المراجع المسيحية
المصادر المسيحية المتفق عليها بين الكنائس هي الأناجيل الأربعة وما يلحق بها من أقوال الرسل والحواريين، وهي المعروفة بالعهد الجديد.
وهذه الكتب لم تزد شيئًا على سيرة الخليل كما جاءت في سفر التكوين وبعض كتب العهد القديم، ولكنها جاءت بتطور هام في دعوته كما تلقاها اليهود في عصر الميلاد. ويبدو هذا التطور الهام في مسائل ثلاث من كبريات المسائل الدينية؛ وهي: مسألة الحياة بعد الموت، ومسألة الوعد الإلهي للشعب المختار وعلاقته بالقومية أو الإنسانية، ومسألة الشعائر وعلاقتها بالروحانيات والجسديات.
ففي عصر الميلاد كانت طائفة كبيرة من اليهود، وهي طائفة الصدوقيين، تنكر القيامة بعد الموت، ولا ترى في الكتب الخمسة دليلًا واضحًا عليها، وكانت الطوائف الأخرى تؤمن بالثواب والعقاب على الجملة، ولكنها لا تتوسع في وصفهما، ولا ترجع في هذا الوصف إلى سند متفق عليه.
وكانوا إذا وصفوا سوء المصير عبروا عنه بالذهاب إلى الهاوية «شيول»، وإذا وصفوا الرضوان قالوا عن الميت: إنه انضم إلى قومه أو اجتمع بقومه، وفي أذهانهم صورة غامضة عن وجود هؤلاء القوم في عالم غير عالم الحياة الدنيا.
وانتشرت بين أهل فلسطين من اليهود وغيرهم عقائد المصريين في اليوم الآخر؛ لأنهم كانوا يترددون على الإسكندرية، كما كان أهل الإسكندرية يترددون عليهم، ولم تكن في العالم معاهد للثقافة والبحث أكبر من معاهدها، غير مستثنًى من ذلك رومة ولا أثينا ولا المدن الشرقية التي كان لها قبل ذلك شأن مذكور في العلم والفن والحكمة، وانتشرت بينهم كذلك عقائد الفلاسفة اليونانيين في خلود الروح، والتمييز بينها وبين الأجساد التي يعرض لها الفناء.
فلما ظهرت الدعوة المسيحية جاءت بوصف للعالم الآخر لم يكن معهودًا في كتب اليهود، ولكنه وصف لا سبيل لهم إلى الاعتراض عليه؛ لأنه قائم على قاعدة من دعوة إبراهيم؛ ففي مسألة الحياة بعد الموت ضرب لهم السيد المسيح مثل إبراهيم ولعازر والرجل الغني في العالم الآخر فقال: «كان إنسان غني يلبس الأرجوان والبز، وينعم كل يوم في رفاهة، وكان عند بابه رجل مسكين مطروح مضروب بالقروح، يشتهي أن يشبع من الفتات الساقط من مائدته، بل كانت الكلاب تأتي وتلحس قروحه، فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، ومات الغني ودفن، فرفع عينيه في الهاوية وهو يتعذب، ورأى إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه، فنادى وقال: يا إبراهيم، ارحمني، وأرسل لعازر ليبل طرف أصبعه بماء ويبرد لساني؛ لأني معذبٌ في هذا اللهب.
فقال إبراهيم: يا ابني، اذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك واستوفَى لعازر بلاياه، والآن هو يتعزى وأنت تتعذب، وفوق هذا بيننا وبينكم هوة عظيمة قد أثبتت، حتى إن الذين يريدون العبور من ها هنا إليكم لا يقدرون، ولا الذين من هناك يجتازون إلينا، فقال: أسألك إذن يا أبت أن ترسله إلى بيت أبي؛ لأن لي خمسة إخوة يشهد لهم لكيلا يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هذا.
كان رجاء الحياة بعد الموت مقصورًا في أيام العهد القديم على البعث الذي سيعقب ظهور المسيح، ولكن الكلام عن السماء والجحيم وحضن إبراهيم كان شائعًا على عهد عيسى «عليه السلام» بين طوائف من اليهود، ومن ثم مثل الغني ولعازر في إنجيل لوقا، وفيه يقول عيسى: فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، ومن هذه العبارة أصبح إبراهيم مرادفًا لمعنى النعيم أو السماء.
وقد ورد في سفر أيوب أن نفسه سترى الله بغير الجسد، حيث يقول في الإصحاح التاسع عشر: «وبعد أن يفنى جلدي هذا، وبدون جسدي، أرى الله» … وورد في المزمور السادس عشر: «إنك لن تترك نفسي في الهاوية» … وورد في الإصحاح الثاني عشر من سفر دانيال: «وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون؛ هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار …»
ولكن ورد في سفر التكوين أن الهاوية مصير جميع الموتى، وجاء على لسان يعقوب، في الإصحاح السابع والثلاثين، وهو يبكي على يوسف: «وقال: إني أنزل إلى ابني نائحًا إلى الهاوية.»
وهكذا جاء على لسانه في الإصحاح الثاني والأربعين: «تنزلون شيبتي بحزن إلى الهاوية.»
