عودة المختفين
في صباح اليوم التالي، كان إيان يحاول أن يطرد بقايا النوم من عينَيْه، بينما كان ينتظر الحُرَّاسَ الآخَرين كي ينضموا إليه عند سفح الجبل. كانت الليلةُ الماضية قد شهدت ساعاتٍ من الموسيقى والرقص والاحتفالات، واليومَ كان إيان يعلم أنَّ ثمة الكثيرَ من الأسئلة التي سيودُّ بقيةُ الحُرَّاس أن يطرحوها عليه.
انتظَرَ إيان إلى أن أشرقت الشمس كليًّا، ثم انطلق بحثًا عنهم. وجد إيان الحُرَّاسَ عند برج المراقبة يراقبون جبالهم، التي كانت خاليةً، بلا حماسٍ عبر عدسات التليسكوب.
سألهم إيان: «ما الذي تفعلونه هنا؟ لقد انتظرتكم عند سفح الجبل لساعات، وكان العُمَّالُ مستعِدِّين للعودة إلى الجبال برفقتكم. ماذا حدث؟»
استدار الحُرَّاسُ ونظروا إليه، لكنَّ أحدًا لم يُجِبْ عن أسئلته.
ولكنْ فجأةً أدرك إيان سببَ المشكلة؛ ببساطة، لم يكن الحُرَّاسُ يعرفون الخطوةَ التالية التي يجب عليهم اتخاذها.
«حسنًا، تعالوا معي!» نظر إيان إلى وجوههم القَلِقة، ثم قال: «ثقوا بي.» استدار إيان بعدها وقادهم في الطريق إلى جبل ساكس.
لحُسْن الحظ، كان توب هو أول مَنْ قابلوه هناك من الووركرز، وقد كان من العُمَّال الملتزمين للغاية. كان توب يفرِّغ محتوياتِ حقيبةٍ من الياقوت الأحمر بحرصٍ في صندوقٍ عند سفح الجبل، وقد حدَّقَ الحُرَّاسُ في المشهد الذي كان أمامهم بإنعام.
سأل إيان وهو ينظر باتجاه الحبال التي تدلَّت من أعلى: «ما أخبار نظام المصاعد الجديد؟»
أشار توب بإبهامه علامة على أن النظام يعمل بصورة ممتازة.
التفتَ إيان للحُرَّاس وقال: «إنها طريقة جديدة بدأنا في تطبيقها منذ أيام، وقد كان توب هو مَنِ اقترحها. وبهذه الطريقة، سيركِّز الووركرز اهتمامَهم على جمع الجواهر بدلًا من إهدار الكثير من الوقت في تسلُّق الجبل والهبوط منه؛ حيث إنهم يتسلَّقون الجبلَ في الصباح، ويبقون هناك حتى موعد الغداء.»
بينما كان إيان يتحدَّث، انزلقَتْ حقيبة على الخط واتجهت ناحيتهم. التقط توب الحقيبةَ وأفرغ محتوياتها من الأحجار الحمراء والزرقاء والخضراء بحرصٍ في الصندوق.
«بفضل توب وفكرته، لم نَعُدْ نرى الكثيرَ من الجواهر المكسورة وقد ارتفعت جودةُ حصادنا من جرَّاء ذلك. كما أن عُمَّالنا أصبحوا أكثر سعادةً بسبب قلة عدد المرات التي يضطرون فيها لصعود الجبل والنزول منه؛ الأمر الذي يُعَدُّ أكثرَ أمانًا بالنسبة إليهم؛ وعلاوة على ذلك، فقد زاد حصادنا اليومي من الجواهر. كما ترون، هذه هي أهدافنا: رضا الووركرز وسلامتهم، ورفع مستوى الجودة، وزيادة حصادنا.»
نظر إيان إلى توب الذي كانت علامات الفخر قد اعتلت وجهه.
سأل أحد الحُرَّاس وتفاجَأَ إيان؛ إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي يتكلَّم فيها أحد الحُرَّاس منذ بداية اليوم: «كيف تعمل هذه المصاعد إذن؟»
قال إيان: «لِمَ لا تريهم يا توب؟»
استمع الحُرَّاس باهتمام إلى توب وهو يشرح طريقة عمل النظام، ثم قادهم توب ببطء إلى أعلى الجبل، وأخذ يشرح لهم خطوات عمل النظام خلال صعودهم.
