مراجع الصابئة
تدين بعقائد الصابئة ملة يبلغ عدد أبنائها ستة آلاف بين رجل وامرأة وطفل، ولا يجاوز بها المبالغ في عددها عشرة آلاف.
وهي على قلة عددها تستقل بلغة «مقدسة» خاصة، ولها كتابة أبجدية خاصة، وأحكام دينية في معيشتها لا تشبه في جملتها دينًا واحدًا، ولكنها تشبه في بعض أجزائها كل دين.
ومن ثم كان لها شأنها في الدراسات الدينية.
ففيها ولا شك عقائد سابقة لجميع الأديان الكتابية، وعقائد سابقة لدين الخليل.
بل فيها — على رأي بعض الباحثين — بقية من الديانتين المختلفتين في عصر الخليل؛ لأن الصائبة يدينون بمذاهب مختلفة يرد بعضها على بعض، ولا سيما مذاهب الكواكب والأصنام، مما تواترت الأخبار بالاختلاف عليه بين قوم إبراهيم ومَن حاربوهم واضطروهم إلى الهجرة من بلادهم.
والمحقق من أمرهم أنهم يرجعون إلى أصل قديم؛ لأن استقلالهم باللغة الدينية والكتابة الأبجدية لم ينشأ في عصر حديث، ولهذا يفهم الدارسون للأديان أن تحقيق لغتهم وكتابتهم يؤدي إلى جلاء الغوامض عن كثير من تاريخ الكلدان، في الزمن الذي قام فيه الخليل بدعوته. ويؤكد هذا الفهم أن هؤلاء الصابئة يقيمون في الأقاليم الجنوبية من العراق حيث أقام الخليل في رواية العهد القديم، ومنهم فئة تحج إلى حاران التي هاجر إليها، وينسب إليها الصابئة الحرانيون.
ومع استقلال الصابئة باللغة الدينية والكتابة الأبجدية يشتركون مع أصحاب الأديان في شعائر كثيرة، ولا يُعرف دين من الأديان تخلو عقيدة الصابئة من مشابهة له في إحدى الشعائر؛ فهم يشبهون البراهمة والمجوس والأورفيين أصحاب النحل السرية، كما يشبهون اليهود والنصارى والمسلمين، أو كما يشبهون الفلاسفة وأصحاب المذاهب العقلية في تفسير الوجود والموجودات.
وهم كما يشبهون الجميع يخالفون الجميع.
وتعليل هذه المخالفة أنهم تشبثوا بأصل قديم لا يفارقونه. أما تعليل المشابهة فليس بالعسير؛ فإن مقام الصابئة عند خليج فارس يجعلهم في طريق كل ملة يتردد أبناؤها على ذلك الإقليم أو يقيمون فيه، وقد تردد عليه من قديم الزمن هنود وفرس وطورانيون وعرب وسريان وفينيقيون، واتصل به أبناء البحار كما اتصل به أبناء الصحراء، فليس بالعجيب أن تعلق بعقيدة الصابئة الأقدمين مسحة من كل ملة على طول الزمن وتتابع العهود.
فمن مشابهتهم للبراهمة أنهم يتحرجون من ملامسة غيرهم، ويتطهرون إذا لمسوا غريبًا في حالة من حالات العبادة.
ومن مشابهتهم لأصحاب العقائد الأورفية — أو السرية — أنهم يكتمون كتبهم أشد الكتمان، ولا يباشرون شعائرهم مع الغرباء، ويتقاسمون الخبز المقدس علامة على الأخوة الروحية، ويعتقدون أن الكون كونان، وأن الخَلْق خلقان؛ فالكون الظاهر غير الكون الباطن، ولكل مخلوق في العلانية صورة محجوبة في عالم الغيب، حتى آدم وبنوه منهم أهل ظاهر وأهل باطن لا يراهم من يعيشون في العلانية.
ومن مشابهتهم للمجوس أنهم يتوجهون إلى قطب الشمال وإلى الكواكب عامة، ولكنهم لا يعبدونها، بل يحسبونها من مظاهر الروحانيات التي لا تبرز للعيان.
