النشأة
من الحقائق ما ينبذه السامع لأنه على قربه لم يلتفت إليه.
كان جندي أوروبي يقدح في الشرق وأبنائه وكل ما فيه أثناء الحرب العالمية الأولى، ويقول: إنه مباءة السوء فلا يخرج منه شيء حسن، ولا يأتي منه خير …
وقال له محدثه: إنك تدين بدين جاء من الشرق!
فوجم الرجل وأخذته الدهشة؛ لأنه لم يتنبه إلى هذه الحقيقة لحظة واحدة طول حياته، وهو يدين بدين السيد المسيح، ويستمع إلى الإنجيل كلما ذهب إلى الكنيسة …
ومثل هذه الحقيقة ما ذكرناه آنفًا عن نسبة إبراهيم العربية؛ فإنها أصح نسبة ينسب إليها، ولكنها تبدو لمن يسمعها كأنها غريبة يُقال لمن يزعمها: من أين جئت بهذه الأحدوثة التي لم نسمعها قبل الآن؟!
فلا يقال عن إبراهيم: إنه إسرائيلي؛ لأن يعقوب هو أول من تسمى بإسرائيل، ويعقوب حفيد إبراهيم.
ولا يقال عن إبراهيم: إنه يهودي؛ لأن اليهودي يُنسب إلى يهودا رابع أبناء يعقوب، ولم يكن يُنسب إليه إلا بعد أن أصبح اسمه علمًا على الإقليم الذي قسم له عند تقسيم الأرض بين أبناء يعقوب.
ولا يقال عنه: إنه عبري إذا كان المقصود بالعبرية لغة مميزة بين اللغات السامية تتفاهم بها طائفة من الساميين دون سائر الطوائف، فإن إبراهيم كان يتكلم بلغة يفهمها جميع السكان في بقاع النهرين وكنعان، ولم تكن العبرية قد انفصلت عن سائر اللغات السامية في تلك الأيام.
وقد يقال عنه: إنه ساميٌّ ينتمي إلى سام بن نوح، ولكنها نسبة إلى جد وليست نسبة إلى قوم، وقد تكلم باللغة السامية أناس كالأحباش ليسوا من السريان، ولا من الآراميين ولا الحميريين.
فإذا فتشنا عن نسبة لإبراهيم لم نجد أصدق من النسبة العربية، كما كانت العربية يومئذ بين جزيرة العرب وبقاع الهلال الخصيب.
وأصح التقديرات أنه نشأ في أسرة حديثة عهد بالهجرة من شمال اليمن إلى جنوب العراق، وكانت هذه الأسرة مع الذين جاءوا من «أرض البحر»، كما كان البابليون يسمون العرب المقيمين على مقربة من خليج فارس. وقد وردت أسماء العرب التي لا شك فيها بين الأسر المالكة في جنوب بابل خلال عهد طويل يحيط بعصر إبراهيم على أقدم تقديراته، فلم يمض على أسرته بمدينة «أور» زمن يفصله من عشيرته البادية، وينسيها معيشة البداوة التي تستجيب للهجرة من أقصى الجنوب في العراق إلى أقصى الشمال، ومن جملة أخباره يتبين أنه عليه السلام قد نشأ على مفترق طريق بين جميع العهود.
مفترق طريق بين عهد الكنانة وعهد النبوة، ومفترق طريق بين إباحة القرابين البشرية وتحريمها، ومفترق طريق بين التعديد والتوحيد، ومفترق طريق بين الإيمان بالهاوية والإيمان بالحياة الأخرى.
ومفترق طريق في عبادة الأسرة الواحدة، فلا تلبث الأسرة الواحدة أن تختلف بين طريقين: أب وابنه، وأخ وأخوه.
وتاريخ بابل يومئ إلى عصر قريب من القرن التاسع عشر قبل الميلاد يصح أن تفترق فيه جميع هذه الطرق.
ففي حوالي هذه الفترة ضاعت هيبة الهياكل، وسقطت مكانة كهانها، وندرت القرابين في محاريب الدولة، وتحولت إلى مدافن الأسرة حيث تسكن الأسرة مع موتاها في دار واحدة.
