الفصل الرابع عشر

العقائد والشعائر

من الألف الثالثة إلى الألف الثانية قبل الميلاد، أقام في البلاد العربية أناس من أتباع كل عقيدة دينية عرفت في تلك العصور.

وكان مركزها الأكبر في بلاد النهرين، حيث تتابعت الدول فتتابعت معها الديانات والشعائر ومراسم العبادة.

عبدت فيها الكواكب، وعبدت فيها الملوك، وعبدت فيها قوى الطبيعة، وعبدت فيها الأرباب العليا التي تعم عبادتها رجال الدولة، وعبدت فيها الأرباب المحلية التي يدين بها أبناء كل إقليم على حدة، ولا تشترك الأقاليم جميعًا في عبادتها.

وقامت الشعائر على اختلافها مع كل دين من هذه الأديان، فعرفوا الضحايا البشرية كما عرفوا القرابين من غلات الزراعة في مواسمها، وعرفوا الصلوات في الهياكل بقيادة الكهان، كما عرفوا الصلوات في البيوت أو في المدافن الملحقة بها، وعرفوا الديانات التي تؤمن بالروح والجسد، كما عرفوا الديانات التي تؤمن بالجسد ولا تذكر شيئًا عن الروح، أو التي تؤمن بأن الروح يلصق بالأعضاء فلا ينتقل إلى العالم الآخر ما دام للجسد بقية باقية.

ومنهم من كان يفهم أن العالم الآخر ناحية من هذا العالم الأرضي، أو هاوية في أعماقه، ومن كان يفهم أنه آت بعد حين في آخر الزمان.

وشوهد من الآثار والأحافير أن هذه الديانات تتغير كلما تغيرت الدولة القائمة في مكانها، فيقضي الدين الجديد على بعضها، ويستبقي بعضًا منها أو يُحوِّله إلى صورة أخرى.

ومعظم هذه الشعائر والعبادات له علاقة بدعوة الخليل إبراهيم؛ إما بالإقرار أو بالإنكار والتحويل.

وسبيل الباحثين إلى تصفية هذه الشعائر والعبادات عسير، بل جد عسير؛ لاختلاط الأزمنة واختلاط الشعوب واختلاط البقايا في العصر الواحد، فلا ندري على التحقيق ما كان من عقيدة هذا الفريق وما كان من عقيدة غيره، ولا وسيلة إلى الجزم بالقديم منها والحديث.

ويصدق هذا على العقائد والشعائر التي يقبلها أناس ويستنكرها أناس آخرون، ولكنه لا يصدق على العقائد والشعائر التي يُمكن أن يقبلها أتباع العبادات المتناقضة في وقت واحد، كالحج، وقد كان مفروضًا في الجاهلية وظل مفروضًا في الإسلام مع اختلاف العقيدة والحكمة فيه، وكالقول عن أصل الخليقة، وقد اتفقت فيه الأديان الكتابية على الجملة، وظهر من الآثار والأحافير أنه كان من عقائد الأمم الغابرة قبل الأديان الكتابية، وما لم يأت نص بالمخالفة فليس ما يمنع تعاقب الأديان على قول واحد في هذه الأمور.

والمتواتر في سيرة الخليل إبراهيم أنه شهد عبادات الأقوام في عصره من أرض النهرين إلى وادي النيل، وأنه تنقل بين أقطار تتناقض في بعض العبادات، وتتلاقى في بعضها على اتفاق قريب أو بعيد، فإذا نظرنا فيما أبقى وفيما ترك، وعارضناه على المشهور من عبادات أولئك الأقوام، فليس من العسير أن نستخلص رسالته عليه السلام، وما فيها من الجديد والقديم، ومن الوفاق أو الخلاف.

وحاصل ما يقال هنا قبل تلخيص العقائد والعبادات في زمانه: أن ظهوره عليه السلام قد كان ولا ريب على مفترق من الطرق يختلف فيه الجيلان في البيت الواحد، فضلًا عن الملتين أو القطرين.

وهذه طائفة من العقائد والشعائر التي كانت لها علاقة بدعوته، وينبغي النظر فيها قبل التصفية التي نخلص منها إلى بيان رسالته ورسالة الخالفين من بعده.