ومن مشابهتهم للمسيحيين أنهم يدينون بالعماد، ويبجلون يوحنا المعمدان أو يحيى المغتسل، ولكن التعميد أعم عندهم من التعميد في المسيحية، ويندر منهم من يسكن بعيدًا من الأنهار؛ لحاجتهم كل يوم إلى العماد وإلى التطهير بالماء.
ومن مشابهتهم للمسلمين أنهم يقيمون الصلاة مرات في اليوم، ويقولون: إنها فرضت عليهم سبعًا، ثم أسقطها يوحنا عنهم، وأدخل بعضها في بعض، واكتفى منها بثلاث، ولكنهم لا يسجدون في صلاتهم، بل يكتفون بالقيام والركوع، وهم يتوضئون قبل الصلاة، ويغتسلون من الجنابة، ويعرفون نواقض الوضوء، ولكنهم يغالون فيها.
وعندهم ذبائح كذبائح اليهود، ويوم في ختام السنة كيوم اليهود، ولكنهم يحرمون الختان، ولا يبنون لهم هيكلًا قائمًا، بل يبنون الهيكل من القصب كما تبنى الخيام، موقوتًا عند الحاجة إليه في الأعياد، فكأنها بقية أو أصل لعيد الظلال وللهيكل المنقول.
ومنهم من ينتمي إلى كاظم بن تارح، وقد ذكرهم المقريزي بين الفرق المختلفة، وكأنهم يقابلون دين إبراهيم بدين أخ له ينتمي إلى تارح، أبي إبراهيم في رواية العهد القديم.
وهم ينكرون الأنبياء ويقولون: إن الله لا يخاطب أحدًا من البشر، وإنما خلق الله الروحانيات، أي الملائكة، ثم تلبست هذه الروحانيات بالكواكب النورانية، ولما احتاج الأمر إلى أمثلة لهذه الكواكب يراها العباد حين يشاءون، صنعوا لها صورًا من الأوثان، وجعلوا اتجاههم إلى نجم القطب؛ لأنه ثابت في مكانه لا يختلف له فلك باختلاف الأزمان.
ولهم أقوال في تنزيه العقل الإلهي تشبه أقوال الفلاسفة، ومنهم مَنْ يحرم الطعام الذي حرمه أتباع فيثاغورس كالبصل، ويضيفون إليه أنواعًا من الخضر كالكرنب ولحوم الحيوان ذي الذنب؛ لأنهم يستوحون الغيب في الرؤيا، وهذه الأطعمة تمنع الرؤيا الصادقة.
والغالب أنهم عرفوا شيئًا من أقوال حكماء اليونان من طريق القساوسة النسطوريين، الذين هاجروا إلى جنوب العراق في صدر المسيحية هربًا من الاضطهاد، وكان أكثرهم يعرفون اليونانية ويقرءون الفلسفة، ولا سيما الرواقية والفيثاغورية، ولكن اتصال اليونان ببلاد الكلدان أقدم من المسيحية ومن اليهودية. ومن الكلدانيين أخذ اليونانيون خصائص الكواكب المعبودة، وحرمات المعابد التي تقام لها، وشعائر الطواف بها وحماية الضحايا التي ترسل في حرم المعبد، وما إلى ذلك من العادات والعبادات، التي اندثرت بين الصابئة المحدثين ضرورةً لا حيلة لهم فيها؛ لأن إقامة الحرم في مكان مطروق إنما يقوم بقوة الحاكم، وبناء المعابد إنما يقوم بوفرة المال وكثرة العدد، وهم قلائل متفرقون لا يملكون الثروة ولا السلطان.