وحوالي هذه الفترة تعاقبت الدول، وتناقضت أوامر العبادة، وتصارع الأرباب فاستحقوا سخرية العباد أجمعين.
وانتهى قبل ذلك عهد الملوك الذين كانوا يسومون وزراءهم وحواشيهم أن يدفنوا أنفسهم معهم وهم بقيد الحياة، وبطل إيمان العلية بالحياة بعد الموت في جوار هؤلاء الملوك، فتفتحت الأذهان لسماع شيء جديد عن اليوم الآخر ومعنى الخلود بعد الفناء.
ولعل الصابئة كانوا في ذلك العصر يدينون بالبقايا المصفاة من هذه العبادات، ولعلهم خلطوا من أجل ذلك بين إنكار الكهانة وإنكار النبوة، فإذا جاءهم إبراهيم بأول دعوة نبوية لم يميزوا بينها وبين الكهانة التي أنكروها على كُهَّان الهياكل المتداعية والمحاريب الدائرة. ولعل إبراهيم قد يئس منهم فاتجه إلى قبلتهم العليا شمالًا حيث كانوا يتجهون إلى نجم القطب أثبت النجوم، عسى أن يستمع إليه أصحاب القبلة، وأن يكونوا على استعداد للتفرقة بين الكهانة والنبوة، فلا يشق عليهم أن يفهموا وحي الله إلى النبي كما شق عليهم أن يفهموا أن الكهان يتلقون الوحي من الله، وليس بالعسير علينا في العصر الحاضر أن نصوِّر لأنفسنا معيشة أبناء العشائر بين الحاضرة والبادية.
فرؤساء العشيرة يقيمون بالمدن، وتستبقيهم الدولة فيها، ولا تضن عليهم بالرئاسة التي تعينهم على حكم العشيرة في بداوتها، وأبناء العشيرة يروحون ويغدون بين الصحراء والحاضرة ليعرضوا على أولئك الرؤساء مطالبهم عند ذوي السلطان، ويعقدوا صفقات القوافل أو يبتاعوا حاجتهم في حلهم وترحالهم، فلا تنقطع الصلة بينهم وبين رؤسائهم، ولا تنقطع خصوماتهم التي تلجئهم إليهم، وما انقطعت خصومات أهل البادية قط بين أنفسهم أو بينهم وبين العشائر من حولهم، فهم أبدًا على مطلب من الحكام وشفاعة عند الرؤساء.
وأقلق ما تكون حياة العشيرة البادية حيث تطغى عليها عشيرة أقوى منها، ويبلغ من قوتها أن تسيطر على الدولة في عواصمها، وهكذا كانت حياة العشيرة التي تولاها إبراهيم وأبوه أيام طغت على مدينة «أور» أفواج من العيلاميين وأفواج من العموريين، ولم ينفتح أمامها سبيل الهجرة غير سبيل الشمال.
ومن اليسير أن نتخيل هنا حنكة الأب وثورة الفتى بين تداول الدول وتساقط الحكومات، فالأب يتابع سادات الوقت، ويجري معهم فيما يجرون فيه، والابن يأبى إلا ما اعتقد، وينفر من المراء والرياء، ويحفزه إلى الشمال أمل في صلاح العقيدة، وأمل في صلاح الحكومة، ثم ينقاد الأب بعد طول اللجاج؛ لأن الحنكة لا تغني عنه شيئًا مع فساد الأحوال، وتفاقم الخطر من الأقوياء عن اليمين وعن اليسار.
وإذا صح أن أبا إبراهيم كان أمينًا لبيت الأصنام، وكان يصنع الأصنام على يديه؛ فليست الحنكة وحدها هي التي تدعوه إلى المحافظة على تقاليد العبادة القائمة، بل له مع الحنكة داعٍ آخر من المصلحة والمنزلة الاجتماعية، ويغلب إذن أن يكون إبراهيم قد تربى للإمامة الدينية، وتعلم العلوم التي كانت شائعة بين طبقة الرؤساء الدينيين، ومنها علم الفلك والطب والتعاويذ ورقي الأسماء.