في نهاية اليوم، عاد الحُرَّاس وهم يشعرون بالحرِّ والتعب والتشوُّق للبدء في تطبيق النظام نفسه في الجبال التي كانوا مسئولين عنها.
في الليل جلس الجميع حول نار المخيَّم، وعرَّفَ إيان كلَّ حارسٍ بالووركرز الذين يعملون في الجبل الذي كان يُشرِف عليه.
خمدت النيران تدريجيًّا وعاد الووركرز إلى منازلهم، ولكن المشرفين بَقَوْا في أماكنهم وكأنهم ينتظرون شيئًا. كان إيان يعرف الشيءَ الذي ينتظرونه.
«الخطوة التالية بعد أن تحدِّدوا أهدافَكم معًا، هي أن تروا الووركرز وتقدِّروا جهودهم.»
ابتسَمَ إيان عندما رأى نظرات التعجُّب التي اعتلَتْ وجوههم، ثم سار في الظلام باتجاه منزله.
في الصباح التالي، ذهب إيان إلى برج المراقبة أولًا؛ خشيةَ أن يجد الحُرَّاس مجتمعين هناك مثلما حدث في المرة السابقة، ولكنه اطمأن عندما ذهب إلى هناك ووجد منصة المراقبة خالية.
اتجه إيان إلى الجبل الأول، وإذا أحد الحُرَّاس يمر في الطريق وكان يسير برفقة أحد الووركرز.
قال الحارس: «لم أكن أعلم أن الطريق منحدرٌ إلى هذه الدرجة، كما أنه ليس طريقًا مباشِرًا أيضًا. كنَّا نتحدَّث عن أهدافنا في صباح اليوم، وقد أرانا الووركرز طرقًا غير مألوفة ستجعل مهمتنا أسرع وأسهل. سيستغرق الأمرُ بعضَ الوقت؛ إذ إننا سنحتاج إلى توسيع الطريق وتحسينه، ولكن حجم الاستفادة سيكون هائلًا؛ سيزداد رضا الووركرز بسبب هذا الأمر، وستزداد مع رضاهم حصيلةُ الجواهر. والفضل في الاقتراح يعود إلى كيندال الواقفة معنا هنا.»
قال إيان: «عظيم، لقد بدأتَ في رؤية الووركرز. الخطوة التالية التي ينبغي عليك اتباعها هي تقدير كيندال على فكرتها. فَكِّرْ في طريقةٍ تحتفل بها الليلةَ بهذا الإنجاز.»
سأل الحارس: «أتعني الطريق الجديد؟ لكننا لم نبدأ في العمل عليه بعدُ.»
شرح إيان الأمر للحارس في صبرٍ وقال: «إنك تقدِّرها على الفكرة لا على تطبيقها. سيكون لتطبيق الفكرة وتنفيذها احتفالٌ آخَر في يوم آخَر.»
ابتسم إيان واتجه إلى الجبل التالي. عند كل جبل ذهب إليه، وجد إيان حُرَّاسًا مرهَقين ومنهَكين يسيرون على الممرات الجبلية، وتعتلي وجوهَهم نظرةُ أملٍ.
كان الوقت قد تأخَّرَ عندما وصل إيان إلى الجبل قبل الأخير. كان هذا الجبل بلا شكٍّ الأكثرَ تحديًا من بين كل الجبال؛ وذلك بسبب وعورة منحدراته وشدة انحنائه؛ الأمر الذي يجعل نزوله صعبًا. بَدَتْ على وجه الحارسة علاماتُ الإحباط عندما ذكَرَ إيان الاحتفالَ، واعترفَتْ قائلةً: «لكنني لا أستطيع التفكيرَ في شيء واحد يمكننا الاحتفال به؛ لقد كان يومًا شاقًّا على الجميع.»