(١) قصة الخليقة

وجدت قصة الخليقة منقوشة بالخط المسماري على الألواح التي عثر عليها المنقبون عند مدينة الموصل، ونقلوها إلى المتحف البريطاني بلندن حيث تعاون المفسرون على تفسيرها، وهذه خلاصتها:

ويلي هذا بعد كلام مفقود أو مطموس في الألواح المكسورة، كلام عن الخلق في اليوم الرابع حيث صنع منازل لأعظم الأرباب، وصنع بروج الفلك على صور الحيوان، وقسم السنة إلى أربعة فصول، وإلى اثني عشر شهرًا في كل فصل منها ثلاثة شهور، وجعل فيها أيام المواسم والأعياد.

«وصنع للسيارات منازل تشرق فيها وتغرب، ولا يصدم بعضها بعضًا في الطريق، ووضعها في منازل بعل وحي.

وأقام لها مواصد على جوانبها، وأغلاقًا على اليمين واليسار.

وأقام في الوسط نيرين، أقام القمر يسيطر على الليل ويسير فيه إلى مطلع الفجر، وقدس في كل شهر أيامًا، ليبرز في غرة الشهر قرنيه وينير أجواز السماء.»

ثم يلي هذا كلام ناقص عن اليوم السادس يتلى بعد إتمامه على الوجه الآتي:

«واجتمعت الأرباب وخلقت الوحوش والأنعام والدواب، ومنها جماعة بيتي «أنا آشور السماء» … وكانت فيه بهجة.

والإله المشرف جعل فيها اثنين …»

•••

وفي المتحف البريطاني لوح عليه صورة شجرة جلس إلى جانبها رجل وامرأة، ووراء المرأة حية، وقد بسطا يديهما إلى ثمرتين بأسفل الأغصان.

وفحوى قصة خلق الإنسان أن الإله مردوخ فاتح الإله «آيا» رب الماء العذب، فأفضى إليه بأنه سيخلق الإنسان من دمه وعظمه، وأمر حاشيته أن تضرب عنقه ليسيل دمه، فنجم منه الإنسان، ولم يمت الإله مردوخ؛ لأن الإله لا يموت، ولكن الإنسان قضي عليه بالموت بعد ذلك لأنه طمح بآماله إلى خلود كخلود الأرباب.

(٢) قصة الطوفان

وتؤلف قصة الطوفان البابلية من اثني عشر فصلًا على حسب البروج، وراوي القصة يُسمى «أسدبار»، وقد عبر بحر الموت ليصعد إلى السماء، ويلقى زستور الذي ارتفع إليها بعد نجاته من الطوفان، والباقي من ألواح هذه القصة في المتحف البريطاني يحكيها على هذا المثال.

«ابنِ بيتًا واصنع سفينة تحفظ النبات والحيوان، واخزن البذور واخزن معها بذور الحياة من كل نوع تحمله السفينة، وليكن طولها ستمائة قدم في ستين عرضًا، وتدخل السفينة وتحكم إغلاقها، وتضع في وسطها الحبوب والمتاع والأزواد والخدم والجند، وتضع فيها كذلك أجناس الوحش لتحفظ ذريتها …

… وقال الله ليلًا: إني سأرسل السماء مدرارًا، فادخلْ إلى جوف السفينة وأغلق عليك بابها، وتغطَّى وجه الأرض وهلك كل ما عليه من الأحياء، وفار الماء حتى بلغ السماء، ولم ينتظر أخ أخاه، ولم يعرف جار جاره، ستة أيام وستة ليال والريح تعصف، والأنواء تطغى، ثم كان اليوم السابع فانقطع المطر، وسكنت العاصفة التي ماجت كموج الزلزال. سكنت العاصفة، وانحسر البحر، وانتهى الطوفان، وعج البحر بعد ذلك عجيجه، واستحال الناس طينًا، وطفت أجسادهم على وجه الماء.

ثم استوت السفينة على جبل نيزار، وأرسلت أنا الحمامة فذهبت وعادت ولم تجد من مقر تهبط عليه، فأرسلت عصفور السمانة فعاد وما هبط على مكان، وأرسلت الغراب فراح ينهش الجثث الطافية ولم يرجع، ثم أطلقت الحيوانات في الجهات الأربع، وبنيت على رأس الجبل مذبحًا، فقربت لديه قربانًا وفرقته في آنية سبعة، وفرشت حوله الريحان، وشمت الأرباب رائحة جيدة فاجتمعت على القربان، ونظرت أعاظم الأرباب من بعيد، وارتفعت أقواس السحاب تحييها عند اقترابها.»