واسم إبراهيم من الأسماء التي تنبئ عن نشأة دينية؛ لأنه — على أرجح معانيه — يفيد معنى حبيب الله. وقد كان قدماء السريان يطلقون اسم رأس الأسرة مجازًا على الإله المعبود، فيسمونه الأب تارة، والعم تارة أخرى، وربما كان العم أغلب على هذا المعنى؛ لأن الرجل ينادي كل شيخ مبجل ﺑ «يا عم ويا عماه» … ومن هنا اسم عمرام وإبرام، ركب كلاهما من العم والأب، ومن كلمة رام التي تعني المحبة. ولعل التغيير الذي طرأ على اسم إبرام إنما استُحْدِث لكي يفيد معنى حبيب الله بدلًا من حبيب الإله الذي كان يعبده أبوه في معابد الوثنية.
وعلى أن التعليم لم يكن مقصورًا على أبناء الكهان؛ فإن المثقفين الأثريين كشفوا عن أبنية ضخام كانت معدة للمكتبات والمدارس العليا، ولم يكن من النادر أن يتعلم أبناء العلية دروس الفلك والرياضة والتشريع التي ترشحهم لمناصب الدولة. واهتداء إبراهيم إلى حقائق الأجرام العلوية من طريق الفلك أمر معقول في زمانه على الخصوص؛ فإنه زمان تبددت فيه هالات الربوبية من حول الملوك، وهبطت فيه منزلة الكهانات العليا، وتصارعت فيه العقائد بين غالبة ومغلوبة، وبين متأصلة في العواصم ومقتحمة عليها، ونظر فيه المثقفون إلى الكواكب نظرة جديدة فجعلوها صورًا للأرواح النورانية، ونزلوا بها من علياء الربوبية إلى مرتبة الخلائق المسخرة في الملأ الأعلى؛ فإن لم يكن مذهب الصابئة قد تم واستقر في ذلك العهد، فقد كانت له بداءة تحوم على هذه المعاني وتستشرف لما وراءها، لولا ذلك لما بقيت السريانية القديمة لغة مقدسة في كتب هذه النحلة؛ إذ كانت السريانية القديمة أعرق من السريانية المتشعبة منها، ولا يمكن أن تنعزل الطائفة الصابئية بتلك اللغة الأولى ما لم تكن بداءتها ممعنة في القدم إلى ما قبل تدوين اللهجة السريانية الحديثة.
ومن البديهي أن العقائد التي تدعمها الدولة لا تنهدم بضربة واحدة، ولا تولي أدبارها لكل منكر يجترئ عليها، فقد لقي إبراهيم عنتًا شديدًا من تلك العقائد المتداعية، وأشد ما تكون العقيدة دفاعًا عن نفسها حين يشتد الخطر عليها، وتحس في قرارة حصنها أن الضربة تصيبها وتزلزل أركانها.
وينبغي للناقد العصري أن يلمح شيئًا يستوقفه في قصة إبراهيم ووعيد الدولة له بالإحراق إن لم ينته عن تسفيه أربابها.
فمن المسلَّم أن الإحراق عقوبة مقررة في شريعة بابل، وأن النار لم تكن مجهولة في بلد من بلاد الأنبياء الآخرين، ولكنهم لم يتعرضوا للإحراق في غير أرض بابل، ولم يرد خبر قط عن نبي غير إبراهيم توعده قومه بإحراقه، ومنهم من نشأ في بلاد تحرق القرابين الحية في المحاريب، فليست أخبار الأنبياء إذن مما يُرسَل جزافًا، أو مما تنقطع فيه المناسبة بين النبي والبلد الذي يُبعث إليه.
وسيأتي الكلام عن معجزات إبراهيم في موضعه، ولكن موضع الالتفات هنا لمن يصطنع الدراسة العلمية أن يلاحظ شواهد هذا الانفراد بعقوبة الإحراق في قصة إبراهيم دون قصص الأنبياء.
والعبرة من هذه الملاحظة وأمثالها أن الناقد العلمي مسئول أن يتقصى من الأخبار الأولى مقدار ما فيها من الثبوت، وليست مهمته كلها أن يأباها جميعًا لأنه وجد فيها شيئًا يأباه.