شيطانان في الجبل
استعان «أحمد» بضوء النجوم البعيدة على الصعود في اتجاه كشاف الضوء الذي كان ما زال يدور في كل اتجاه بحثًا عنهما، وكانت الصخور المدبَّبة مُنبثَّة على طول الطريق الوعر الذي اختاره للاقتراب من مصدر الضوء، وظل سائرًا حتى اقترب من مكان الكشاف وأدهشه أن يسمع صوت نباح كلب قريب، وأدرك أن مركز المُراقبة يستخدم الكلاب المدرَّبة في اقتفاء أثر أعدائه، وأحسَّ بتوتُّر شديد؛ فهذه الكلاب من الصعب خداعها، وبعد لحظات طالت أو قصرت سيتمكن الكلب من شم رائحته، والوصول إليه، وأدرك أنه من الصعب عليه أن يَقترِب أكثر، وإلا تعرض لهجوم الكلب، ورغم أنَّ في إمكانه أن يُصيب الكلب؛ فقد كان يَخشى أن تُصيب الطلقة مَقتلًا منه، وهو يكره أن يَقتُل الكلاب التي يَعتبرها من أحب الحيوانات إلى قلبه.
جمد «أحمد» ليُفكِّر فيما ينبغي عمله، مُستمعًا إلى كل صوت يصدر حوله، خاصَّة وهو يَخشى أن يتجه الكلب إلى «عثمان» قبل أن يتمكَّن صديقه من اكتشاف وجود كلاب الحراسة، ومضى بعض الوقت، ثمَّ سمع صوت الكلب يَبتعِد وأدرك أن الحارس قد اتَّجه به إلى عكس اتجاهه، فقام يمشي مُحاذرًا حتى اقترب من الكشاف من الناحية الخَلفية حتى لا يكون هدفًا للضوء.
وشاهد مجموعة من الأضواء الصغيرة تَلمع وتَنطفِئ ثم الخطوط العامة لمبنى مُستدير يُشبه البرج، لاحَظَ خروج خيط من الضوء من إحدى نوافذِه فاقترب مُحاذرًا، ونظر من الفتحة الزجاجية الضيقة التي تُشبه قمرة السفينة، وأمام عينيه انبسطت غرفة مُستديرة من الألمونيوم، وبداخلها مجموعة من الأجهزة، كانت نظرة واحدة كافية؛ ليعرف أنها أجهزة رصد قوية، وأن جزءًا منها هو مجموعة من شاشات التليفزيون تتعرَّج عليها خطوط متوازية، عرف على الفور أنها شاشات رادار ضخم متقدِّم جدًّا، ويَلتقط على مسافات بعيدة.
كان عدد الموجودين في الغرفة ثلاثة؛ أحدهم أمام شاشات التليفزيون، والآخر يضع على أذنَيه سماعات الْتقاط الصوت، أما الثالث فكان حارسًا مُسلَّحًا يَحمِل بندقية سريعة الطلقات، وقد لبس ما يشبه ملابس الصاعقة، ووضع في جنبه مجموعة من القنابل اليدوية، وفجأةً سمع صوت أقدام تَقترب من مكانه فابتعدَ سريعًا، واختفى خلف صخرة، وشاهد شبح حارس يدور حول البرج المعدني في خطوات منتظمة، وأدرك أنه يقوم بدورية مراقبة، وأخذ ذهنه يعمل سريعًا.
إن مهاجمة المكان بمفرده عملية انتحارية، ولا بد من وجود ثلاثة من الشياطين معه. ورغم أنه لم يكن متأكدًا من أن هذا البرج له علاقة بالقوة الغامضة التي جاءوا للبحث عنها وكشفها، إلا أنه أدرك أن هذه الحراسة الكثيفة بالبنادق سريعة الطلقات والقنابل اليدوية والأجهزة الدقيقة — لا يمكن أن يكون كل هذا لمجرَّد البحث عن كنوز القراصنة الغارقة في خلجان جزيرة «سقطرى».
وقرَّر «أحمد» أن ينصرف فورًا للمكان الذي اتفق مع «عثمان» على اللقاء فيه عند نهاية الجبل قرب شاطئ البحر، فدار دورة واسعة حتى لا يصطدم بالحارس، ثم أخذ طريقه هابطًا الجبل، ولكن قبل أن يتقدم بضع خطوات سمع صوت نباح كلب، كان النباح سريعًا ومتوحِّشًا، وأدرك «أحمد» على الفور أن الكلب يقترب من فريسة له، ودقَّ قلبه، فليسَت هذه الفريسة سوى «عثمان»، وأخذ يَجري في اتجاه الصوت وكلَّما اقترب من مصدره ازداد النباح ارتفاعًا ووحشية، وسمع صوت طلقة مزَّقت السكون في الجبل الواسع، وصوت رجل يُلقي أمرًا، وزاد «أحمد» من سرعته، وسمع صوت الرجل يصيح: ألقِ سلاحك.