وقد علم المنقبون أن هذه القصة منسوخة من مصدر قديم أقدم منها، فهذه الألواح لا يقل تاريخها عن ألفين وخمسمائة سنة، والمصدر الذي نُقلت منه يرجع إلى أوائل الألف الثالثة قبل الميلاد.

وعلم المنقبون في جميع آثار الأرض، التي كشفت في العالم القديم أو العالم الجديد، أن قصة الطوفان عامة لا تنفرد بها الآثار البابلية، ولا يقل تاريخها في القدم عن تاريخها.

(٣) عبادة الكواكب

ومن كلامهم عن الخليقة والطوفان نعلم أنهم كانوا يؤمنون بإله عظيم خلق الآلهة الصغار، وقدَّر لها منازلها في السماء.

وهذه الآلهة الصغار هي الأجرام العلوية، وأشهرها القمر، وقد عمت عبادته بلاد الساميين «أو العرب الأوائل» من وادي النهرين إلى سيناء، ويسمونه سين، ومنها أخذ اسم سيناء، ولعله في الأصل من مادة السنى والسناء.

وكان له اسم علم في وادي النهرين هو «نانار»، وهو الذي يتوجهون إليه بالعبادة، وكان له مركز في مدينة «أور» بلد الخليل إبراهيم، ومركز في شمال العراق، ومعه هناك إله آخر يسمونه مردوخ أو المريخ.

وفي صلواتهم للقمر يقولون: «يا رب، يا من قدرته الوهابة تمتد ما بين السماء والأرض، ومن يجلب الغيوم والمواسم، ويسهر على الأحياء، ومن يعظم في السماء عالية وصيته، ومن يعظم في الأرض عالية وصيته، ومن تسبح له الأرواح السماوية والأرواح الأرضية، مشيئتك أنت في السماء مشرقة، ونسألك أن تكشف لنا مشيئتك على الأرض؛ فإن مشيئتك تطيل الحياة، وتبسط لها الرجاء، وتشمل كل كائن شمولًا عجيبًا، وأنت تجري العدل على قضاء الإنسان، وما من أحد ينفذ إلى سرها أو يقيس عليها … أنت رب الأرباب ما لك من شبيه ولا نظير …»

وكانوا منذ أقدم العصور على عهد السومريين «أو الشمريين» يرفعون الصروح لرصد الكواكب واستطلاع الطريق، وهي الصروح التي يسمونها «زجراث» أو أماكن عالية. ويعلل المؤرخون المنقبون ذلك بنشأة السومريين في بلاد جبلية، وأن الجبل والشرق والبلد يُطلق عليها في لغتهم اسم واحد هو «كور»، ومعناه في العربية قريب من هذا المعنى؛ لأنه يطلق على مجتمع القرى،١ وعلى العمامة، وعلى الكارة التي تحمل على الرأس أو الكتف.

وكانت هياكلهم المبنية ترصد للأرباب السماوية، وتنصب فيها التماثيل بأسمائها، ومن هنا عبادة الأصنام.

وأشهر الكواكب المعبودة بعد القمر كوكب الزهرة «عشتار»، وكوكب المريخ «مردوخ»، وينسبون إلى الزهرة أنها ربة الحب لتألقها وزهوها وتقلب أحوالها، وينسبون إلى المريخ أنه رب الحرب لاحمرار لونه كلون الدماء.

على أنهم عبدوا الشمس قديمًا باسم «شماس»، وإن لم تكن عبادتها عامة بينهم كعموم عبادة القمر.

ويقول وولي Woolley في كتابه عن إبراهيم، وهو من أشهر علماء الأحافير:

إن الآلهة كانوا عند السومريين على ما يظهر ثلاث طبقات: الآلهة العظيمة التي تخصص لها هياكل الدولة، والآلهة التي دونها، وهي التي تقام لها المعابد في مسالك الطرق، ودون ذلك آلهة الأسرة، والأغلب على الآلهة العظيمة أنها كانت تشخص قوى الطبيعة؛ كالشمس والقمر والماء والأرض والنار والبرق والنضال والخصب والموت، وعندها تكمن جميع القوى، ويكون التفوق بينها على حسب أحوال الربانية المتعددة. وقد كانت لها أقاليم تغلب العبادة لكل منها على إقليم، ومن ثم لا يفرض الولاء الكامل له في غير ذلك الإقليم؛ ففي أور عبادة نانار، وفي أريكة عبادة أشتار، وقد يتنازعان فتصبح كل قوة مشلولة من جراء ذلك النزاع.