•••
والمشهور عن الصابئة أنهم يوقرون الكعبة في مكة، ويعتقدون أنها بناء هرمس أو إدريس عليه السلام، وأنها بيت زحل أعلى الكواكب السيارة، وينقل عنهم عارفوهم أنهم قرءوا صفة محمد عليه السلام في كتبهم، ويسمونه عندهم ملك العرب؛ لأن الشائع فيهم أنهم لا يؤمنون بالأنبياء، إلا فرقة واحدة تذكر شيثًا وإدريس وإبراهيم ويحيى المغتسل، ويحسبونهم تارة من الأنبياء، وتارة من عباد الله الخُلص الذين وصلوا بالرياضة والعبادة إلى مقام الزلفى والإلهام.
وقد كان الباحثون يعجبون لتنويه القرآن الكريم بهذه الملة مع قلة عددها، وخفاء أمرها، ولكن الدراسات الحديثة بينت للباحثين العصريين شأن هذه الملة في دراسات الأديان كافة، فعادوا يبحثون عن عقائدها الآن وعقائدها في عصر الدعوة الإسلامية، وثبت لهم أنها تؤمن بالله واليوم الآخر، وتؤمن بالحساب والعقاب، وأن الأبرار يذهبون بعد الموت إلى عالم النور «آلمي دنهورو»، وأن المذنبين يذهبون إلى عالم الظلام «آلمي دهشوخا»، ويلبثون فيه زمنًا على حسب ذنوبهم، ثم ينقلون منه إلى عالم النور.
ولهم كتاب يسمونه «كنزة»، ولعله من مادة الكنز التي تفيد معنى النفاسة والكتمان؛ لأنهم يقدسونه ويخفونه فلا يطلعون أحدًا على أسراره.
إلا أن المتفق عليه أن اللغة التي كُتب بها كتاب الكنزة وغيره من الكتب المقدسة عندهم هي لغة سامية الأصل قريبة من السريانية، وتكفي نظرة في مصطلحاتهم للجزم بهذه الصلة الوثيقة بين لغتهم واللغة العربية الحديثة، فضلًا عن القديمة المهجورة.
•••
فمن كلماتهم ومصطلحاتهم «آلمي» بمعنى عالم، و«شماس» بمعنى شمس، و«هي» بمعنى حي، و«روحايا» بمعنى روح، و«موشيهه» بمعنى المسيح، و«يهيه» بمعنى يحيى، و«قدموي» بمعنى القديم، وحران «سفلايي» بمعنى السفلي، و«ترميد» بمعنى تلميذ، و«أسفر» بمعنى سفر، «تنيائي» بمعنى الثاني، و«تليثائي» بمعنى الثالث، واسم الصابئة نفسه على ما يقول بعضهم مأخوذ من السابحة؛ سُمُّوا به لكثرة الاغتسال في شعائرهم، وملازمتهم شواطئ الأنهار من أجل ذلك، ولكنهم يطلقون على ملتهم اسم «مندالي» ولا يعرف من أين مأخذه القديم، واشتقاق اسمهم من السبح أرجح من نسبة الاسم إلى السبأوث العبرية بمعنى الجنود — جنود السماء — أي الكواكب، التي اشتهروا بعبادتها.
والأبجدية عندهم قريبة من أبجدية حساب الجمل على حسب ترتيبها في أبجد هوز حطي كلمن إلخ؛ وهي: «آ، با، كا، دا، ها، وا، زا، ها، طا، ها، يا، كا، لا، ما، نا، سا، أي، يا، صا، قا، را، شا، تا.»
ومن هذه الحروف ما يُقارب مخارج الحروف التي تقابله في اللغة الفارسية؛ لأنهم تعودوا نطقها منذ زمن قديم.
ولم يتيسر حتى اليوم كشف الستار عن بواطن معتقداتهم وشعائرهم؛ لأنهم يصطنعون التقية ويوجبونها، ومن ذاك أنهم يحرمون الصيام باطنًا كما اشتهر عنهم، ولكنهم يصومون جهرًا، ويروي ابن النديم في الفهرست أنهم يصومون ثلاثين يومًا مفرقة على أشهر السنة، وقد ينتفلون بصيام أيام النسيء الخمسة، ويروى عنهم أيضًا أنهم يصومون خمسة أسابيع يأكلون فيها الطعام نهارًا وليلًا، ويجتنبون أكل اللحوم المباحة لهم، وهي غير ذات الذنب، ويقال: إن الصيام بنوعيه قديم عندهم يرجع إلى أيام البابليين.
