الجنوب
انفردت المصادر الإسلامية بأخبار إبراهيم في الحجاز، وعلَّق بعض المؤرخين الغربيين على هذه الأخبار بشيء كثير من الدهشة والاستنكار، كأن المصادر الإسلامية قد نسبت إلى إبراهيم خارقة من خوارق الفلك، وأسندت إليه واقعة بينة البطلان بذاتها وغير قابلة للوقوع … ووضح من أسلوب نقدهم أنهم يكتبون لإثبات دين وإنكار دين، ولا يفتحون عقولهم للحقيقة حيث تكون، فضلًا عن الاجتهاد في طلب الحقيقة قبل أن يوجههم إليه المخالفون والمختلفون.
أما الواقع الغريب حقًّا فهو طواف إبراهيم بين أنحاء العالم المعمور ووقوفه دون الجنوب لغير سبب، بل مع تجدد الأسباب التي تدعوه إلى الجنوب ولو من قبيل التجربة والاستطلاع.
ولم يكن لإبراهيم وطن عند بيت المقدس، سواء نظرنا إلى وطن السكن، أو وطن الدعوة، أو وطن المرعى، فالمتواتر من روايات التوراة أنه لم يجد عند بيت المقدس مدفنًا لزوجه، فاشتراه من بعض الحيثيين.
أما الدعوة الدينية فقد كانت الرئاسة فيها لأحبار إيل عليون، وكان إبراهيم يقدم العشر أحيانًا إلى أولئك الأحبار.
هناك أسباب دينية غير هذه الأسباب الدنيوية توحي إليه أن يجرب المسير إلى الجنوب، حيث يستطيع أن يبتني لعبادة الله هيكلًا غير الهياكل التي يتولاها الكهان والأحبار من سادة بيت المقدس في ذلك الحين، فقد بدا له أن إقامة المذابح المتعددة فتنت أتباعه، وجعلتهم يتقربون في كل مذبح إلى الرب المعبود بجواره. ومثل هذه الفتنة بعد عصر إبراهيم قد أقنعت حكماء الشعب بحصر القربان في مكان واحد، فاتخذوا له خيمة وانتظروا الفرصة السانحة لبناء الهيكل حيث يقدرون على البناء.
فإن كان هذا الخاطر لم يخطر قط في نفس إبراهيم، فذلك هو العجيب الذي يستوقف النظر من سيرة رسول وزعيم، ولكن الرسالة والزعامة معًا توحيانه إليه ولو مرة من المرات وهو على أهبة الرحلة والاستطلاع.
ومثل ذلك الخاطر خليق أن يتجه به إلى الجنوب ثم إلى الجنوب؛ إذ لم يبق له مكان لهذه التجربة غير الجنوب، بعد أن هجر العراق وعاد من مصر ولم يجد عند بيت المقدس حوزة يقام فيها هيكل مقصود.
وواضح من تواتر روايات التوراة والمشنا والتلمود أن اللهج ببيت المقدس إنما جاء متأخرًا بعد عصر إبراهيم وعصر موسى بزمن طويل، وأنه جاء مع عصر المملكة الإسرائيلية، وعملت فيه السياسة عملها المعهود.
فبعد موسى بعدة قرون بقيت أورشليم في أيدي اليبوسيين، واستولى بنو بنيامين على جيرتها، ولكنهم لم يطردوا منها اليبوسيين … «فسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم إلى هذا اليوم» أي إلى الأيام التي كتب فيها سفر القضاة من العهد القديم.
ثم تغلب بنو يهوذا على المدينة فدمروها وأحرقوها ولم يقيموا فيها، وعاد اليبوسيون فجددوا بناءها وسكنوها إلى أيام الملك شاءول، ثم استولى عليها داود فاتخذوها عاصمة، وبنى فيها سليمان هيكلها المشهور.
فلم يكن لأورشليم هذا الشأن في حياة إبراهيم ولا في حياة موسى، ولم يكن لها هذا الشأن من القداسة بين جميع بني إسرائيل حتى في عهد داود … أما «الجنوب» المسكوت عنه، فقد كان له شأنه من القداسة إلى أيام أرميا وما بعدها، وكانت كلمة «تيمان» مرادفة لكلمة الحكمة والمشورة الصادقة، وهي تُقابل كلمة «يمن» في اللغة العربية بجميع معانيها، ومنها الإشارة إلى الجنوب؛ ففي سفر التثنية يقال على لسان موسى: «جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من جبل السعير.»
وفي سفر حبقوق: «الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران.»
وأوضح من ذلك قول أرميا متسائلًا في مراثيه: «ألا حكمة بعد في تيمان؟ هل بادت المشورة من الفهماء!»
وأيسر ما يستوحيه طالب الحقيقة أن يتساءل: كيف يكون هذا الجنوب موصدًا في وجه إبراهيم؟ وكيف يطوف الأقطار جميعًا ولا ينفتح له الباب الذي لا موصد عليه؟! إن كان أحد الطريقين مفتوحًا أمامه فليس هو طريق بيت المقدس، بل طريق الحجاز.
وفي هذا الطريق سلك الأنبياء، وذكرت المصادر الإسرائيلية منهم من بلغ مدين، وذكرت منهم من لعله أقام في نجد، أو لعله أقام وراءها من البلاد العربية … ولم تذكر المصادر الإسرائيلية صالحًا ولا هودًا ولا ذا الكفل ولا غيرهم من الأنبياء.
