الفصل الحادي والعشرون

خاتمة المطاف

وينتهي المطاف بقصة الخليل إلى العصر الحاضر.

وينتهي إلى العالم الحديث وفيه ألف مليون إنسان، يقرءون قصتهم وقصة آبائهم وأجدادهم في العقيدة الإلهية حين يقرءون قصة الخليل.

ومن مبدئها كان مبدؤهم في الإيمان بالوحدانية.

ومن مبدئها وهي تمتزج بكل ما استطاع آباؤهم وأجدادهم أن يمزجوها به من صوابهم وخطئهم، ومن علمهم وجهلهم، وصدقهم ووهمهم، ومن أفكارهم وأساطيرهم، ومن كل ما يفقهون وما لا يفقهون تراث ضخم غاية في الضخامة.

فكيف انتهى به المطاف بعد أربعة آلاف سنة، أو دون ذلك، أو فوق ذلك بقليل؟

•••

كيف توزن كفَّتاه: كفَّة الصواب والعلم والصدق والإنكار، وكفَّة الخطأ والجهل والوهم والأساطير؟

إنها النفس البشرية بما لها من قوام صالح وغير صالح.

وإنها لن تنفصل شطرين يوضع أحدهما في كفَّة، ويوضع الآخر في كفَّة تقابلها.

بل خذها جملة أو انبذها جملة، ووازن بين الغُنم والخسارة في الحالتين.

ومن يفطن لما حوله يفطن لهذا الشأن في كل عقيدة عظيمة، وكل فكرة عظيمة، وكل فاتحة عظيمة تتلوها الخواتيم على قدرها من العظمة.

فالنوع البشري لم يشرب قط فكرة عظيمة مع جرعة ماء، ولم يستكمل عقيدة عظيمة بين ليلة وصباح.

وندع الغيب وعلوم الأبد وننظر إلى الدنيا المشهودة ومادتها التي تتناولها الأيدي كل يوم.

فمن أقدم القدم نظر الإنسان في بنية المادة، ثم انقضى عشرون ألف سنة يصيب فيها ويخطئ ولمَّا يُدرك خصائص الذرة جميعًا، ولمَّا يفقه من خصائصها التي عرفها سرًّا لها وراء القشور.

وندع الزمن وتياراته الخفية وننظر إلى المكان وتياراته التي تقاس وتُكال.

يهبط ماء النيل ماء طهورًا من السماء، ويخترق الثرى فيأخذ من كل ما فيه من تراب وأذًى، ومن صفاء وكدر، ويستفاد من الخليط كما يستفاد من الصفاء.

وهكذا كل ما يعبر طبيعة الإنسان وطبيعة الأرض، وطبيعة الدنيا وما فيها من أتربة الزمان وأتربة المكان.

•••

تقبلها جملة أو ترفضها جملة، وتوازن بين الغُنم والخسارة في الحالتين.

وازعم — إن شئت — أنه غُنمٌ أنت مخدوع فيه، ولكن تزعم أيضًا أنك مخدوع في حب حياتك، فليست هي أفضل حياة، مخدوع في حب نسلك، فليس هو أولى بالبقاء في جميع الأحياء … مخدوع في هذه الألوان والأصوات، فليست هي ألوانًا ولا أصواتًا، ولكنها هزات في الفضاء أو هزات في الهواء، وأنت مع هذا لا تعرف شيئًا ما لم تعرفها بهذه الأسماء.

ولقد مرَّت بنا في أبواب هذه الرسالة أخلاط من طبائع الملايين يمزجون بها عقائد الروح، وأقداس الضمير، ولا ينفصل المزيج من المزيج في روح ولا ضمير.

من يقبلها جملة يبقى له تاريخ الإنسان كما كان، وكما هو الآن، ومن يرفضها جملة ماذا يبقى لديه؟

إن عليه أن يذكر ماذا يرفض ليذكر ماذا يبقى.

إنه لا يرفض الدنيا بتواريخ الدول والحضارات وكفى.

إنه ليرفض هذه ويرفض معها كل بارقة أمل، وكل نفحة عزاء، وكل هاجسة سر، وكل ركن من أركان الثقة والعزيمة أخذه الإنسان من الدين، وأخذ منه أعمالًا وأحلامًا، وخلائق وأطوارًا، وبواعث وأفكارًا لا تحصيها الأوراق كما تحصي تواريخ الدول والحضارات.

ولا يزال في جوانب الأرض من يعبد الحجر.

ولا يزال في جوانب الأرض من يقدح النار من الحجر.

ولا غضاضة من هذا وذاك على ودائع الكهرباء في الكون، ولا على عقيدة التوحيد في أعلى مراتب التنزيه.

وإن في العالم اليوم لمن يعيش فيه وكأنه لم يُولد فيه إنسان يُسمى إبراهيم.

•••

وربما بقي في العالم شبيه هذا الرجل بعد ألف سنة.

بل ربما كان هذا الرجل خيرًا من ألوف يضلون بالنبوءات والأنبياء حيث يهتدي المهتدون.

ولكنهم يسقطون من الحساب.

ويذكر في الحساب ألوف الملايين في مائة جيل يقرءون قصة ضمائرهم حين يقرءون قصة إنسان واحد مضى ولم يمضِ لسبيله، بل مضى على سبيله دعاة وهداة، ولا يزالون ماضين وحاضرين.

أليس هذا الإنسان حبيب الإنسان؟

أليس هذا الإنسان حبيب الرحمن؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