والآن وقد غلبت مدينة لارسا على إقليم الجنوب فقد أصبح شماس إله الشمس خليقًا أن يبسط سلطانه على المدن الأخرى التي دخلت في طاعته، وأصبحت سطوة بابل مرادفة لسطوة مردوخ، ولم يكن في السماء قرار ولا برهان إلا بمقدار ما في الأرض من البشر، كلا ولا كانت ثمة شريعة للأخلاق أرفع من شريعتهم.

وقد كانت لهم حجة إلى الشمال لاعتقادهم أنه مركز القطب الثابت، ولكن التنازع بين دول الشمال ودول الجنوب حال دون الاتفاق على عبادته، ويظهر أن الصابئين أو السابحين الذين ظلوا يعبدونه في الجنوب بقيت نحلتهم في مكانها على خلاف مع من حولها.

(٤) عبادة الملوك

وفي متحف أشمول٢ بإنجلترا أسماء الأسر التي حكمت بابل من بعد الطوفان إلى أيام سراجون، وقد جاء في الألواح التي حفظت أسماءها أن الأسرة الأولى تولى منها المُلْك ثلاثة وعشرون ملكًا، وكانت مدة حكمهم جميعًا أربعة وعشرين ألف سنة وخمسمائة وعشر سنوات.

وكُتَّاب الألواح مجمعون على أن الملوك الأوائل الذين حكموا بعد الطوفان قد هبطوا من السماء إلى الأرض لحكمها، بعد أن طهرها الله وعاقبها على فسادها.

فهم أرباب سماويون تجب عبادتهم على الرعايا.

وأشهر من حكم منهم في مدينة «أور» أورنامو Ur Nammu صاحب الصرح الشاهق الذي أقيم لعبادة القمر، وله تمثال نقل إلى متحف بنسلفانيا بأمريكا.

وقد خلفه ابنه دنقي أو شلقي — على حسب اختلاف المنقبين في أساليب ترتيب الحروف والنطق بها — وهو أحد العواهل السومريين الذين فرضوا عبادتهم على جميع البلاد توحيدًا للدولة، وزوَّج بنته لأمير عيلام «غير بعيد من السليمانية في بلاد الكرد في العهد الحاضر» ليضم إليه الإمارات المجاورة، واتخذ أصحاب الأقواس الطوال من جند أور، وخرج بهم وبالفرق القوية من البلاد الأخرى إلى الشمال لغزوه وإلحاقه بدولته، فامتدت مملكته من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال بوادي النهرين. ويقدر المؤرخ المتخصص لهذه الحقبة «باتريك كارلتون» في كتابه عن الدول المدفونة أنه تولى الملك سنة ٢٢٧٦ قبل الميلاد.

ولم يكن دنقي بالوحيد الذي فرض عبادته على البلاد كلها، بل كان هذا شأن جميع الملوك الذين أخضعوها لسلطان واحد، ومن لم يفلح في إخضاعها قنع بالعبادة من رعاياه حيث ينفرد بالسطوة في بعض الأقاليم، أو قنع بالكهانة الأولى بين رؤساء الدين.

ولم يتعاقب على «أور» من هؤلاء العواهل كثيرون؛ لأن العواهل الذين ضموا البلاد جميعًا إلى دولتهم قلائل متناثرون بين الأزمنة المتباعدة، ومنهم السومريون والأكاديون والبابليون.

إلا أن مدينة «أور» عرفت عبادات شتى غير عبادة القمر وعبادة العواهل، ومن هذه العبادات عبادة الأسرة بدلًا من الدولة، شاعت مع ضعف الدولة وسقوط هيبتها، وقلة الرغبة في الإنفاق على الضحايا والقرابين التي تقدم على محاريبها، فاكتفى الناس ببيوتهم يدفنون موتاهم فيها، ويتقربون كلهم بمثل طعامهم وهم أحياء بين ظهرانيهم. وقد كانت أعمال الحفر تبرز للمنقبين طبقة بعد طبقة من أعماق الأرض ومن أعماق التاريخ في وقت واحد، ومن قيمة القربان تبدو قيمة الثقة بالأرباب، أو تطور العبادة بين الماديات والمعاني الروحية.