فموضع التساؤل هو السكوت عن الناحية، وليس هو الذكر الذي توحيه البداهة، ويوحيه المعلوم من أطوار البعثات الدينية والرسالات النبوية.
ونقول: إن السكوت موضع تساؤل، وهو في الحقيقة غني عن التساؤل: لأنه معلوم السبب والغاية، وحسبنا من التساؤل أن ينتهي بنا إلى سبب معلوم، وغاية مرسومة.
إنما العجب من ذوي الدعوى باسم البحث العلمي أن ينتظروا الخبر ممن يقضي على دعواهم كلها إذا رووه، ويثبت دعواهم كلها إذا نفوه.
ومن الذي يكتم مسير إبراهيم إلى مكة إن لم يكتمه الذين ينقضون دعواهم كلها بإثبات ذلك المسير؟
على أن الباحث الذي يتحرى المعرفة لا يصح أن يقف عند النفي ثم يسكت على ذلك ولا يحاول الإثبات ما استطاع.
ها هنا رواية عن نشأة الكعبة في الحجاز على عهد إبراهيم، فمن ينكرها فعليه أن يثق أولًا من أسباب إنكارها، وعليه بعد ذلك أن يعرفنا بما هو أصح في التاريخ وأولى بالقبول.
ونفرض أن إبراهيم لم يصل إلى الحجاز لأن المصادر الإسرائيلية لم تذكر رحلته إلى الحجاز، ووقفت بها عند جيرار وقادش وبلاد أدوم.
ونفرض أن هذا سبب كافٍ لنفي الرحلة من الوجهة العلمية، فهذه الكعبة قائمة تحتاج إلى بانٍ يبنيها، فمن الذي بناها؟
إن روايات هؤلاء القوم الأميين — قوم مكة في الجاهلية — تذكر لنا أن مكة عمرت قديمًا بأناس من اليمن ثم أناس من النبط، وكل معلوم عن أحوال الحجاز يعزز هذه الروايات، فإن أقام مقيم في مكة فسبيله أن يأتي إلى وسط الحجاز من الطرفين، وهما: طرف اليمن في الجنوب، وطرف النبط في الشمال.
أما النبط في الشمال فمكة هي طريقهم، ولا مزاحمة عليها منهم، وآثارهم الباقية في البتراء تنطق بالمشابهة بينهم وبين الحجازيين في العبادة واللغة والسلالة، والنسَّابون من الحجاز يقولون: إنهم نبط، وإنهم أخذوا الأصنام من النبط، وجميع المصادر بعد ذلك تقول: إن النبط هم ذرية نبات بن إسماعيل.
ومن النظر العلمي أن يجتهد الباحث هذا الاجتهاد، وأن يلتفت إلى كل باب من هذه الأبواب؛ لأن الالتفات إليها واجب عليه، ومن التقصير أن يكون أمامه باب واحد يبحث فيه عن الحقيقة التاريخية، ثم يهمله ليستخرج منه غاية ما يخرجه من الثبوت أو من الفرض والاحتمال.
أما الأمر الذي لا يتفق مع العلم ولا مع الواقع، فهو القول بأن إبراهيم لم يذهب إلى الحجاز؛ لأن المصادر الإسرائيلية خلو من هذا الخبر، ثم يكتفي القائل بقوله فلا يضع أمامنا بديلًا منه أولى بالأخذ به.
إن إبراهيم صاحب دعوة دينية، وليس في المصادر الإسرائيلية ما يدل على أنه قد صنع شيئًا لنشر دعوته، وكل ما ورد عنه في هذا الكتاب أنه أقام مذبحًا في كل منزل من منازل الطريق، ثم ترك البلاد جميعًا في رعاية الأحبار الذين كانوا مؤمنين ﺑ «إيل عليون» قبل وفوده إلى كنعان، وليس في ذلك مقنع لصاحب دعوة دينية يغادر دياره في سبيل هذه الدعوة.
فأقرب ما يرد على الخاطر أن إبراهيم قد ذهب إلى حيث يصنع شيئًا باقيًا في سبيل دعوته، ولا مذهب له إذن إلى غير الحجاز. وهذه هي تتمة السيرة التي لا بد منها في حياة نبي ينتمي إليه سائر الأنبياء، وإلا كانت نسبة الدعوة إليه من أعجب الأمور.
وقد جاء في المأثورات جميعًا أن إبراهيم شهد عصر الكوارث والرجوم في مدن فلسطين الجنوبية، وبقيت آثار البتراء «سلع» إلى اليوم، وفيها أنصاب من هذه الرجوم في أماكن العبادة، حفظوها تذكيرًا لأنفسهم بقضاء الله؛ لأنها هبطت من السماء عقابًا للمذنبين.
هذه القرائن المتجمعة يجب أن تستوقف نظر الباحث المنزَّه عن الغرض، وأيسر ما فيها أنها تدفع الغرابة عن رحلة إبراهيم إلى الحجاز، وأنها هي وحدها تحقق له صفة العمل على الدعوة الدينية.
وقد جاء الإسلام مُثبتًا رحلة إبراهيم إلى الحجاز، وأثبتها ولا شك بعد أن ثبتت مع الزمن المتطاول؛ لأن انتساب أناس من العرب إلى إبراهيم قد سبق فيه التاريخ كل اختراع مفروض، ولو تمهل به التاريخ المتواتر حتى يجوز الاختراع فيه لأنكرت إسرائيل انتساب العرب إلى إبراهيم، وأنكر العرب أنهم أبناء إبراهيم من جارية مطرودة، وليس هذا غاية ما يدَّعيه المنتسب عند الاختراع.