العصر
معظم المنقبين يعينون تاريخ إبراهيم في زمن متوسط بين أوائل القرن الثامن عشر وأواخر القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ويجعلونه معاصرًا لدولة الرعاة في مصر ودولة العموريين في العراق.
وولادة الخليل في هذه الفترة ترجحها الكشوف والأحافير، كما ترجحها النتائج التي تمثلت في سيرته عليه السلام، وكلها دلائل على تنازع السيطرة، وتنازع العقائد، واضطراب الأمور، والاضطرار إلى الرحلة الدائمة من أور إلى آشور إلى فلسطين إلى مصر إلى بيت المقدس ثم إلى صحراء الجنوب.
وتقترن زلازل الطبيعة وزلازل السياسة، فلا يستقر لأحد من المقيمين في ديارهم قرار، فضلًا عن القبائل الرحل في طلب المرعى وطلب الأمان.
سقطت دولة بابل وغلبتها عليها قبائل عيلام من الشرق وقبائل عمور من الغرب، وعاش العموريون والعيلاميون تارة في قتال، وتارة في حلف مزعزع؛ خوفًا من دولة الآشوريين في الشمال.
وسقطت دولة مصر وغلبتها قبائل الرعاة، ثم بقيت على خوف وحذر من الشرق ومن فراعنة الجنوب الذين احتفظوا بعروشهم في الصعيد.
وليس أشقى من حياة العشائر الصغيرة بين هذه القلاقل وهذه المنازعات، التي يشترك فيها المغامرون من أبناء العشائر الكبرى وهم يزحفون للسيطرة على الدول كلما سنحت لهم الفرصة العاجلة، ولا يقنعون بالتحول من بقعة إلى بقعة طلبًا للمراعي والأمان.
وكانت عشيرة الخليل صغيرة ولا شك بالقياس إلى العموريين والرعاة وسائر القبائل التي تحتل بقاع الهلال الخصيب.
ولو لم تكن صغيرة لما أمكن أن تهاجر من جنوب العراق إلى شماله، إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط، إلى مصر إلى فلسطين كرة أخرى في حياة زعيم واحد.
وقد ألجأتها المجاعة إلى مصر، ولم تلجأ قبيلةٌ أخرى إلى مثل هذه الهجرة من القبائل التي أصيبت بالمجاعة في صحراء فلسطين.
وحدث غير حادث يدل على قلة هذه العشيرة في عددها وقوتها، وأنها ظلت على هذه القلة بعد أيام إبراهيم وفي أيام يعقوب … ومن أبرز الشواهد على ذلك في حياة البداوة خاصة: أن جيرانها كانوا يجترئون على نساء زعمائها، فطمع أبيمالك في سارة، واعتدى شكيم على ابنة يعقوب، وكانت العشيرة نزيلة إلى جوار الأقوياء الذين يضيفونهم، أو يأبون ضيافتهم كما يشاءون.
وليس أشق من حياة عشيرة صغيرة بين العشائر الكبرى في أيام الزعازع وتقلب السلطان، ولا سيما الحياة إلى جوار البابلية، وكل سلطان جديد هناك فهو رب جديد يدين الناس بالعبادة، ويسومهم أن يسجدوا له، ولا يقنع منهم بطاعة الرعية للرعاة.
وقد حفظ لنا سفر دانيال مثلًا من شتى الأمثلة على قيام هذه العبادات مع قيام السلاطين؛ فإن السلطان الجديد يعلن ولايته بالطبول والزمور، ويفرض على كل مستمع أن يسجد لتمثاله على قارعة الطريق، ومن أبى السجود أحرقوه بالنار.
«فنبوخذنصر الملك صنع تمثالًا من ذهب طوله ستون ذراعًا، وعرضه ستة أذرع، ونصبه في بقعة دورا في ولاية بابل، ثم أرسل ليجمع المرازبة والشحن والولاة والقضاة والخزنة والفقهاء والمفتين وكل حكام الولايات؛ ليأتوا لتدشين التمثال، ونادى المنادي قد أُمرتم أيها الشعوب والأمم والألسنة، عندما تسمعون صوت القرن والناي والعود والرباب والشيطر والمزمار، أن تخروا وتسجدوا لتمثال الذهب، ومن لا يخر ويسجد ففي تلك الساعة يلقى في أتون النار …»
وحفظت لنا الألواح الآشورية صورة جيجو ملك إسرائيل «سنة ٨٤٢ قبل الميلاد» وهو ساجد يقبِّل الأرض بين يدي شلمنصر، ومن ورائه أمراء دولته يحملون الجزية صاغرين … ومن كان يتقاضى الملوك أن يسجدوا له عند تقديم الطاعة ولا جرم يتقاضى الملوك أن يسجدوا له ويعبدوه، وبخاصة حين يؤسس دولة جديدة قامت على أنقاض دولة ذاهبة، ولا بد له من توطيد هيبته، وقمع المخالفين له، وأولهم الذين ينكرون دينه كما ينكرون دنياه.
والحوادث التي أحصاها لنا الرواة من سيرة إبراهيم خليقة أن تحدث في مثل تلك الفترة، سواء منها ما حدث في العراق أو ما حدث في الطريق إلى وادي النيل.
وربما صح أنه عاصر حمورابي أو كان في عصر قريب من عصره، ولكن الأحوال لم تتغير قبل عصر حمورابي وبعد ولايته بسنوات، فهي أحوال الدولة المتبدلة والسيطرة المتقلبة، ومن علاماتها الكبرى أنها تدعو حمورابي إلى نقش أحكام شريعته، وإقامة الأنصاب التي تذكِّر الناس بتلك الأحكام، ولا يكون ذلك إلا آية من الآيات على أن الشريعة قد نُسيت وهانت واحتاجت إلى تذكير.
إن كانت شريعة جديدة فموعدها القمين بها زمان كذلك الزمان.
وقد كان إبراهيم زعيم قبيلة بادية، وكان تهافت العروش، وتبدل العبادات والكهانات من حوله خليقًا أن يريبه في أمرها، وأن يحبب إليه النجاة من طوارقها وطوارئها، وكانت القبائل القوية حول العواصم تتنازع السلطان، فهي في شاغل بالسيطرة عن العبادة. أما العشيرة الصغيرة فهي مغلوبة على مرافقها وعلى ضمائرها، ولا عصمة لها إلا أن تعتصم بإله أقوى من الغالبين ومن المغلوبين: إله لا تحصره هياكل العاصمة وتماثيلها، ولا يتغير من بادية إلى بادية فوق بطاح الصحراء وتحت قبة السماء …
إن وجود إبراهيم في عصر كذلك العصر حقيقة لا غرابة فيها، ولا محل فيها لاختراع المخترعين.