عبقرية شيطانية
كان اختفاء القارب في هذه اللحظة شيئًا لا يُمكن تصديقه؛ فقد كان «أحمد» و«عثمان» في أشد الحاجة للراحة بعد يوم عنيف، وكانا في حاجة أكثر إلى تبادل المعلومات مع الشياطين الثلاثة «إلهام» و«زبيدة» و«بو عمير» … هل وصلتهم أنباء من مجموعة «اليمن» أو مجموعة «الصومال»؟! هل حدث شيء خلال النهار؟!
كانت لحظة مُدمِّرة للأعصاب، ولكن «أحمد» تمالك نفسه سريعًا وقال: لم يعد أمامنا إلا أن نعتمد على نفسينا فقط يا «عثمان». ففي الأغلب أن «القوة الخفية» قد استطاعت سحب القارب بعيدًا وتدميره، وعلينا أن نصل إلى «الصومال» أو «اليمن» الشمالية فورًا للاتصال ببقية الشياطين هناك، إننا لن نستطيع أن نفعل شيئًا وحدنا.
رد «عثمان»: أُوافق، ولكن كيف السبيل للوصول إليهم؟
أحمد: لنبحث عن مكانٍ نقضي فيه بقية الليل، ونجد طعامًا ثم نبدأ من الصباح الباكر البحث عن وسيلة للذهاب إلى مجموعة «اليمن». إن بيننا وبينهم طريقًا بريًّا يمكن قطعه في يوم أو يومين!
عثمان: وأين نذهب الآن؟
أحمد: ليس أمامنا إلا عشَّة الشيخ «غزاوي»، والمسافة بيننا وبينها نحو ساعة مشيًا.
عثمان: هيا بنا.
وأخذ الشيطانان طريقهما على طول الشاطئ الرملي، كانا يَسيران في بطء فقد كانا مُجهدَين، ومضَت نصف ساعة وهما يشدان قدمَيهما شدًّا في الرمال الناعمة وصوت البحر الهادئ لا يقطعه إلا صفير بعض الطيور البرية، وفجأة توقف «عثمان» وأمسك بذراع «أحمد» قائلًا: انظر هناك … أمامك جهة اليمين قليلًا.
نظر «أحمد» إلى حيث حدَّد «عثمان» ولاحظ ضوءًا يتأرجح على صفحة المياه السوداء، فقال: قارب … لعله من قوارب الصيادين!
عثمان: لا، انظر جيدًا … إن القارب يُرسل إشارات متقطعة!
أمعن «أحمد» النظر ثم صاح كالمجنون: إنهم الشياطين!
ونسيا تعبهما كأنه لم يكن، واندفعا يجريان ناحية الضوء، وكان واضحًا أن ثمة شخص يجلس في قارب وبيده بطارية يرسل منها إشارات معينة، وظلا يجريان حتى اقتربا من مكان الضوء، وعادا إلى حذرهما مرةً أخرى واقتربا في هدوء وهما يسيران على أيديهما وقدميهما، وأطلق «عثمان» صوت الخفاش، وجاءه الرد، فقفزا في الهواء وأسرعا إلى القارب، ووجدا «بو عمير» في انتظارهما.
صاح «أحمد»: «بو عمير» … ماذا حدث؟
بو عمير: سأَروي لكما كل شيء … هيا بنا.
أحمد: إلى أين؟
بو عمير: إلى القارب طبعًا!
أحمد: ألم تُدمِّره «القوة الغامضة»؟
بو عمير: كادَت تُدمره.
ارتمى «أحمد» و«عثمان» في قاع القارب المطاط الصغير، وأخذ «بو عمير» يُجدِّف بنشاط، وسرعان ما ابتعدوا عن الشاطئ، ومضت فترة وهم صامتون، ولا شيء يقطع الصمت سوى صوت المجاديف وهي تغوص في المياه، حتى داروا حول الجزيرة تقريبًا، وأخذ «بو عمير» يعدل خط السير في اتجاه المحيط ثم أخذ خطًّا مستقيمًا فعاد «أحمد» يسأل: أين القارب؟ … إنني لا أرى أي ضوء.