وقد ذكرهم القرآن الكريم غير مرة، وجاء في سورة البقرة: (٦٢): إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
ولا نعلم اليوم على التحقيق تفصيل عبادتهم في أيام الدعوة الإسلامية، ولكنهم كانوا ولا يزالون ينزهون الله غاية التنزيه ويقولون: إن الكواكب ملائكة نورانية. ولم تكن لهم هياكل ولا أصنام عند ظهور الإسلام، ولا بد عندهم من مخلوق متوسط بين الروحانية والمادية يهدي الناس إلى الحق؛ لأن الروحانيات مخلوقة من كلام الله جل وعلا، دعاها بأسمائها فوُجدت، ولا يصل كلام الله إلى الناس إلا بوساطة مخلوق بين النور والتراب، ترفعه الرياضة والهداية، وتؤثره نعمة الله.
وأقرب ما نشبه به هذه العقيدة أنها كالحوض الذي تصب فيه مسارب الماء من كل مورد، فإذا أخذت ماءه فحللته وجدت فيه أثرًا من كل مسرب، ولكنها توجد فيه على امتزاج، ولا بد من الجهد لتصفيتها والرجوع بكل جزء من أجزائها إلى ينبوعه الذي صدر منه في أصله البعيد.
وهكذا العقيدة الصابئية في امتزاج عناصرها وعلاقة كل عنصر منها بالعناصر الأخرى، ولكنها على هذا الامتزاج مهمة جدًّا في البحث عن تلك العقائد، وبخاصة عقيدة الخليل.
فهي مهمة من وجهة المكان؛ لأنها قديمة العلاقة بكل مكان تعلقت به سيرته عليه السلام، من جنوب الفرات إلى شماله، إلى بلاد السريان، إلى بلاد النبطية من شمال الحجاز.
وهي مهمة من وجهة زمانها؛ لأن لغتها المقدسة تشير إلى زمان متوسط بين اللغات القديمة المهجورة واللغة السريانية الحديثة، ولم تكن لغة إبراهيم سريانية حديثة كالتي بقيت إلى الزمن الأخير، ولم تكن إحدى اللغات المهجورة التي يجمع المؤرخون موادها مبعثرة متفرقة، ولا يفهمون مفرداتها وتراكيبها وقواعدها؛ فإن تلك اللغات المهجورة قد انقطعت صلتها بمن بعدها على خلاف لغة الخليل.
فإذا أشارت لغة الصابئة إلى زمن متوسط بين اللغات المهجورة واللغات السامية المتأخرة، فهي إحدى القرائن التي يُستعان بها على تعيين زمان الخليل.
•••
وهي مهمة من جهة موضوعها؛ لأنها ترينا ملتقى التوحيد القديم والوثنية القديمة، وفيها بقايا الاصطدام بين العقيدتين، وقد يكون مدار الاختلاف بين عقيدة الخليل ومخالفيه حول هذا المصطدم، فإن بقايا التنازع بين المعتقدات ظاهرة في العقائد الصابئية يكاد بعضها أن يكون ردًّا على البعض الآخر، فلا وثنية ولا إيمان بالكواكب من جهة، ولا خلاص في الوقت نفسه من الوثنية والإيمان بالكواكب على صورة من الصور، ولعل العقيدة الصابئية — كما بقيتْ — خليط مجتمع من الجانبين بعد هجرة إبراهيم وشيعته من وطنهم القديم.
ومن هنا كانت نحلة الصابئة مهمة في دراسة الأديان على العموم، ودراسة دين إبراهيم على الخصوص، وكان لها في ذلك شأن لا يناسب عددها القليل وعزلتها التي فرضتها على نفسها وفرضتها عليها أحداث الأيام.