وجاء على لسان أيوب في الإصحاح الرابع عشر: «ليتك تواريني في الهاوية وتخفيني إلى أن ينصرف غضبك، وتُعيِّن لي أجلًا فتذكرني.»
وإنما يأتي البعث من القبور بعد ظهور المسيح كما جاء في الإصحاح السابع من سفر دانيال: «والمملكة والسلطان وعظمة المملكة تحت كل السماء تعطي لشعب قديسي العلي.»
وكل ما ورد في العهد القديم باسم جهنم، فهو في الأصل العبري باسم شيول أو الهاوية.
أما عقيدة الحياة بعد الموت للأبرار والأشرار، فقد وضحت في عصر المسيح على نحو لم يكن معروفًا قبله، ولم يكن المفهوم في ذلك العصر أن الأبرار يذهبون فعلًا إلى صدر إبراهيم، وإنما كان المقصود أن إبراهيم يُرحب بذريته في عالم الرضوان.
•••
الحق أقول لكم: لم أجد في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا، وأقول لكم: إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية.
ومثل هذا في كلام يحيى المغتسل — أو يوحنا المعمدان: «… اصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة، ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم: لنا إبراهيم أبًا؛ لأني أقول لكم: إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم.»
إني أقول لكم: إن كثيرين سيطلبون أن يدخلوا ولا يقدرون من بعد أن يكون رب البيت قد قام وأغلق الباب، وابتدأتم تقفون خارجًا وتقرعون الباب قائلين: يا رب، يا رب، افتح لنا … يجيب ويقول لكم: لا أعرفكم … من أين أنتم؟ … تباعدوا عنا يا جميع فاعلي الظلم. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان، متى رأيتم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله وأنتم مطرحون خارجًا، ويأتون من المشارق ومن المغارب، ومن الشمال والجنوب، ويتكئون في ملكوت الله، وهو ذا آخرون يكونون أولين، وأولون يكونون آخرين.
وفي الإصحاح الثاني من إنجيل يوحنا أن المسيح قال لليهود الذين آمنوا به: «إنكم إن ثبتُّم في كلامي، فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق والحق يحرركم.» فأجابوه: إننا ذرية إبراهيم ولم نُستعبد لأحد قط، فكيف تقول: إنكم تصيرون أحرارًا؟ قال: الحق الحق أقول لكم: إن من يعمل الخطيئة فهو عبد للخطيئة، والعبد لا يبقى في البيت أبدًا، أما الابن فيبقى إلى الأبد.
ثم قال: لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم!
وقال بولس غير مرة: إن الختان لا يجعل الإنسان ابنًا لإبراهيم، وإنما أبناؤه من يسلكون في خطوات الإيمان، وإن إبراهيم «أب لنا جميعًا، والله جعله أبًا لأمم كثيرة.»
كما جاء في رسائل بولس إلى أهل رومية: «لأن الكتاب يقول: إن كل مؤمن به لا يخزى، ولا فرق بين اليهودي واليوناني؛ لأن ربًّا واحدًا للجميع» … «وإن حكم الناموس يتم بالروح لا بالجسد» … «وإن اهتمام الجسم موت، وأما اهتمام الروح فهو الحياة والسلام.»
•••
يريد الشارح الحديث بالتوفيق الذي اشتهر به الفيلسوف فيلون، توفيقه على الخصوص بين مذهب الروحيين المتعلقين بالإيمان ووجدان النفس، وبين الشرعيين أو الكهان الذين كانوا يتشددون في المراسم والشعائر، وكل ما يعتمد في القيام به على الكهانة والوظائف الهيكلية، ومنها الختان وأعمال الطهارة والكفارة. وهذه هي الشعائر التي كان كهان إسرائيل يحرصون عليها في منفاهم ببابل إبقاء على معالم العبادة الاجتماعية، وخوفًا من نسيانها واندثارها إذا وكل الأمر كله إلى عقائد الوجدان في نفوس الآحاد متفرقين. وقد كان فيلون مطلعًا على نسخ التوراة الأولى، ومنها نسخة يشير فيها سفر التكوين إلى إبراهيم باسم الخليل قبل أن تُعرف هذه التسمية في كتب الأنبياء.
وقد نقل بولس بعض الشعائر من المدلولات الحسية إلى المدلولات النفسية الرمزية، وانفتح الباب واسعًا لهذا التحول منذ قال السيد المسيح: إن أعمال الإنسان هي التي تطهره أو تنجسه. ثم مضى بولس في هذا الطريق على الرغم من معارضة بطرس وزملائه؛ لأنه أدرك أن اشتراط الختان ومراسم البيع والهياكل لقبول الوثنيين في الدين الجديد عائق شديد يُوشك أن يصدهم جميعًا عن الإصغاء إليه. وقد انتهى الأمر في القرون الحديثة إلى إسقاط هذه المراسم في مذهب اليهود الذين سموا أنفسهم بالأحرار أو يهود الإصلاح، وشاع مذهبهم منذ القرن التاسع عشر بين اليهود والغربيين.
