الخلاصة
الآن وقد انتهينا من معالم الطريق، كما رسمتها لنا المصادر والتعليقات، يصح أن نبدأ بتلخيص السيرة على هدي تلك المعالم، ويحق لنا أن نقرر «أولًا» أن قرائن الثبوت في سيرة الخليل أقوى جدًّا من كل قرينة للشك ينتحلها من يتحدث باسم العلم، والعلم من حديثه براء.
فالذي يقول: إن وجود الخليل مشكوك فيه من الوجهة العلمية يظلم العلم، ويحمله جريرة لا يحملها؛ لأن سيرة الخليل ليست من السير التي يشك فيها العالم، بل هي سيرة يبحث عنها العالم إن لم يجدها؛ إذ كانت الدعوات النبوية سلالة واحدة يرتبط اللاحق منها بالسابق، ولا يمكن الرجوع ببداءة لها أصدق من بداءتها بدعوة إبراهيم.
•••
إن الدعوات النبوية التي بدأتها دعوة إبراهيم سلالة لم يظهر لها نظير في غير الأمم العربية والأمم السامية، وقد ختمت بدعوة محمد ﷺ، وجاءت دعوة محمد متممة لها، فلا تفهم واحدة منها منفصلة عن سائرها، بترتيب كل منها في زمانها، وعلاقة كل منها بمكانها، فلا لبس فيها من جانب العصر ولا من جانب البيئة.
دعوات لم تظهر في العالم كله على غير هذا النسق؛ لأنها ارتبطت بظاهرة غير متكررة حول مدن القوافل التي اختصت بها بلاد الأمم العربية، وكانت بداءتها في زمانها وعلى ترتيب مكانتها الجغرافية حيث نشأ الخليل إبراهيم، فهي نشأة لازمة في موقعها وفي عصرها. والنشأة التي من هذا القبيل تواجه العلم بحقيقة ضرورية، فلا شك فيها، بل يكون موقفه منها على نقيض الشك من طرف إلى طرف؛ لأنه يبحث عنها إن لم يجدها، وعليه أن يجدها وأن يهتدي إليها.
ومن قرائن الثبوت — كما أسلفنا — أن هذه الدعوات النبوية نسبت إلى أصل واحد، وهو السلالة السامية، قبل أن يعرف الناس علم المقارنة بين اللغات، وقبل أن يعرفوا علامات الوحدة في التصريف والاشتقاق، وقواعد النحو، وحركات النطق، وأجهزة الكلام، فلم يكن في وسع الذين قالوا بوحدة أصلها قبل مئات السنين أن يخترعوا هذه النسبة لو لم تكن نسبة صحيحة في مراجع لا تخترع، ولا يسهل اختراعها.
•••
وعلم المقابلة بين الأديان حديث كعلم المقابلة بين اللغات، فإذا جاء هذا العلم الحديث مطابقًا للأخبار الأولى عن ديانة القوم في عصر إبراهيم؛ فتلك قرينة ثبوت وليست بقرينة شك، ومن خالف ذلك فهو لا يُفرق بين الشك والثبوت.
لم يكن من السهل أن تُوجد في وطن واحد عبادة الكواكب وعبادة الأصنام وعبادة الملوك، وأن تتعدد الأرباب مع تمييز رب منها على سائرها.
ليس من السهل أن يوجد هذا الخليط من العبادات في وطن واحد، فقد يجهل الناس التوحيد ويعبدون الشمس والقمر، أو يعبدون القمر دون الشمس، أو يعبدون القمر ولا يعبدون المريخ والزهرة.
وقد يجهل الناس التوحيد ويعبدون الأصنام، ولا يعبدون معها الملوك، وقد يعبدون أربابًا كثيرة ولا يميزون ربًّا منها على سائرها.
أما عبادتها جميعًا في وطن واحد فهي حالة لا يمكن اختراعها ما لم تكن حقيقة واقعة.
ونحن قد علمنا اليوم أنها حقيقة واقعة لأننا فككنا ألغاز الكتابة، واستخرجنا أسرار الأحافير، وعلمنا منها تسلسل العبادات، واختلاط السكان والحدود، وتطور العقائد على حسب أحوال المعتقدين.
وقد علمنا اليوم أن عبادة القمر سابقة لعبادة الشمس، خلافًا لبادرة الظن الأولى؛ إذ يسبق إلى الخاطر أن الشمس أكبر وأحق أن يُبدأ بها في العبادة.
وفي القرآن الكريم (الأنعام ٧٦–٧٨): فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ.
ومما علمناه اليوم أنهم أقاموا للكواكب تماثيل لا تغيب عن أبصارهم إذا غابت الكواكب، فعبدوها مع عبادة الكواكب علي سبيل التقريب والتمثيل.
وفي القرآن الكريم: (الأنبياء: ٥٢): إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ.
وفيه: (الصافات: ٩٥-٩٦): قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ.
•••
وفي القرآن الكريم (الأنبياء: ٥٨): فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ.
وفيه: (الأنبياء: ٦٢-٦٣): قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ.
أما عبادة الملوك في بابل القديمة، فنحن نعلم اليوم أنهم كانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم هبطوا من السماء بعد الطوفان؛ لأننا قرأنا الآثار وكشفنا عن الأحافير، وادعاء الملوك أنهم آلهة يملكون زمام الحياة والموت وارد في القرآن الكريم: (البقرة: ٢٥٨): إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ.
•••
هذه المطابقات نعلمها اليوم من الكشوف والأحافير، وسواء آمن العالم العصري بالقرآن أو لم يؤمن به، فالمسألة هنا هي مسألة التفرقة بين قرائن الثبوت وقرائن الشك في سيرة إبراهيم، فليس من قرائن الشك على كل حال أن تروى أخبار العبادة عن عصر إبراهيم على الوجه الذي حققته الكشوف الحديثة، وعلى خلاف القصص التي تخترع اختراعًا بغير سند من الواقع؛ لأن الاختراع لا يجمع بين الحقائق المتفرقة من عبادات القوم، وهي عبادة الكواكب، وعبادة الأصنام، وعبادة الملوك وتعديد الأرباب مع تمييز واحد منها على الآخرين، وهي المرحلة البدائية في طبيعة التطور بين التعديد والتوحيد.
قلنا في مقدمة هذا الكتاب: إن الشك في وجود إبراهيم لا يستند إلى سبب؛ لأن الغرائب والخوارق لم تبطل وجود شيء قط، ومنها أثبت ما في السماء؛ وهو الشمس، وأثبت ما في الأرض من صنع الإنسان؛ وهو الهرم الأكبر.
ويحق لنا بعد ما قدمناه أن نقول على الأقل: إن أسباب الثبوت أقوى من أسباب الشك جميعًا إن كانت له أسباب.