ردَّ إيان بنبرة اقتراح: «بالطبع، لن تحتفلوا كلَّ يوم، ولكنكم قد أنهيتم أولَ يومٍ لكم في العمل كفريقٍ. كنت سأحتفل بهذا لو كنتُ مكانك؛ إنَّ الاحتفالات تخلق أسبابًا للمزيد من الاحتفالات. وعلى أي حال، إنَّ الوقت الذي لا ترين فيه داعيًا للاحتفال، دائمًا ما يكون هو الوقت الذي يحتاج فيه فريقك إلى أن يحتفل.»
تساءَلَ إيان وهو يسير مغادرًا المكان عمَّا إذا كانت الحارسةُ التي أصابها الإحباطُ ستعمل بنصيحته، وتمنَّى أن تفعل ذلك.
في تلك الليلة، ترك إيان اجتماعَ فريقه لعدة دقائق فقط كي ينصت للأصوات التي جاءت من الأماكن المحيطة بالجبل؛ سمع إيان هتافًا وضحكًا متقطِّعًا يتردَّد صداه عبر الوادي، ولكن أفضل ما في الأمر كان رؤية النار المشتعلة وسماع موسيقى قادمة من ناحية الجبل الوعر القريب للجبل الذي يُشرِف عليه، والذي لم يكن لدى روَّاده سببٌ للاحتفال سوى انقضاء أول يوم لهم في العمل معًا دون مشاكل.
كانت هذه علامة جيدة، ولم يكن في استطاعته أن ينتظر حتى صباح الغد أو صباح بعدِ غدٍ أو بعدِ بعدِ غدٍ.
بعد أول ليلة من الاحتفالات، بدأت الأمور تتحسَّن تدريجيًّا على جزيرتهم التي تطل على بحر ميديوكر. صار الووركرز يحصدون الزمرد بانتظام من كل الجبال، وأصبح العملُ أسهلَ ومردودُه أكبرَ، كما ازداد حجم المحصول وارتفعت جودته عن السابق. الووركرز والهايلاندرز يعملون الآن جنبًا إلى جنب بحيث أصبح من الصعب التفرقة بينهم؛ كان الجميع يُعامَلون باحترام، وكانت أفكارُ الكل مسموعةً، والعمل الرائع يُحتفَل به، ولكن أفضل ما في الأمر هو انقضاء فترة طويلة دون أن يختفي أحدٌ من الووركرز.
وهكذا نما الكنز، وازداد العائد.
بعد مضي عام على حفل توزيع ثمار العُمَّال الماضي، الذي كان صادمًا إلى حدٍّ ما وقتَها لكنه صار الآن تاريخيًّا؛ رتَّبَ الهايلاندرز والووركرز لإقامة احتفال كبير بمناسبة التغييرات التي حدثت خلال هذا العام. ومع اقتراب نهاية الليلة، وقف إيان فوق صخرة كبيرة محاطة بمئات السلال التي اكتظَّتْ بالفاكهة ذات الألوان المتلألئة كالجواهر، وأشار إيان بيديه طالبًا الهدوءَ، وتوقَّفَ قَرْعُ الطبول وصمَتَ الحشد.
قال إيان: «في العام الماضي، حقَّقْنا ما كنَّا نخطِّط لتحقيقه.» هتف الجميع. أردف: «ولكنني سمعت الكلام الذي يدور بينكم. تتحدثون عن الماس؛ تقولون إنه علينا أن نجلب الماس من جديد. لقد نجحنا في جلب الماس على مدى سنوات مضت، ويمكننا أن نفعل هذا الآن. معًا، هذا العام، يمكننا أن نجلب أولَ دفعة من الماس بعد مرور أكثر من عَقد من الزمان.»
تعالت أصوات الطبول والهتاف، وقفز إيان عن الصخرة ثم وقف بجانب ستار.
كانت ستار تبتسم، ولكنه لمح نظرةً في عينَيْها. عرف إيان معنى تلك النظرة.
قال لها: «كنَّا في حاجةٍ إلى أن يكون جون معنا في مثل هذا اليوم، أليس كذلك؟»
أومأت ستار برأسها موافقةً.
فجأةً، شعر إيان بلسعة في الجو المحيط به. لوهلة، قَلِقَ إيان وظنَّ أنه كان على وشك أن «يتبخَّر» ويختفي، ثم سمع صوت فرقعة طفيفة رأى بعدها رجلًا ظهر أمامه فجأةً من العَدْم. تعرَّف إيان على الرجل على الفور.