(٥) الضحايا البشرية

وتدل الأحافير على قدم الضحايا البشرية في العبادات التي سبقت عهد الساميين بوادي النهرين وبقاع الهلال الخصيب، وأنها بقيت إلى ما بعد وفود الشعوب السامية إلى تلك البقاع.

وتدل الأحافير بمدينة «أور» على قدم تلك العادة في عبادة الملوك خاصة؛ إذ كان الملوك يدفنون ومعهم حاشيتهم ووزراؤهم، ولا يبدو من هيئة جثمانهم أنهم ماتوا على الرغم منهم، فليس منهم من وجدت جثته وفيها أثر الذبح أو الخنق أو القتل بالضرب العنيف، ولهذا يعتقد «وولي» في كتابه «أور الكلدانيين» Ur of the Chaldess أنهم كانوا يتجرعون باختيارهم عقارًا سامًّا يخدرهم ويميتهم؛ لإيمانهم بالانتقال مع الملوك الأرباب إلى حالة في السماء كحالتهم في الحياة الأرضية.
ووجدت على بعض أختام الطين صور آدميين يلبسون قناعًا يشبه رأس الحيوان، والمظنون أن هذا الزي كان مقدمة للذبح الرمزي، وإجراء الشعائر مجرى التمثيل المقدس في الاحتفالات العامة، ولا سيما الاحتفال بعيد رأس السنة.٣

ووجد في حفائر «أور» تمثال جدي مربوط مقيد في شجرة، لعله رمز لاستبدال الضحية الحيوانية بالضحية البشرية، وتاريخه في تقدير «وولي» سابق لعصر الخليل بألف وخمسمائة سنة.

ولكن الضحية البشرية بقيت إلى ما بعد أيام موسى عليه السلام، ويتضح هذا من الإصحاح الثاني والعشرين في سفر الخروج؛ حيث حرم على بني إسرائيل أن يعطوا أبكار أبنائهم قربانًا إلى الله، ويتضح أيضًا من الإصحاح العشرين من سفر اللاويين؛ حيث ينص على عقوبة الرجم لمن يعطي ابنه قربانًا للرب.

ومع هذا كان بعض أمرائهم ينذر أبناءه ليحرقهم على المذبح قربانًا إلى الله، كما فعل يفتاح ونذر «نذرًا للرب قائلًا: إن دفعت بني عمون ليدي؛ فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة يكون للرب، وأصعده محرقة.»٤

ونعى عليهم النبي أرميا أنهم «بنوا مرتفعات ليحرقوا بنيهم وبناتهم بالنار.»

(٦) الختان

وروى هيرودوت أبو التاريخ أنه سأل الفينيقيين والسوريين عن عادة الختان فقالوا: إنهم أخذوه من المصريين، وإن المصريين كانوا يتحرون به النظافة والطهارة.

وحقيقته التي تدل عليها المقارنة بين العادات أنه اختصار لعادة الضحية البشرية نشأ مع تقدم الإنسان في الحضارة والمدنية.

ففي أقدم العصور كان الفاتح المنتصر يقتل الأسرى قربانًا على محراب إلهه، ثم تدرَّجوا من قتلهم إلى قطع أعضائهم، وتدرَّجوا من قطع أعضائهم إلى قطع غلفتهم، وجعلوا ذلك علامة على تسليم الأعداء بالهزيمة.

ولهذا بدأ الختان بالرجال، ولم تنشأ عادة الختان بالنساء إلا بعد ذلك بزمن طويل.

وانتقل الختان من اعتباره علامة تسليم لإله الأعداء، إلى اعتباره علامة تسليم للإله الذي يعبده أبناء القبيلة، وعندئذ وجب على النساء كما وجب على الرجال.

ومن بقايا عاداته الأولى أن شاءول اشترط على داود أن يقدم له مائة غلفة من الفلسطينيين مهرًا لبنته ميكال، فقدم له مائتين، كما جاء في الإصحاح الثامن عشر من سفر صمويل الأول.