إلى أن يقول: أما قول الله لإبراهيم: إن ملوكًا تخرج منك. فليس بملوك أرضية يمتدح الله ويفخر، ولو كان الذي أمره الله بالختان قال له: إن ملوكًا تخرج منك، وحقق ذلك أن الذي يختتن الختانة الروحانية المتقدم ذكرها، فعقله يكون ملكًا وحاكمًا على أفكاره، وعلى شهواته ولذاته …
وعمد بعضهم إلى تفسير كتب العهد الجديد بهذه العقيدة في أقوال غير معتمدة، ولكنها سرت بين السواد والعلية كما سرت من قبل تفسيرات العهد القديم.
فبنى بعضهم على هذه العبارة قصة لا يعتمدها المفسرون الكتابيون، وقالوا في تفسيرها: إن السيد المسيح هبط إلى الهاوية سنة ثلاث وثلاثين للميلاد، وأطلق منها أرواحًا صالحة ذهبت إليها قبل بعثته، ولم تكن لها جناية تُعاقب عليها، ولكنها كانت في حاجة إلى التطهير بماء العماد لتدرك نعمة النجاة.
لم تكن ثمة شكاة تُسمع إلا الأنين الذي يهز الأجواء الأبدية، وكان ينبعث من تلك الأحزان التي لا عذاب فيها أحزان الجموع المتكونة من الأطفال والنساء والرجال، فقال لي أستاذي: إنك لم تسأل عن هذه الأرواح التي تراها هنا، وأود أن أعرفك بها قبل أن نتقدم في طريقنا: إنها لم تخطئ، وكان لها فضل، ولكنه لا يغنيها لحاجتها إلى العماد، وهو الإيمان الذي أنت به تدين …
فإنها تقدمت عصر المسيح فلم تعبد الله على سواء، ومن هذه الأرواح كنت المتحدث إليك …
فغشي قلبي حزن عظيم عند سماعه؛ لأنني أعرف أناسًا ذوي فضل كبير معلقين في تلك الطبقة …
وقلت له: أخبرني يا أستاذي، أخبرني. وأردت اليقين من هذا الإيمان الذي يغلب كل خطأ: ألم يخرج من هذا المكان أحد؛ خرج منه بفضله أو بفضل غيره وأدركته النجاة بعد خروجه؟
وفهم طوية كلامي فأجابني قائلًا: لقد كنت هنا حين لمحت قادمًا جليلًا عليه إكليل النصر، فإذا هو قد بدأ فأخذ في الظل أبانا الأقدم — آدم — وابنه قابيل ونوحًا وموسى المشترع المطيع، ثم إبراهيم الأب وداود الملك، وإسرائيل وأباه وبنيه، ومنهم راحيل التي صنع من أجلها الكثير، وأخرج غيرهم، وباركهم ونجاهم، وأعلم أن أحدًا قبل هؤلاء لم يكن نبيًّا.
وبهذه الصيغة وما شابهها سرت أخبار العهد القديم وتفسيراته بين المسيحيين، ثم تفرق رأي الكنائس المسيحية في النظر إلى العهد القديم، فمنها ما يعتبره وحيًا منزلًا بجميع تفصيلاته، ومنها ما يقصر الوحي على كتب الشريعة، وهي الكتب الخمسة التي تُعرف بكتب موسى، ومنها ما يعتبره كله أخبارًا تاريخية أو وقائع مروية في صيغة شعرية.
وعلى حسب النظر إلى هذه الكتب يختلف النظر إلى إبراهيم من حيث اعتقاد العصمة أو الخطيئة.
ومن شراح الكنائس الأخرى من لا يلوم إبراهيم على هذا المسلك ويشيد به؛ لأنه أسلم نفسه إلى مشيئة الله، وأيقن أنه لن يخذله، ولن يصنع ما يعاب، فهو آية على إيمانه وغلبة الثقة بتدبير الله على وساوس الخوف والريبة في نفسه.
إن هذه الخطايا سجلت بأيدي فاعليها وبرضاهم وموافقتهم، وحفظها أبناؤهم وذراريهم من بعدهم؛ فلِمَ كان ذلك؟ إن شيئًا من هذا لم يُسجل على ملوك بابل ومصر، وتكاد سيرتهم أن تبدو كاملة نقية من العيوب، وقد محيت من تلك الصور كل وصمة، وجليت فيها كل زينة، ولكن من يا ترى من ذوي العقل السليم بعد هذا يود أن يتبع مثال رمسيس أو نبوخذنصر، كما يود المسيحيون أن يدرسوا حياة إبراهيم ويعقوب وداود؟ إن العلة غير بعيدة المنال، فإن أبطال العهد القديم أناس حقيقيون لهم حس كحسنا، وشعور كشعورنا، وسيرتهم صادقة الخبر، وعيوبهم سافرة للنظر. فمن هدف السيرة الأمينة يستطيع القارئ أن يبصر النذير، ويتقي مثل هذه السقطة، ويغنم مع هذا شجاعة وإلهامًا من قدوة الإيمان المنتصر في تلك السير …
•••
وكذلك تبدو لنا صورة الخليل كما تمثلت في المراجع المسيحية من كتب العهد الجديد، ومن المرويات الشعبية التي تناقلتها الألسنة وسرت إلى كتب الأدب ذات الصبغة الشعرية إلى ما بعد القرون الوسطى.