إنه جون.
سمع إيان ستار تصرخ من هول المفاجأة ورآها تجري لتعانِق جون. تبعها آخرون من الووركرز، وإذا بنا أمام مشهدٍ امتزجَتْ فيه نشوةُ الابتهاج الغامر بالفوضى.
قالت ستار وهي تبكي فرحًا: «لقد ظننا أنك مُتَّ، أين كنتَ؟»
ضحك جون قائلًا: «لا، لم أمُتْ! ولكنني … ذهبتُ إلى مكان آخَر كان فيه أشخاص يحتاجونني، والآن، يبدو أن هذا المكان هنا هو أفضل مكان لي.»
رفع جون رأسه ونظر إلى إيان وقال: «إنَّ أخبار جزيرة كوباني تنتشر بسرعة، وأراهن أن الكثير من الووركرز الذين اختفوا سيعودون مثلما عُدْتُ.»
كان جون على حقٍّ؛ بعد عودته، عاد الكثير من الووركرز. كان هؤلاء قد سمعوا بالتغييرات التي حدثت وبنجاح الجزيرة، وقد عادوا كي يكونوا جزءًا من هذا كله. أحضر جون أول ماسة من سنوات عديدة، وقد ساعَدَ أعدادًا لا تُحصَى من الووركرز من أمثال ستار وريمي وتوب في الوصول إلى الارتفاع الذي وصل إليه.
وحتى الآن، لا يزال الووركرز والهايلاندرز يجلسون في ضوء الشموع أو حول نار المخيَّم ليَرْوُوا أسطورةَ الرجل الذي رأى غير المرئيين وقدَّر جهودهم، فصارت رؤيتُه هي السببَ الذي أنقذ شعب كوباني.
قال أحد كبار القبيلة: «اليومَ، نعمل معًا من أجل النجاح. من الصعب أن نصدِّق أن الوضع كان مختلفًا عمَّا هو عليه الآن في يومٍ من الأيام.»
وقد يتوقَّف أحد الشباب الصغار، الذي كان يلهو بعصاه في النار، ويسأل: «ولكن أَلَسْنا نحن مَن نحكم الووركرز؟ نحن رؤساؤهم، أليس كذلك؟»
عندها سيبدو القلق في عيون الهايلاندرز الكبار الذين تجمَّعوا حول النار وكأنهم يشهدون عودة حقبة مُرعِبة جديدة.
ولكن رئيس القبيلة سيردُّ بهدوء وحزم ويقول: «كل ما هنالك أن الوضع يتغيَّر للأفضل عندما نعمل معًا.»
وسينظر دائمًا طفل صغير في توتُّرٍ ناحيةَ الظلال المتراقصة في أنحاء المكان ويسأل: «هل سيكون ثمة أشخاص غير مرئيين بعد الآن؟»
سيردُّ الكبار دائمًا: «قطعًا لا. هكذا تسير الأمور.»
(١) عودة المختفين
(١-١) ماذا يتوقَّع منك الموظفون؟
لعلك سمعت قصة موظف المبيعات المتميِّز في عمله الذي قُتِل في حادث مأساوي باستخدام مفرمة ثوم يدوية. (لا تسألنا عن التفاصيل!) عندما وصل هذا الموظف عند الأبواب اللؤلؤية، حيَّاه القديس بطرس وقال له: «ينبغي عليك أن تقضي يومًا في الجنة ويومًا في النار قبل أن تختار مكانًا تقضي فيه حياتك الأبدية.»
كان عليه أن يقضي اليوم الأول في النار، ولكنه لم يشهد أيًّا من النحيب والعويل والأسنان المُحطَّمة التي كان يتوقَّع أن يراها، بل وجد نفسه في مكان جميل يأكل فيه طعامًا لذيذًا، ويقابل فيه أشخاصًا مُبهِرين بَدَا عليهم الانبهارُ والاهتمام بخلفيته. قضى الموظف وقتًا جيدًا في هذا المكان، لدرجة أنه لم يجد لديه رغبة في مغادرته عندما انتهى اليوم.