وليس بالصحيح أن الإسرائيليين اعتبروه علامة لقبيلتهم تُميِّز الإسرائيلي من غيره، وإنما الصحيح أنهم اعتبروه علامة تسليم لربهم، وفرضه المكابيون على الأدميين والآتوريين حين هزموهم، وجاء في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر التكوين: أن أبناء يعقوب أوجبوا على الرجل الذي اغتصب أختهم دينا أن يختتن هو وقومه الكنعانيون.

(٧) المعابد والمحاريب

لم يعرف عن قوم إبراهيم — أو المنتسبين إليه على الأصح — أنهم أقاموا لهم هيكلًا قبل الهيكل الذي بناه سليمان عليه السلام.

وكان الخليل يبني المحاريب على الأماكن العالية، ويختار للمحراب موضعًا إلى جوار الشجر والماء، ثم تعددت المحاريب فتعددت المعبودات، وحسب العامة أن كل محراب منها قد أقيم لمعبود غير المعبودات في المحاريب الأخرى، وخلطوا بين أرباب كل إقليم، فعبدوا الأوثان التي كان يعبدها أبناء البلاد الأصلاء من قبلهم، وخيف عليهم الاختلاط والفناء فيمن حولهم من الشعوب، فاجتمعت كلمة الحكماء على تحريم بناء المحاريب في الأماكن العالية، وقصر العبادة والقربان وجميع المراسم الكبرى على هيكل واحد، وكان هذا الهيكل في مبدأ الأمر خيمة تحمل، ثم بُني بالحجارة على رسم الخيمة وتقسيمها.

ولم يكن هذا هو الأثر الوحيد من آثار نظام المعابد في وادي النهرين، فقد بقيت عبادة الأسرة زمنًا طويلًا ممثلة في عبادة الأوثان التي تسمى بالطرافين، وكانوا يعتقدون أن حيازة الطرافين تحفظ لمن يحوزها حقوق الأسرة من الرئاسة إلى البركة والميراث، ولهذا أخذت راحيل الطرافين معها قبل الهجرة من حرانة، وظلوا يحتفظون بالطرافين بين ذخائر الأسرة المقدسة إلى ما بعد السبي كما يُؤخذ من الإصحاح العاشر في سفر زكريا.

(٨) العالم الآخر

ولا يخلو دين أمة قديمة من الإيمان بعالم آخر غير عالم الأحياء؛ لأن الإيمان بالأرواح والأطياف شائع بين القبائل البدائية الأولى، وكلهم كانوا يعتقدون أن الإنسان يبقى بعد موته لأنهم يرونه في أحلامهم، ومن هنا جاءت عبادة الأسلاف.

ولكن الإيمان بالعالم الآخر نوعان: نوع ينظر إلى العالم الآخر كأنه جزء من هذا العالم المشهود، ينتقل إليه الميت للإقامة فيه، وأكثر الأمم القديمة يسميه الهاوية، ويجعله تحت الأرض بعيدًا من النور.

ونوع ينظر إلى العالم الآخر ويؤمن بأنه عالم الحساب والجزاء والتفرقة بين الأبرار والأخيار، وأنه هو عالم الخلود والحياة الباقية بعد الحياة الفانية في هذه الدنيا.

وبين هاتين العقيدتين في العالم الآخر عقيدة متوسطة تجمع بين اعتقاد الهاوية واعتقاد الخلود، فالموتى جميعًا يذهبون إلى الهاوية، ثم ينجو منهم في آخر الزمان من يدينون بالإله الحق، فيعودون إلى حياة كحياة الدنيا، ويتم قضاء الموت الأبدي على الآخرين.

وكانت الديانة البابلية من النوع الأول.

وكانت الديانة المصرية من النوع الثاني.

وكان العبريون يأخذون بجزء من هذه وجزء من تلك، ويدينون بالعودة إلى الدنيا في آخر الزمان، وأن غيرهم من الأمم لا يعودون.

وتراجع الصلوات البابلية اليوم فلا يُرى فيها شيء يُشير إلى النعيم في العالم الآخر، وإنما ينحصر الدعاء في طلب الخيرات الدنيوية، وطول العمر، والسلامة من الأمراض والأحزان.