وقد عُنيت المراجع المسيحية في العصر الحديث بناحية من تاريخ الخليل أهم من تلك المرويات الشعبية في نظر القارئ العصري، وهي الناحية التاريخية.
فالمراجع المسيحية تشغلها هذه الناحية التاريخية في القرن الأخير، بعد أن شاعت بدعة الشك في وجود أقطاب الأديان، وفي مقدمتهم إبراهيم وسلالته الأولون.
وليست الناحية التاريخية عامة هي التي تعنينا في هذا الباب؛ لأننا سنفرد لها بابًا خاصًّا يدور على الكشوف الحفرية والبحوث المتقابلة في أقوال المؤرخين المحدثين.
ولكن الناحية التاريخية التي نُعني بها في هذا الباب — باب المراجع المسيحية — هي الناحية التي تفرغ لها الدارسون ليلحقوها بالكتب الدينية وشروح العهدين القديم والجديد، فهي مقصورة على هذه الناحية، ومحورها الغالب عليها هو المضاهاة بين تواريخ الكتب الدينية والمواقيت التي اتصلت بها من تواريخ الأمم الغابرة.
•••
فمن أحدث هذه المراجع كتاب «موجز التعليقات الحديثة على الكتاب»، من تأليف نحو ثلاثين عالمًا من علماء اللاهوت في إنجلترا، وكلهم من المطلعين على كشوف الآثار التي لها علاقة بتواريخ التوراة والأناجيل.
يذكر المؤلفون في الفصل الذي عنوانه «العالم في أيام إبراهيم»: أن لوحًا من الألواح التي كُشفت بمدينة أور قد وُجد عليه نقش باسم «إيراما»، يرجع على ما يظهر إلى زمن سابق لزمان إبراهيم، ومن هذه الكشوف لوح آخر منقوش عليه شريعة حمورابي، وفيها أحكام مماثلة لأحكام الشريعة الموسوية، ومع هذه الكشوف ألواح كتبت عليها جداول للضرب، ومعجمات للمفردات اللغوية، وسجلات لأنظمة الحكومة، وأسانيد بما وصل إلى الهياكل من حساب القرابين؛ فقد نشأ إبراهيم إذن في مدينة ليست بالهينة والعالم يومئذ قديم.
وأشاروا إلى كلمة «عبري» ومعناها فقالوا: إنها وجدت من آثار «رم سن» سلف حمورابي، كما وجدت في نص من النصوص البابلية التي كُشفت في بلاد الحيثيين الأقدمين من آسيا الصغرى — وتُسمى اليوم بوغاز كوي — ووجدت كذلك في نصوص حورانية عند بلدة توزي بالعراق، وكان لها معنًى أعم من معناها الخاص بعد ذلك بأبناء إسرائيل، ويفهم منه أن الكلمة كانت مرادفة لكلمة الجنود الرحل الذين يستأجرهم قادة الجيوش.
قالوا: وإن عاصمة الحيثيين التي رفعت عنها الأنقاض سنة ١٩٠٦ قد كُشفت فيها ألواح بالخط المسماري دلت على مفتاح اللغة الحيثية، وأن الحيثيين كانوا يتكلمون لغة هندية جرمانية على مشابهة باللاتينية، وقد نزحوا من الشرق إلى آسيا الصغرى، وامتدت دولتهم شرقًا إلى الفرات، وجنوبًا إلى قادش، وهم بنو «حث» الذين أشار إليهم إبراهيم في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التكوين إذ يقول: «وكلم بني حث قائلًا: أنا غريب ونزيل عندكم؛ أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتي من أمامي.»
وقالوا: إن أسماء الملوك التي وردت في الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين قريبة من بعض الأسماء التاريخية، فاسم إمرافل قريب من اسم حمورابي البابلي، وتدعال قريب من تدخاليا الحثي، والأسماء الأخرى وجدت لها مشابهات من هذا القبيل، ولكن لا يوجد الدليل القاطع على وحدة المسمى.
وكان الرعاة أو الهكسوس «هاك شاسو» يحكمون مصر من الأسرة الثالثة عشرة إلى الأسرة السابعة عشرة، وفي هذه الفترة حدثت هجرة الآباء العبريين إلى الديار المصرية.
•••
يقول مؤلف هذا الكتاب: «إن الآثار تحتمل أن إمرافل — الذي حارب إبراهيم — هو حمورابي الذي كان ملكًا على بابل سنة ٢٠٠٠ قبل الميلاد، والحفريات المسمارية تربط بين اسمه واسم معاصره «أري آكو» … في حين أن كدلعومر يشابه قدار لعمار، بمعنى خادم لعمار، أحد الأرباب الكبار في شرق الدجلة السفلى، واسمه منقوش على حجر من ألواح حمورابي، وكان هذا قبل ارتباط أرض إسرائيل ببلاد شنعار بعدة قرون.»