بو عمير: سنصله بعد دقائق، وستعرف كل شيء.
ومضت دقائق قليلة، وشاهد «أحمد» و«عثمان» شبح «صقر البحر» المظلم يقف تحت ضوء النجوم البعيدة، وبعد دقائق أخرى كان الثلاثة يصعدون السلم الجانبي إلى سطح القارب.
استقبلتهم «زبيدة» و«إلهام» بوابل من الأسئلة، ولكن «أحمد» و«عثمان» لم يردَّا، كان كل ما يهمهما في هذه اللحظة أن يعرفا ما حدث … ودخلوا جميعًا إلى جوف القارب حيث كان ثمة ضوء من مولِّد صغير يعمل للإضاءة فقط.
وارتمى «أحمد» و«عثمان» على مقعدَين، وهما لا يصدقان أنهما وصلا في النهاية إلى «صقر البحر».
قال «أحمد» وهو يتناول قطعة من اللحم ليأكلها: والآن ماذا حدث؟
قال «بو عمير»: مضى اليوم عاديًّا، وقد راقبناكما بالنظارات حتى غبتُما عن البصر، ثم أخذنا فيما بيننا الحراسة والاستماع حتى هبط الظلام ثم أدرنا ماكينات «صقر البحر»، للإضاءة وغيرها من الأغراض، وقد حدث كل شيء نحو التاسعة ليلًا، وكانت الماكينات تدور ونحن جالسون، واستلمت «إلهام» إشارة من مجموعة «الصومال» أنهم لم يَعثُروا على معلومات بعدُ، وكذلك وصلتنا إشارة أخرى من مجموعة «اليمن» الشمالية بنفس المعنى، وفجأة وجدنا «صقر البحر» يتحرَّك وحده.
وصمت «بو عمير» وتوقف «أحمد» و«عثمان» عن المضغ … وعاد «بو عمير» يحكي: نعم … فوجئنا «بصقر البحر» يهتزُّ قليلًا، ثم يندفع خارجًا من المرسى متجهًا إلى عرض البحر، وكأن قوة جبارة تجره بسلاسل غير مرئية.
عثمان: شيء غير معقول!
بو عمير: بالضبط … ووقفنا مذهولين لا نَعرِف ماذا نفعل، وصعدنا سريعًا إلى سطح القارب لعلنا نرى «القوة الخفية» التي تجذب «صقر البحر» … ولكن لم يكن هناك أحد على الإطلاق، فقد كان البحر واسعًا أمامنا وليس فيه مخلوق، ولولا إيماننا ورفضنا للخرافات لقلنا إن العفاريت تسحب القارب، أو لصدقنا بالوحش الخرافي الذي يَعيش تحت الماء.
أحمد: أنه ليس خرافة.
زبيدة: ماذا تقصد؟
أحمد: إنَّ هناك وحشًا تحت الماء حقًّا، ولكن ليس هذا أوان الحديث عنه … أكمل يا «بو عمير».
بو عمير: وكما تعرفان، كنا نقف عند الخليج الصغير في حضن الجبل …
وجذبت القوة الخفية «صقر البحر» خارج الخليج وأدارته في اتجاه ساحل «اليمن» والمسافة لا تزيد على مائة كيلومتر أو أقل. والقارب مندفع نحو شاطئ «اليمن» بعيدًا بأقصى سرعته!
صاح «عثمان»: إنك ستقتلني بروايتك هذه، كيف حدث هذا؟!
بو عمير: هذا ما حدث بالضبط. وصمت لحظات … وتوقَّف «أحمد» و«عثمان» عن شرب الشاي الساخن الذي أتت به «إلهام»، فقال «أحمد» وكيف أوقفتم القارب؟
نظر «بو عمير» إلى «زبيدة» في تقدير وقال: عبقرية «زبيدة».