وكانت طائفة من البابليين الأقدمين تعتقد أن الروح تلازم الجسد بعد الموت، فلا تزال عالقة به محيرة بين هذا العالم والعالم الآخر حتى يبلى رفاته ولا تبقى منه بقية تعلق بها؛ ولهذا كانوا يتركون الموتى للجوارح والوحوش تنهشهم وتبيدهم؛ لتستريح الأرواح من عذاب الحيرة بين الدنيا والآخرة.

(٩) التوحيد

والتوحيد كذلك توحيدان:

توحيد الإيمان بإله واحد خلق الأحياء وخلق معهم أربابًا آخرين.

وتوحيد الإيمان بإله واحد لا إله غيره.

ولم تعرف أمة قديمة ترقت إلى الإيمان بالوحدانية على هذا المعنى غير الأمة المصرية، فعبادة «أتون» التي دعا إليها إخناتون قبل ثلاثة وثلاثين قرنًا كانت غاية التنزيه في عقيدة التوحيد كما عرفها الأقدمون. ومن علماء المصريات — وفي طليعتهم برستيد وويجال — من يرى بعد المقابلة بين صلوات إخناتون والمزامير المنسوبة إلى داود: أن حكماء الإسرائيليين كانوا يطلعون على أسرار المحاريب في مصر، ولا سيما الأسرار التي كانت محجوبة عن الدهماء؛ إذ كانت أسرار الديانة العليا مقصورة على كبار الأحبار وتلاميذهم المختارين.

ومن أسماء الملوك في بلاد العرب الجنوبية يبدو أنهم عرفوا الوحدانية التي يغلب فيها إله واحد على سائر الآلهة، واسم إيلومي إيلوم الذي تولى الملك في بابل الجنوبية معناه أن الله هو الإله الحق، ويقول عبد الله فلبي في كتابه سوابق الإسلام: «إن هذه الكلمة هي شهادة الوحدانية في طورها الأول، ومن مرادفاتها في أسماء الشعب إيل رب، وإيل ملك، وإيل راب، وكلها من قبيل القول بأن الله هو الرب، وأنه هو الملك، وأنه هو الرئيس المطاع، ولا يقال هذا إلا لتغليب إله واحد على سائر الآلهة، أو لنفي صفة الإلهية عن سواه.»

(١٠) الشرائع

ويلحق ببحث الشعائر والعبادات بحث الشرائع والآداب الاجتماعية، وقد وُجد العمود الذي نقشت عليه شريعة حمورابي كاملًا ما عدا سطورًا مطموسة أمكن إتمامها من مصادر أخرى.

وتتضمن هذه الشريعة عقوبة الإغراق للسحر والخيانة الزوجية، والإحراق لمن يختلس مالًا من بيت محترق — وكان للنهر في هذه الشريعة قداسة يمتحنون بها من يلقونهم فيه من السحرة والمسحورين — وفيها عقوبات القتل على السرقة والاغتصاب، ومن غرائبها أنها تعاقب البنت البريئة بذنب والدها؛ «فإذا ضرب رجل بنت إنسان حر ضربًا أسقط حملها؛ فعليه عشرة مثاقيل من الفضة غرامة لإسقاط حملها، فإن ماتت فبنته تُقتل٥ …»
ولا يشبه هذه الأحكام فيما رواه العهد القديم غير عقوبة عاخان؛ لأنه سرق من غنائم القتال في وقعة عاي التي انهزم فيها الإسرائيليون، «فأجاب عاخان يشوع وقال: حقًّا إني قد أخطأت إلى الرب إله إسرائيل … رأيت في الغنيمة رداء شنعاريًّا نفيسًا، ومائتي مثقال من الفضة، ولسان ذهب وزنه خمسون مثقالًا، فاشتهيتها وأخذتها، وها هي مطمورة في الأرض وسط خيمتي والفضة تحتها … فأخذ يشوع عاخان بن زارح الفضة والرداء ولسان الذهب، وبنيه وبناته، وبقره وحميره، وغنمه وخيمته، وكل ماله وجميع إسرائيل معه وصعدوا بهم إلى وادي عخور، فقال يشوع: كيف كدرتنا يكدرك الرب في هذا اليوم؟ فرجمه جميع إسرائيل بالحجارة، وأحرقوهم بالنار ورموهم بالحجارة — وأقاموا فوقه رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم، فرجع الرب عن حمو غضبه٦ …»

ومن أحكام حمورابي في مسائل الزواج تحريم تعدد الزوجات من طبقة واحدة، وتحريم الزواج من الجواري إذا رُزق الرجل أولادًا من زوجته المكافئة له في طبقته، أو من إحدى جواريها.

