة بعد الظهر، وأحس بالجوع.
سارت الحمير الثلاثة في طرقات القرية، ووقف عددٌ من الصِّبية يُشاهدونهم، ثم عند نهاية حارة ضيقة أشار «دعيج» لهما فتوقَّفا، ونزل وأخذ يدق باب أحد المنازل القديمة، وبعد فترة سمعوا صوت الباب يُفتَح وأطل صبي صغير، قال له «دعيج»: أين «رعد» يا «مصباح»؟
قال الصبي بدهشة: «رعد» … إننا نظن أنه عندك؛ فقد خرج منذ مساء أمس ولم يَعُد حتى الآن.
دعيج: إنني لم أرَه منذ ثلاثة أيام!
الصبي: كيف؟ ترى أين ذهب إذن؟
دعيج: لا أدري … ربما خرج للصيد!
الصبي: ولكنه لم يأخُذ عدَّة الصيد معه!
نظر «دعيج» إلى «أحمد» و«عثمان». كان ذهن «أحمد» يعمل بسرعة البرق، وقد أحس أن وراء اختفاء «رعد» شيئًا مريبًا، وأن موضوع «القوة الخفية» قد بدأت درجة حرارتها ترتفع، وقال ﻟ «دعيج»: اسأل الصبي إن كان أحدٌ قد طلبه؟
رد الصبي على الفور: نعم؛ شخص جاء في الظلام ودقَّ الباب وخرج إليه «رعد»، ثم قال لنا: إنك أرسلت في طلبه، وخرج.
دعيج: عجبًا إنني لم أرسل في طلبه! ما هذا الذي يحدث؟!
قال «أحمد» للصبي: هل تعرف الشخص الذي استدعاه؟
الصبي: لا … فقد تحدَّث معه عند الباب، ثم عاد إلينا، وخرج بعد ذلك ولم يعد.
أشار «أحمد» ﻟ «دعيج»، فقال «دعيج»: سأبقى هنا حتى أعرف مصير «رعد» وعودا أنتما، وسوف يعرف الحماران طريقهما، واتركاهما عند عشَّة أبي.
أحمد: إذا عرفت شيئًا عن اختفاء «رعد»، فتعال لمقابلتنا في الخليج، قاربنا «صقر البحر» يرسو هناك!
استدار «أحمد» و«عثمان» ليعودا فقال «عثمان» لماذا لا نَنتظر حتى نرى مصير «رعد»؟! من المهم جدًّا أن نعرف وصفه ﻟ «الهيولة» التي يتحدَّثون عنها.
أحمد: ألم تفهم بعد؟ إنَّ «الهيولة» التي رآها «رعد» ليست سوى غواصة.
عثمان: غواصة؟!
أحمد: طبعًا … ألم يَقُل الشيخ «غزاوي»: إنَّ «رعد» وصفها بأنها تشبه السفينة؟ إن السفينة التي تخرج من أعماق المياه يا «عثمان» ليست سوى غواصة!
عثمان: ولكنها قد تكون غواصَّة عادية تابعة لإحدى الدول.
أحمد: ليس هذا بمُستبعَد، ولكن اختفاء «رعد» يلقي ظلالًا مريبة على الموضوع كله. ويؤكد أن الشاب المختفي يعرف ما لا يصحُّ أن يَنكشِف بالنسبة لأصحاب هذه الغواصة.
وسار الحماران نشيطين … وبعد فترة دخلا إلى منطقة الجبال الصخرية المظلمة، وكانت الشمس قد غابت، فازدادت كثافة الظلام بين الصخور العالية، وفجأةً دوت طلقة رصاص، وزعق الحمار الذي يركبه «أحمد» ثم انكفأ على وجهه، وفي أقل من ثانية كان «أحمد» و«عثمان» ينطرحان على الأرض، وقد أدركا أن طلقة الرصاص كانت موجَّهة إلى أحدهما.
انبطح الشيطانان في ظل الصخور، وقد تنبَّهت حواسهما تمامًا، ووضع «أحمد» أذنه على الأرض يستمع؛ فهو يعرف أن الصوت يسري في المواد الصلبة أقوى من سريانه في الهواء، ومرةً أخرى حدثت مُفاجَأة، فقد أُضيء كشَّاف قوي أخذ يدور في المنطقة التي اختفيا فيها، وفي نفس الوقت أخذا يتدحرجان في سرعة إلى أحد الكهوف القريبة، وراقَبا من مخبئهما الكشاف وهو يدور بين الصخور باحثًا عنهما، وهمس «عثمان»: نستطيع أن نطلق النار في اتجاه الكشاف!
أحمد: إن هذا لن يفيدنا في شيء.