ابتسمت «زبيدة» في تواضُع، فقالت «إلهام»: إنها حقًّا عبقرية؛ فقد كانت دائمًا أفضلنا في دراسة الميكانيكا والكهرباء.
قالت «زبيدة»: أخجلتُم تواضعي.
أحمد: ماذا فعلت يا «زبيدة»؟
ردت «زبيدة»: فليَقُل «بو عمير».
بو عمير: لا … لا بد أن تشرحي استنتاجاتك، وكيف أنقذتِ القارب من الدمار المحقَّق؟
صفَّفت «زبيدة» خصلة من شعرها ثم قالت: فكرت أن القوة المجهولة لا تستخدم مجالًا مغناطيسيًّا للجذب. فمهما كانت قوة المغناطيس فهو لا يستطيع أن يَسحَب قاربًا في حجم «صقر البحر» وبهذه السرعة! … إذن …
قال «عثمان» مُبتسمًا: المهم إذن هذه.
زبيدة: إذن فإن القوة الخفية تَعتمِد على حركة الماكينات ذاتها … وتذكَّرت الأبحاث التي قدمها لنا رقم «صفر» عن الحوادث السابقة، سفينة تسير في عرض البحر، فتتَّجه فجأةً إلى الشاطئ وتُدمَّر. طائرة تسير في السماء، وفجأةً تتجه إلى البحر وتسقط وتغوص فيه، إذن هناك كلمة «تسير» باستمرار … أي إنَّ «القوة الخفية» لا تستطيع جذب سفينة واقفة، ولا طائرة على الأرض، فأسرعت إلى غرفة الماكينات، وأوقفت ماكينة القارب.
عثمان: وانتهى كل شيء؟!
زبيدة: أبدًا.
نظر إليها «أحمد» و«عثمان» في دهشة وقال «بو عمير»: دعوها تُكمل حديثها.
عادت «زبيدة» تقول: رغم أنني أوقفت الماكينة، لم يتوقف القارب عن اندفاعه؛ فقد عادت الماكينة إلى العمل من تلقاء نفسها.
عثمان: مُدهش!
زبيدة: نعم … هذا ما حدث … إن «القوة الخفية» قادرة على تشغيل الماكينات الواقفة أيضًا، وجزء من استنتاجي الأول كان خاطئًا.
أحمد: إذن ماذا فعلت؟
زبيدة: وصلت إلى استنتاجٍ ثانٍ فورًا … قلتُ: لا بد أن السفن التي غرقت حاولت نفس المحاولة؛ أي أوقفت الماكينات، ولكن رغم هذا اندفعت وتحطمت.
عثمان: إنك تُثيرين جنوني … فماذا فعلت؟!
زبيدة: وصلت إلى استنتاج ثانٍ، هو حلُّ جزءٍ من الماكينة. إن القوة الخفية تدير آلة قابلة للدوران، ولكن إذا كانت هذه الآلة فاسدةً … ناقصة، لا تستطيع الدوران، «فالقوة الخفية» لا تستطيع إدارتها، تمامًا إذا تصوَّرتم أن محرِّك سيارة يعمل، إنه يعمل لأنَّ جميع أجزائه صالحة للإدارة، ولكن لنفرض أننا مثلًا نزعنا جزءًا منه، مثلًا مضخة البنزين، أو شموع الاحتراق، أو أسلاك توصيل الكهرباء، إنه بالطبع لن يعمل، حاولت … وهكذا أسرعت فعلًا ونزعت كل أسلاك الكهرباء، ثم مضخَّة «السولار» الذي يعمل به القارب، وهكذا ظل القارب سائرًا نحو عشرين كيلو مترًا أخرى بقوة الاندفاع، ثم توقَّفَ تمامًا.
قال «أحمد»: يا لكِ من فتاة مدهشة!