بعد تجربته المفاجئة في النار، كان الموظف يشعر بشيءٍ من التوتُّر بشأن ما سيشهده خلال يومه في الجنة (تساءَلَ الموظف في قلقٍ عمَّا إذا كانت الأيام تحمل عكس معانيها في الحياة الأخرى). ولكن على ما يبدو، كانت الجنة لطيفةً مثلها مثل النار، وكان بها أصواتُ موسيقى تُعزَف على آلة القيثارة، والكثيرُ من السُّحب المخملية البيضاء، كما توقَّعَ.
كان القرار صعبًا، ولكن في نهاية المطاف قرَّرَ الموظف أن يقضي حياته الأبدية في النار؛ إذ ارتأى أن هذا الاختيار كان ينطوي على قدرٍ أكبر من الإثارة مقارَنةً بالجنة.
ولكن عندما وصل هناك، وجد أن المكان قد تغيَّرَ؛ بحيث صار من الصعب التعرُّف عليه؛ رأى هناك أشخاصًا شاحبين يجوبون الصحراء تحت وطيس الشمس الحارقة بلا هدف، ويؤدُّون مهامَّ لا معنى ولا نهاية لها.
صرخ الموظف في وجه الشيطان وسأله: «ماذا حدث؟ منذ يومين فقط، كنتُ هنا وحضرتُ حفلًا رائعًا برفقة أناس مُبهِرين، ولكن الجميع الآن بائسون والوضع لا يُطاق.»
ابتسم له الشيطان ابتسامةَ العارف بالأمر وقال: «حسنًا، لقد كان هذا يوم التوظيف، وأنت الآن قد صرتَ موظفًا.»
في كل مرة حكينا فيها تلك القصة كان الناس ينظرون إلينا النظرةَ نفسها؛ كانت نظرتهم تقول: كم كانت القصة ستصبح مضحِكةً وخفيفةَ الظل لو لم تكن حزينةً إلى هذا الحد! إنه واقع مُحزِن ولكنه حقيقي.
إنَّ الصورة التي يرسمها الموظفون في ذهنهم للشركة أثناء المقابلات التي تسبق انضمامَهم إلى العمل، تختلف كل الاختلاف عن حياتهم اليومية في العمل؛ وأكبر اختلاف يراه الموظفون هو الاختلاف الذي يرونه في العلاقة الشخصية بينهم كموظفين وبين المدير المشرِف عليهم.
تأمَّلْ هذا: في أثناء المقابلة الشخصية، يحصل الموظف المحتمل على كامل انتباه المشرف؛ يعدِّد المشرِفُ الإنجازاتِ التي حقَّقَها الموظف ويناقشها نقاشًا مطوَّلًا، كما يسأله عن سيرته المهنية والأهداف التي يتمنَّى تحقيقَها خلال السنوات الخمس المقبِلة، ويشجِّعه على طرح الأسئلة. بعبارة أخرى، يشعر الموظف أن ثمة مَنْ يسمعه ويحترمه ويعرف قيمته ويقدِّره على ما أنجزه في الماضي، ثم يحصل الموظفُ على الوظيفة.
وغالبًا ما يتغيَّر كلُّ شيء بعد ذلك.
خُذْ على سبيل المثال قصةَ جيف الذي حصل على وظيفة أحلامه، ثم اكتشف أنه يعيش أسوأ كابوسٍ في حياته.
قال جيف: «وصلتُ هناك في يومِي الأول، ولم أستطع تصديقَ ما رأيتُ؛ لم يكن أحدٌ في انتظاري، وكانت مديرتي المباشِرة في إجازة، ولم ينظف أحد مكتبي، فنظَّفتُه بنفسي، كما أنني اضطررتُ أن أنتظر حتى عودة مديرتي من الإجازة كي أبدأ العمل؛ إذ لم يعرف أحدٌ كيف يتصرَّف معي. كانت هذه أطول خمسة أيام قضيتُها في حياتي المهنية كلها.»
في الواقع، تحوَّلَ الوضع من سيئ إلى أسوأ؛ فحتى عندما عادَتِ المديرة من إجازتها لم يرها إلا بعد مضي أسبوع آخَر.