قال المؤلف: وكانت مصر عند هجرة إبراهيم ثم هجرة يعقوب وآله خاضعة لحكم الرعاة المكروهين الذين تسلطوا على مصر أكثر من خمسمائة سنة، ومن ثم كان الترحيب بإبراهيم ثم الترحيب بيعقوب وإقطاع قومهم أرضًا في البلاد.
قال: وفي عصر إبراهيم كانت في أرض فلسطين الجنوبية جالية من الحيثيين، ولكن عاصمتهم كانت إلى الشمال تمتد، كما جاء في كتب العهد القديم، من لبنان إلى الفرات.
وقال عن «أور الكلدانيين» مدينة إبراهيم: إنها كانت في الموضع الذي يسمى الآن المقير على الفرات الأدنى، ولم تكن في أورفة كما خطر لبعضهم من قبلُ لتشابُه اللفظ بين أورفة وأور.
على حاشية الهلال الخصيب انتشرت خلال الفترة التاريخية جماعات من القبائل الرحل تشتغل بالصيد تارة، وبالغارات تارة أخرى، وبالمرعى بين هذا وذاك، وهم الذين نسميهم في الزمن القديم بالآراميين، ومع استحالة الحياة المستقرة على الزراعة، أو التجارة، أو تقسيم الحقول وسكنى المدن، في ظل ذلك النظام الاجتماعي، يميل القوم إلى تجميع أنفسهم في جوار مركز من مراكز الحضارة يعاملونه ويتجرون معه، وقد يتصلون معه ببعض الصلات السياسية …
وفي وسع أمثال هؤلاء القوم أن يعيشوا على إنتاج قطعانهم وصيدهم، ولكنهم غالبًا ما يعتمدون على صلتهم بالمدينة — كما يحدث اليوم في الجزيرة العربية — لتحصيل غلات الحقل ومصنوعات المعمل بالمقايضة على مقتنياتهم …
إن تاريخ العبريين الرسمي يبتدئ بقبيلة من هذه القبائل سكنت إلى جوار مدينة أور في جنوب العراق، وعند نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد هاجر فريق منهم إلى الشمال بقيادة رئيس يسمى تارح، كما جاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين.
وربما كان من أسباب هذه الهجرة اضطراب سياسي في جنوب العراق أصابت جرائره معيشة أهل أور، ولعل هذا الاضطراب قد نشأ من تحول السيطرة السياسية من المدن العراقية إلى قبائل عيلام، فلم تستقر عليه أحوال المعيشة والتجارة في مدينة أور. وهذا الفرض يرجع بالحركة إلى ما بين سنة ٢٣٠٠ وسنة ٢٠٠ قبل الميلاد. وكيفما كانت الحقيقة، فالهجرة قد حصلت، ونزل القوم فترة بجوار حاران إلى شمال الهلال الخصيب.
ومما يستحق الملاحظة أن كلًّا من أور وحاران كانت في القدم مركزًا لعبادة الإله — سن — إله القمر من معبودات الساميين، وسيلفانا اسمه مرة أخرى في شبه جزيرة سيناء.
وظلت طوائف من القبائل تترحل غربًا وجنوبًا، حيث صادف بعضها أرض المرعى والزرع وادي الفرات والأقاليم الجبلية المخصبة، فاستقروا في مدن أشهرها دمشق، ومضت طائفة أخرى بقيادة إبرام بن تارح «وابن قد تكون هنا بمعنى سليل»، إلى أن استقر بها السير البطيء عند فلسطين، وهي يومئذ في ظل حكومات المدن المتفرقة، ولم تزل الهجرة في مجراها تارة إلى غرب الأردن، وتارة إلى شرقه، وحينًا من دمشق، وحينًا من شرقها إلى الحدود المصرية، وخلال ذلك تمر بنا قصة عن علاقة مباشرة بين مصر وهؤلاء البدو، وأخبار عن العلاقات بين الآباء العبريين وسكان كنعان المستقرين.
ثم يسترسل كاتب التعليقات فيقول: إن بعض العبريين وصل في هجرته إلى أرض جاثان بمصر، ويرجح أن دخولهم لأول مرة كان على عهد دولة الرعاة أو الهكسوس بين القرن الثامن عشر والسابع عشر قبل الميلاد على وجه التقريب.
•••
ويضع هالي للحوادث المصرية مقابلًا من حوادث التوراة، فيضع عصر إبراهيم مقابلًا للأسرة الثانية عشرة حوالي سنة ٣٠٠٠ قبل الميلاد، وعصر يوسف مقابلًا للأسرة السادسة عشرة سنة ١٨٠٠ قبل الميلاد، على سبيل الاحتمال، وعصر موسى مقابلًا للأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة بين سنتي ١٥٠٠ و١٢٠٠ قبل الميلاد.