وعلى ضوء كشاف يُمسكه الرجل بيده، شاهد «أحمد» «عثمان» واقفًا والكلب يَقفِز عليه، والرجل يُوجِّه إليه مسدسًا، وأطلق «أحمد» رصاصتين؛ الأولى أصابت الكلب في كتفه فأسرع يعوي، والثانية حطمت المصباح في يد الرجل … وأطلق الرجل رصاصته في اتجاه «أحمد»، ولكنها كانت الرصاصة الأولى والأخيرة؛ فقد قفز «عثمان» الذي كان يقف في مكان مرتفع، قفز كالصقر على الرجل، وسقطا يتدحرجان على الصخور، وفي اتجاه مصدر الرصاص انطلقَ الكشاف الكبير يدور في المكان بحثًا عن المُشتبكين، وكان الكلب المصاب يعوي صاعدًا الجبل إلى حيث البرج المعدني.
وكشف الضوء الكبير عن «عثمان» والرجل مشتبكَين في صراعٍ مُميت ولم يكن في إمكان «أحمد» أن يطلق الرصاص؛ فقد يُصيب «عثمان» وعرف أن الموجودين خلف الكشاف لن يطلقوا الرصاص أيضًا وإلا أصابوا زميلهم، ولكنه سمع صوت أقدام كثيرة تنزل الجبل متجهة إلى حيث الصراع المحتدم، فأخذ يقفز بين الصخور مُقتربًا من صوت الأقدام، واختار مكانًا مرتفعًا، ومرَّ رجل بجواره فرفع يده وهوى بالمسدس على رأسه وسقط الرجل يتدحرج، وجاء الآخر، وناله مثلَما نال زميله، ولكن الثالث لا حظ ما يحدث، فأطلق رصاصة مرت بجوار أذن «أحمد» فألقى بنفسه على الرجل، واشتبكا في صراع.
وكان «أحمد» يعرف أن الوقت ليس في صالحه هو و«عثمان»، فلا بد أن مركز المراقبة سيُرسِل آخرين، لهذا حاول أن ينهي معركته بسرعة وفعلًا تمكن من الإمساك بذراع الرجل، وأداره بعنف، ثم ضربه ضربة قوية جعلته يسقط من ارتفاع شاهق …
وأسرع «أحمد» يجري في اتجاه «عثمان»، ولكنه لم يسمع صوت أية حركة تصدر من المكان الذي سقط هو والرجل فيه، وتوقف قليلًا لاهث الأنفاس، ثم سمع صوت الخفاش يأتي من جانبه، وعرف أنه «عثمان»، فقال هامسًا: «عثمان»! …
رد «عثمان»: نعم، أنا هنا.
أحمد: هل أنت بخير؟
عثمان: نعم، وأنت؟
أحمد: على ما يرام، هيا بنا!
وأخذا يهبطان الجبل مُسرعَين، واقتربا من ممر ضيق يؤدي إلى نهاية الجبل، ولكن سلسلة المعارك التي خاضاها لم تكن قد انتهت بعد؛ فقد سمعا صوت رجال يتحدثون، وهم يجرُون في اتجاههم، كان كلٌّ منهما قد فقد مسدَّسه أثناء الصراع، ولم يكن أمامهما إلا أن يتقهقرا عائدَين إلى فوق، ولكن «عثمان» أمسك بذراع «أحمد» فوقف «أحمد» ينظر إليه، فقال «عثمان» هامسًا: الحل الوحيد صخرة كبيرة.
أحمد: لا أفهم ما تعني!
عثمان: إذا استمرُّوا في تقدمهم، ونحن في تقهقرنا فسوف يُحاصرونَنا هم من أسفل والآخرون من فوق، وسنقع في المصيدة، تعالَ نبحث سريعًا عن صخرة يُمكن زحزحتها.
وفهم «أحمد» ما يعنيه «عثمان» وأخذا يتحسسان في الظلام الصخور التي حولهما وقال «أحمد»: هذه الصخرة صالحة.
كان صوت الرجال يقترب، والممر الضيق يُحدِث لأصواتهم صدى يتضخم باستمرار، وسمع الشيطانان أحد الرجال يقول: هذه مهزلة … ولدان يُحدِثان هذا الاضطراب!