«هذه ليست مزحة؛ كنتُ أجد تعليماتٍ مكتوبةً على مكتبي، أو أتلقَّاها عن طريق أحد زملائي أو عبر البريد الإلكتروني أو البريد الصوتي. وتمكَّنتُ من رؤيتها أخيرًا في الاجتماع الشهري للموظفين، عندها نظرَتْ إليَّ وكأنَّ شيئًا لم يحدث وقالت: «مرحبًا بك في الشركة!» علمتُ عندها أنني قد لا أراها إلا بعد شهر؛ ومن ثَمَّ قدَّمْتُ إشعارًا مسبقًا بالاستقالة في التوِّ واللحظة.»
إنَّ عدم الإبقاء على الموظفين وإهدار مواهبهم بصفةٍ مستمرة يقتل شركتك، وعليك أن تعترف بأنَّ قسم الموارد البشرية في مؤسستك يشهد معدلًا مرتفعًا من دوران العمالة عندما تكون الأوضاعُ الاقتصادية جيدةً. في أي شركة عادية، تستنزف تكاليفُ دوران العمالة نسبةً تتراوح ما بين ١٢ و٤٠ بالمائة من دَخْل الشركة قبل خصم الضرائب، وذلك بحسب دراسة أجرَتْها شركةُ برايس ووتر هاوس كوبرز في عام ٢٠٠٦. يا له من أمر مُخجِل! ربما كان من الأفضل أن تقتلع حصةً ضخمة من مؤسستك وتُلقِي بها في النهر.
وفقًا لوزارة العمل الأمريكية، فإن استبدال موظف جديد بموظف حاليٍّ يكلِّف الشركةَ الواحدة ١٠٠ ألف دولار على الأقل. ووفقًا لتقديرات هذه الوكالة، فإن تكاليف استبدال الموظف الواحد تبلغ أربعة أضعاف راتبه السنوي، وليس بنسبة ١٥٠ بالمائة من راتبه السنوي كما أشرنا سابقًا. تتراوح معدلات دوران العمالة في معظم المجالات بين ٣٠ و٤٠ بالمائة، ولكن بعض المجالات الأخرى، مثل قطاع الخدمات ومجال البيع بالتجزئة، دائمًا ما تشهد معدلاتِ دورانِ عمالةٍ تبلغ ١٠٠ بالمائة. يتوقَّع المعهد القومي لإدارة الأعمال أنه على الرغم من المناخ الاقتصادي السيئ، فإن أصحاب الأعمال سيفقدون ٦٠ بالمائة من موظفيهم؛ ومن ثَمَّ سيستبدلون بهم آخَرين خلال السنوات الثلاث القادمة. في مؤسسةٍ يعمل بها ٢٥٠ موظفًا، يتقاضون رواتبَ بمتوسط ٥٠ ألف دولار سنويًّا، ستبلغ تكلفة استبدال هؤلاء الموظفين أكثرَ من ١١ مليون دولار. وبالنظر إلى خطورة ضياع هذا القدر الهائل من المال، فإن الأمر يستحِقُّ منَّا أن نبحث عن الخطأ ونعرف سُبُلَ إصلاحه.
في كتابنا الذي يحمل عنوان «مبدأ التحفيز»، تَمكَّنَّا من نشر نتائج استطلاعٍ خضع له ٢٠٠ ألف موظف، وأَجْرَتْه لنا مؤسسةُ هيلثستريم البحثية. أشار الاستطلاع إلى أن كل الموظفين تقريبًا يقرِّرون ما إذا كانوا سيستمرون في العمل على المدى الطويل لدى شركةٍ ما، في الأيام الأولى من بداية عملهم في تلك الشركة. (سيفاجئك عدد الموظفين الذين يتركون عملهم بعد اليوم الأول!) في الواقع، ٣٠ بالمائة من الموظفين الذين لم تنقضِ ٦ أشهر على تاريخ تعيينهم، يبحثون بالفعل عن وظيفتهم التالية.
عندما يترك هؤلاء الموظفون العمل لديك، فإنك تضطر في نهاية الأمر إلى إنفاق المزيد من المال كي تُعلِنَ عن حاجتك لأشخاص يتقدَّمون لشغل الوظيفة الشاغرة، فضلًا عن الوقت الذي سيضيع في إجراء المقابلات الشخصية مع المتقدِّمين للوظيفة، وما ستشهده شركتك من خسائر في الإنتاجية أثناء فترة البحث عن موظفين جُدد. كما أن عملاءك سيعانون لأن الشركة لا تعمل بكامل طاقتها. وقُلْ وداعًا للعمل الجماعي؛ لأن الجميع سيتزاحمون لأداء المهام التي كان يؤدِّيها أصحابُ الوظائف التي أصبحَتِ الآن شاغرةً.