وتظهر الغرابة في تقديرات هالي ومدرسته عند الرجوع إلى عصر إبراهيم وعصر يوسف، وبينهما في تقديره نحو ألف ومائتي سنة، والمعلوم أن يوسف ابن يعقوب، وأن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم. وهذا مع اعتماده أحيانًا على نقوش الآثار، وحسبانه أن وفد الساميين المرسوم على مقابر بني حسن قد يكون وفد إبراهيم على الفرعون سنوسرت، الذي يظن أنه كان على عرش مصر في ذلك الحين.
فهذه التعليقات تضع عصر حمورابي حوالي سنة ١٩٠٠ق.م، وعصر الآباء العبريين في كنعان بين سنتي ١٩٠٠ و١٧٠٠ق.م، ونهاية عصر الهكسوس حوالي سنة ١٥٥٠ق.م.
ويرجح كلارك — اعتمادًا على الآراء الحديثة — أن عصر حمورابي متخلف عن عصر الوقائع التي تنسب إلى إمرافل بمائة سنة أو أكثر، وأن إمرافل وحمورابي لا يدلان على شخص واحد، وأن الغور العميق الذي تملؤه أمواج البحر الميت أقدم جدًّا من الوقت الذي قدر لخراب المدن المذكورة في قصة إبراهيم، ويتساءل: ما هو الباعث الذي أتى بالملوك الخمسة إلى الأردن جنوبًا قبل مواجهة أعدائهم الذين يحاربونهم؟ وهو لا يستبعد أن يكون جيش من البابليين والعيلاميين معًا قد زحف على جهات في ذلك الموقع؛ لإرغام القبائل على أداء الجزية أو الضريبة التي تُفرض على رءوس القبائل.
ويعتمد كلارك على الظواهر الأرضية «الجيولوجية» كثيرًا، فيرى أن العيون الحمر التي أشار إليها الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين هي في الغالب من النفط، الذي يتكاثف بالتبخر ويطفو على الماء كما كان يحدث على سطح البحر الميت، ولا مانع أن يشاهد على وجه الأرض قبل امتلاء الغور بالماء، ويرتبط خراب المدن التي وردت قصتها في سيرة إبراهيم بهذه الظواهر الأرضية التي يمكن أن تستقصى في يوم قريب، فيبنى على استقصائها تحقيق محكم لتاريخ تلك الأحداث.
ويضارع هذا الكتاب في الصبغة العلمية الكتاب الذي ألفه جماعة «دراسة العهد القديم»، واشترك في تأليفه أكثر من عشرة من علماء هذه الدراسات، وهو كتاب العهد القديم والدراسة الحديثة.
إن مسألة الهكسوس لا تزال على عسرها، ولكنها آخذة في التكشف والإبانة عن الحوادث التالية، بعد البحوث التي تناولها ونلوك وستوك كاتب هذه السطور، فنحن نعلم اليوم أنها لا بد أن ترجع إلى الفترة بين سنتي ١٧٢٠ و١٥٥٠ قبل الميلاد، وأن قيادة الهكسوس في يد الساميين، ولم تكن حورية أو هندية آرية كما كان بعض العلماء يقدرون إلى زمن قريب …
إن فلسطين لم تدخل في قصص التوراة قبل هجرة إبراهيم من حاران، ولا يمكن بأي تقدير من التقديرات أن تُوضع تلك الهجرة في تاريخ سابق لنهاية الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد تأتي بعد ذلك بقرون، ويبدو واضحًا من مأثورات سفر التكوين أن هناك دورًا متوسطًا من العصر البرونزي بين القرن الحادي والعشرين والقرن السادس عشر قبل الميلاد.
ويتحدث عن كشوف رأس شمرا في الشمال المقابل لجزيرة قبرص من شاطئ بحر الروم، أنها غيرت الصورة التي كانت مرتسمة للحضارة الكنعانية في أذهاننا كل التغيير، وأنها أثبتت أن حضارة كنعان كانت تمتد في العصر البرونزي المتأخر من غزة جنوبًا إلى رأس شمرا شمالًا «أغاريت القديمة»، وأن اللغة والديانة والحضارة كانت واحدة في هذه البقاع، ولم يكن اختلاف اللغة إلا من قبيل اختلاف اللهجات … وأننا نرى اختلاف الصناعة الفخارية وغيرها من البقايا المادية بارزًا بيِّنًا عند الجانب الأسفل من نهر العاص؛ حيث تتضح الملامح الحورية والأمورية في معالم الثقافة العليا، ولا يلحظ على الساحل مثل هذا الاختلاف.
ثم يتحدث عن كشوف تل الحريري عند وادي الفرات الأوسط فيقول:
«إن الأستاذ أندري باروت وزملاءه أخرجوا من الأنقاض قصرًا كبيرًا من العصر البرونزي الأوسط، كان مزدهرًا في أواخر القرن الثاني عشر وفاقًا للتقديرات التي تتقدم بعصر حمورابي إلى ما بين سنتي ١٧٢٨ و١٦٨٦ قبل الميلاد.