وأخذ «أحمد» و«عثمان» يُحرِّكان الصخرة الثقيلة من مكانها حتى طفر العرق من جسدهما، وأخيرًا تحركت الصخرة، فدحرَجاها حتى توسَّطت الممر الضيق، وكان الرجال قد اقتربوا حتى أصبحوا على بُعد نحو عشرة أمتار وصاح أحدهم وهو يُلقي بضوء كشافه إلى فوق: ها هما!
وفي هذه اللحظة أطلق «أحمد» و«عثمان» الصخرة التي نزلت تتدحرج كالصاعقة، وصاح الرجال، ولكن بعد فوات الأوان، فقد نزلت الصخرة كأنها سيارة مندفعة بكل قوتها تدوس كل مَن في طريقها.
وصاح «أحمد»: لننتهز الفرصة!
وقفزا وأخذا يجريان خلف الصخرة كأنهما يُطاردانها، وسرعان ما ابتلعهما الظلام وهما يسمعان الصرخات خلفهما، ولم يتوقفا عن الجري حتى وصلا إلى قاعدة الجبل، ثم وقفا يلهثان.
قال «عثمان» بصوت متقطع: و… ماذا … بعد … ذلك؟
أحمد: الإسراع … نحو القارب.
عثمان: ما زال … أمامنا … مسافة طويلة!
أحمد: ليس هناك حلٌّ آخر.
عثمان: إذن هيا بنا!
وسارا مسرعين على الشاطئ حتى دارا حول الجبل. ثم وصلا إلى الجانب الآخر للجزيرة وهما يجران قدمَيهما وأخذا يقتربان من الخليج الذي يقف فيه القارب، وكلٌّ منهما يحلم بحمام ساخن، ووجبة عشاء شهية ثم نوم طويل … وكانت الصخور العالية في الخليج تحجب عنهما مكان القارب، وفجأة سمعا صوت مجاديف تضرب وجه المياه في ضربات مُنتظمة سريعة، وتواريا خلف نخلة قريبة، وأخذا ينظران إلى المياه السوداء، ولاحظا على الفور قاربًا من المطاط يقترب سريعًا من الشاطئ، ثم يطلق خيطًا من الضوء الأصفر ثلاث مرات سريعة، وظهر من خلف الصخور بضعة رجال أسرعوا إلى الشاطئ كانوا يَحملون شيئًا بينهم، ووقفوا في انتظار حضور القارب، وبعد لحظات وصل القارب إلى الشاطئ، ونزل رجلان ووقفا يتحدَّثان قليلًا مع المُنتظِرين.
وسمع «أحمد» و«عثمان» بعض الكلمات المتناثرة التي يحملها الهواء إليهما … «بعض العقاقير … يَفقِد عقله ثلاثة أيام على الأكثر … نفس المكان … نفس الساعة … سنَعثُر على الباقين … القارب … لا أحد يعرف … إن القوة الخفية تكاد تنكشف بواسطة هذا الولد».
وحمل الرجلان «الشيء» الذي أحضره الرجال الثلاثة، وهمس «أحمد»: إنه شخص ملفوف في بعض الأغطية!
عثمان: ربما هو «رعد»!
أحمد: تمامًا، إنه «رعد»! سيَذهبُون به إلى الغواصة لإعطائه بعض العقاقير حتى يفقد عقله وينسى ما شاهَدَه … إنه الوحيد الذي شاهد القوة الخفية.
عثمان: هل نتدخل؟
أحمد: لا، هناك ما هو أهم … ﻓ «رعد» يمكن علاجه بعد ذلك، ولكن الموعد المتَّفق عليه يُهمنا جدًّا. بعد ثلاثة أيام في نفس المكان ونفس الساعة، لو استطعنا الاستعداد فربما أمكننا أن نصل إلى السر كله!
ومضى القارب المطاط، وعاد الرجال إلى الجبل، وتحرك «أحمد» و«عثمان» إلى ما خلف الصخور، إلى الخليج الذي يقف فيه قارب «صقر البحر» وهما يَحلمان بالراحة … وعندما دارا حول الصخور وواجها الخليج، كان في انتظارهما أخطر مُفاجأة، فلم يكن القارب في مكانه … لم يَنطِقا بحرف واحد، كانت الصدمة أكبر من أي حديث، لقد تلاشى القارب بمن فيه … وربما استطاعت «القوة الخفية» أن تُدمِّرَه … هذا ما فكرا فيه معًا.