  • المادة ١٤٤: فإذا تزوج رجل من كاهنة وأعطته جارية، فولدت له الجارية أولادًا، فلا يجوز له أن يتزوج من سُرِّيَّة.
  • المادة ١٤٥: وإذا تزوج رجل من كاهنة ولم تلد له، وأراد أن يتزوج من سرية وأن يئويها في بيته؛ فهذه السرية لا تكون مع زوجته في منزلة واحدة.
  • المادة ١٤٦: وإذا تزوج رجل من كاهنة وأعطته جارية، فولدت له الجارية أولادًا وجعلت نفسها في منزلة السيدة لأنها حملت أولادًا؛ فلا يجوز للسيدة أن تبيعها، بل تُقيِّدها وتُبقيها مع الخدم.

    ولا يجوز حرمان ابن السرية من ميراث أبيه بعد الاعتراف بنسبه.

  • المادة ١٧٠: فإذا كان لرجل أولاد من زوجته وكان له أولاد من سريته، وكان قد ناداهم بأبنائي في حياته، وعدهم مع أبنائه من زوجته، ثم ذهب لقضائه، فالأبناء من الزوجة والأبناء من السُّرِّية يتقاسمون الميراث على السواء، ويختار أبناء الزوجة القسمة والاقتراع.
وتجري المقارنة كثيرًا بين شريعة حمورابي والشريعة العبرية، ويزعم بعض الفقهاء من علماء اليهود المعاصرين أن الشريعة العبرية تخالف شريعة حمورابي في تمييز الأصغر بالميراث، فالأستاذ جوزيف جاكوب يعلل تفضيل إسحاق على إسماعيل، وتفضيل يعقوب على عيسو، وتفضيل يوسف على إخوته، بأن الشريعة العبرية كانت لذلك العهد تأخذ بالحكم الذي كان شائعًا في بعض الشرائع الأولى: وهو اختصاص الابن الأصغر بالحصة الوافية من الميراث Ultimageniture.
قال هذا الفقيه: إن مؤرخي العهد القديم لم يدركوا معنى هذه السنة القديمة، فحاولوا أن يصححوها بالتعليلات التي خطر لهم أنها كفيلة بتصحيحها،٧ ولكن القاعدة تطرد اطرادًا لا يمكن تعليله بالمصادفة، فلما قدم يوسف ولديه منسي وإفرايم إلى أبيه يعقوب ليتلقيا بركته؛ حوَّل الجد يمينه إلى إفرايم، ويساره إلى منسي. وهكذا تولَّى داودُ المُلكَ وهو أصغر أبناء أبيه، وكان جده فارز أصغر التوءمين اللذين ولدتهما تامار بنت يهودا. وقد اتبع داود هذه السُّنَّة فولَّى سليمان عرش الملك من بعده وهو أصغر من أخيه أدوناي.

ويخطر لبعضهم أن هذه السُّنة قديمة في عشيرة الخليل، وأنه هو صلوات الله عليه كان أصغر من أخيه.

•••

وإلى هنا نقف بالمقتبسات من تواريخ الأحافير والتعليقات عليها؛ لأن كشوف الأحافير الأخرى لا تعنينا في موضوع هذه الرسالة، وليس فيها ما يبنى عليه رأي في سيرة الخليل على فرض من شتى الفروض.

١  الدول المدفونة، تأليف: باتريك كارلتون Buried Empires by Patrich Karleton.
٢  ينسب هذا المتحف إلى أشمول Ashmole الذي أهداه إلى جامعة أكسفورد سنة ١٦٧٧.
٣  أصول الشعائر السامية الأولى، تأليف: هوك Origins Of Early Senitic Ritual by Hooke.
٤  إصحاح ٢٠ قضاة.
٥  المادة ٢٠٩ من شريعة حمورابي من كتاب «أقدم شرائع العالم»، تأليف: سترايك إدوارد The World’s Earliest Laws.
٦  سفر يشوع، الإصحاح السابع.
٧  المأثورات الشعبية في العهد القديم، فريزر Folklore in the Old testament by Frazer.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