وقد أخرجوا في هذا الموضع نقوشًا فذة على الجدران وبقايا فنية أخرى، وفوق ذلك نحو عشرين ألف لوحة، وأعشارًا من اللوحات من القرن الثامن عشر قبل الميلاد، كلها باللغة الأكادية التي تأثرت أحيانًا باللغة الأمورية التي يتكلمها أبناء القبائل في ذلك الإقليم … وفائدة هذه الكشوفات التي كسرت الآن حواجز البحث في دراسات التوراة ستأتي في أكثر الأحوال من طريق غير مباشر، ولكنها لا تنقص بذلك في قيمتها؛ إذ كانت الثقافة العالمية في عصر الآباء العبريين وراء كل تطور في آسيا الغربية.
ثم يعرض الكاتب لكشوف تل العطشانة على نهر العاص الأسفل، وكشوف حماة على أواسط النهر، فينوه منها على الخصوص بسيرة حياة الملك أدريمي المنقوشة على تمثاله، الذي يمكن لتاريخه أن يكون قريبًا من سنة ١٤٥٠ قبل الميلاد. وفي هذه السيرة حوادث وقعت في سورية الشمالية مشابهة للحوادث في قصة يوسف، ولعلها كانت تتجمع حول نواة من عصر الهكسوس، وقد أشارت سيرة أدريمي إلى غيرة إخوته الكبار، وقحط السنوات السبع، وضروب من الحدس لاستطلاع الغيب، ثم يعرض للكشوف التي أبرزت المنافسة بين حضارة الحيثيين والآراميين وحضارة إسرائيل ودمشق.
وينتقل إلى كشوف الريحانية في الناحية الجنوبية من سهل أنطاكية، وما لها من القيمة في الاستدلال على العصر الحديدي، وأهم ما فيها بقايا هيكل من القرن التاسع قبل الميلاد على رسم قريب من رسم هيكل سليمان الذي بني في القرن العاشر.
ويستطرد إلى كشوف قليقية على مقربة من حدود سورية الشمالية، وأسانيدها ترجع إلى ما بين سنتي ٨٥٠ و٦٥٠ قبل الميلاد، ولها شأنها في دراسة تطور اللغة العبرية.
ونختم هذه الشواهد بمرجعين تقليديين من مراجع هذا الموضوع؛ وهما: أطلس وستمنستر التاريخي، وموسوعة وستمنستر المنقحة طبعة سنة ١٩٤٤، وهما خاصان بجغرافية التوراة والعهد الجديد وتاريخهما. وقد توفر على تأليفهما من وجهات النظر المتعددة نخبة من علماء هذه المباحث المشتغلين في الكتب الأثرية والكتب العصرية، بدرسها في الآثار والحفريات، وبالاطلاع على سجلاتها ومدوناتها.
وهذان المرجعان متفقان مع أحدث المراجع المتقدمة على تقريب عصر الآباء العبريين، واستضعاف الأقوال التي توغل به في القدم، وقد وضع الأطلس التاريخي عصر إبراهيم بين سنة ٢٠٠٠ وسنة ١٧٠٠ قبل الميلاد، ووضع عصر حمورابي في ختام هذه الفترة، وعرض لقصة سنوحي الموظف المصري الذي غادر بلاده «حوالي سنة ١٩٠٠ق.م»، وعاش بين الأموريين في سورية الشرقية، ولاحظ المشابهة بين الأمكنة التي أقام فيها سنوحي على نحو من البداوة، وبين الأمكنة التي عاش فيها على هذا النحو آباء العبريين.
ورجح أن وفد الساميين المرسوم على مدافن بني حسن قدم إلى مصر في عصر القصة السنوحية، وأن الدولة المصرية التي كانت قائمة بمصر هي الأسرة الثانية عشرة، وقد بسطت حكمها على سورية وفلسطين، وأدارت حركة واسعة من التجارة البحرية بين مصر وقبرص وكريت وشواطئ البحر الأحمر، وبلغت بحدودها الجنوبية إلى الشلال الثاني حيث أقامت حصن الحدود عند سمنة، وكانت لها بعثات إلى سيناء للكشف عن معادن النحاس والفيروز، وأخرى إلى أرض النوبة للكشف عن معادن الذهب.
وجاء في هذا الأطلس أن التاريخ حقق وجود بلاد في أرض حاران تطلق عليها أسماء كأسماء آباء إبراهيم: فالج وسروج وناحور وتارح، وأن اسم حاران نفسه قريب من اسم أخ لإبراهيم، وأن وحدة الاسم قد تأتي مصادفة في حالة شخص واحد، ولكنها هنا متفقة في أربعة أسماء على الأقل في حيز محدود. والمهم في هذه الملاحظة أن كُتَّاب الأطلس يحسبون أن هذه البلاد حملت أسماء القبائل التي أنشأتها، أو أن القبائل أطلقت عليها أسماءها بعد الاستيلاء عليها في القلاقل التي حدثت حوالي سنة ٢٠٠٠ قبل الميلاد.
واستطرد كتاب الأطلس من تشابه أسماء الآباء والمدن إلى الأسماء التي كانت شائعة بين الأموريين، ومنها إبرام في صيغة «أبا مرام»، ويعقوب في صيغة يعقوب إيل، وذكروا أن اسم قبيلة بنيامين وُجد في ألواح الحفائر بوادي الفرات الأوسط، وأن حفائر توزي في وادي الفرات الشمالي اشتملت على وصف عادات اجتماعية، تفسر عادات الإرث والزواج وأصنام الأسرة «الطرافين» التي أشارت إليها كتب العهد القديم، وأن عصر تلك الحفائر يُوافق العصر الذي دون فيه الإسرائيليون كتب التوراة وما بعدها من الكتب القديمة، وهذا عدا الآثار التي روت أخبار الطوفان وأخبار الخليقة مما لا نظير له في مأثورات مصر أو كنعان.
ومن الطبيعي أن يُعنَى الأطلس بالمواقع الجغرافية في سياق التاريخ، وكذلك عُني الأطلس في سيرة إبراهيم بمواقع رحلاته إلى مصر في ذهابه وعودته، ومنها أرض الجنوب بين قادش وشور، وتُعرف الآن باسم وادي غزة، وهو وادٍ كان له شأن في تاريخ بني إسرائيل إلى ما بعد خروجهم من الديار المصرية.
أما الموسوعة التي تحمل اسم وستمنستر أيضًا — مع اختلاف المؤلفين — فهي توافق المراجع الحديثة كذلك في تقريب زمان الآباء، وتقرِّر أن وحدة اسم حمورابي واسم أمارفيل محل مناقشة واعتراض في المباحث الأخيرة، وأن إلحاق إيل باسم أمارفيل مشكلة تستوقف أنظار المتأخرين.
وبعد أن ذكرت أن تاريخ حمورابي وضع في عصور مختلفة بين سنة ٢١٢٣ وسنة ١٨٣٠ قبل الميلاد، عادت فقالت: إن الكشوف الحديثة ترجح وضعه بين سنتي ١٧٩٢ و١٧٥٠ أو ١٧٤٩، وأن شريعته المشهورة مقاربة للشريعة الموسوية في سفر الخروج من التوراة، وأن أسلوب المواد يتشابه في ابتداء الجمل كما تتشابه العقوبات، ولا سيما عقوبات القصاص، قالت: وبعيد أن تكون شريعة حمورابي أمام المشرع العبري عند تدوين أحكامه، ولكن المحتمل أن الشريعتين ترجعان إلى أصل سامي قديم.
وترى الموسوعة — اعتمادًا على تقدير الأسقف يوشر — أن مولد إبراهيم يوافق سنة ١٩٩٦ق.م، وأن طريق الجيوش التي حاربها إبراهيم، كما جاء في الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين، كانت إلى الجنوب على حافة جلعاد وموآب. وتدل كشوف العالمين الأثريين ألبريت وجلويك على أن هذا الطريق تخللته فيما مضى مدن هامة قبل سنة ٢٠٠٠ق.م، وظلت عامرة نحو قرن أو قرنين لا أكثر.
وفي رواية سفر التكوين أن سدوم وعمورة دمرتا في حياة إبراهيم، ومن كشوف جلويك يظهر أن المدن التي على هذا الطريق ظلت مقفرة إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ولكنها في القرن العشرين ق.م كانت محجة دينية حافلة بجوار المكان الذي يُعرف الآن باسم باب الدرعة. فمن المعقول إذن أن يكون مولد إبراهيم حوالي الزمن الذي قدَّره الأسقف يوشر، وأن سدوم وعمورة خربتا حوالي سنة ١٨٩٨ قبل الميلاد.
وتقول الموسوعة: إن اسم إمرافل — أحد الملوك الذين حاربهم إبراهيم — يصعب تعيين صاحبه، كما يصعب تعيين زملائه الآخرين، ولكن هذه الأسماء جميعًا لا يبدو عليها أنها اختراع من مخترعات الخيال؛ إذ ليست غارة الأمراء البابليين على فلسطين وما جاورها أمرًا نادرًا في تلك الأيام.
•••
ونكتفي بما تقدم من هذه المراجع التاريخية التي ألحقناها بالمصادر المسيحية، وقد ألحقناها بها لأن كُتَّابها في جملتهم يدونون التاريخ من الجانب الذي به علاقة بكتب العهد القديم والعهد الجديد، وتغلب عليهم رغبة في تدوينه على النحو الذي يصحح أخبارها، وينقض مآخذ الناقدين عليها، فهو باب في التاريخ غير الباب الذي سنفرده لأقوال المؤرخين للحوادث من الوجهة العامة.
وليس أهم من تمحيص هذه الأقوال لمن يريد أن يحقق سيرة الخليل عليه السلام؛ إذ هي ألزم ما يلزم لمعرفة العقائد والشعوب في عصره، ومن هنا تنجلي حقيقة الرسالة وبواعثها، ومبلغ الخلاف والوفاق بينها وبين ما حولها، وكل شيء يتوقف على تقدير أحوال الزمن بعد تعيينه، وتقدير أحوال الشعوب في ذلك الزمن بعد التثبت من مواقعها وعلاقاتها.
وفيما أسلفناه بصيص من النور نرجو أن نضيف إليه بصيصًا آخر يفيض على جوانب السيرة جميعًا، بعد الفراغ من تلخيص هذه الشواهد والمصادر.