وفي نهاية المطاف، ستحتاج وقتًا لتدريب الموظفين الجُدد؛ الأمر الذي سيستهلك موارد. بالطبع، كان بإمكانك أن تُلقِي بهم في عرين الأسود منذ اليوم الأول وتتمنَّى أن يخرجوا سالمين، ولكن تلك الطريقة لم تُجْدِ نفعًا معك في الماضي، أليس كذلك؟
ثمة معركة دائرة من أجل العثور على الموظفين الموهوبين والاحتفاظ بهم. في الماضي، كان الهدف من هذه المعركة هو الاستحواذ على الموظفين الموهوبين، ولكن اليومَ تغيَّرَ المشهدُ وصار هدف المعركة هو الاحتفاظ بهؤلاء الموظفين. إنَّ هذا التغيير لا يعود إلى نقصٍ في عدد الأشخاص المؤهَّلين؛ فالعكس هو الصحيح. ولكن السؤال بسيط: ما هي التكاليف التي تتكبَّدها كلما ترك موظف جيد العملَ لديك؟ وثمة نقطة أخرى يجب إثارتها: عندما يترك أفضل موظفيك العملَ لديك، إلى أين تظنهم سيذهبون؟ إلى منافسيك؟
الغريب في الأمر هو أن الموظفين المستقيلين الذين خضعوا للاستطلاع، يقولون إنهم يتركون عملهم في أغلب الأحيان بسبب أمورٍ يمكن لصاحب العمل إصلاحَها بسهولة. يقول معظم الموظفين في المقابلة التي تُجرَى عند استقالتهم، إنَّ سبب تركهم وظيفتَهم هو الرغبة في جَنْي مزيدٍ من المال، ولكن في المقابلات السرية التي يُجرِيها طرفٌ ثالث، اعترف معظمُ الموظفين الجُدد بشيء مختلف تمامًا؛ قال هؤلاء الموظفون إنهم لم يشعروا بالتقدير أو الاندماج، لم يشعر هؤلاء الموظفون أنهم جزء من الفريق أو المؤسسة، لم يكن الموظفون راضين عن الشخصيات التي تعاملوا معها، ولا عن التوترات التي كانت تسود مكانَ العمل. إنَّ هؤلاء الموظفين قد تركوا عملهم بسبب مشاكل في العلاقات؛ ففي معظم الأحيان، عَزَا الموظفون سببَ رحيلهم إلى مشاكل بينهم وبين مديرهم المباشِر.
دعونا إذن نُصلِح الأمرَ.
إنَّ بداية العمل في أي وظيفة جديدة تُشبِه القيادةَ على طريق سريع؛ أنت في سيارتك ولديك خريطةٌ ووجدتَ المدخلَ الصحيح، وبعد عدة محاولات ماهِرة تمكَّنتَ من الهروب من الزحام المروري لتجد أمامك ممرًّا منحدِرًا. أنت في موقف صعب ويتطلَّب منك قليلًا من العراك والتحدِّي، وتنجح في نهاية الأمر في إجبار السيارات الأخرى على أن تُفسِح لك الطريقَ كي تدخل. في نهاية المطاف، تصعد المنحدر بسيارتك ومِن حولك أصوات محركات السيارات المسرِعة. نظرة واحدة على جانبك وسترى الطريق السريع، ستجد السيارات والشاحنات تقترب نحوك بكل سرعتها، هذه السيارات والشاحنات لن تخفِّف من سرعتها كي تدعك تمر. وما الذي قد يدفعها إلى ذلك؟ ما الذي ستفعله إذن كي تسير بمحاذاة هذه السيارات دون أن تدهسك إحداها؟
على الطريق السريع، توجد حارة مخصَّصة لذلك؛ أَلَا وهي الحارة التي تندمج فيها السيارات بكل أنواعها مع حركة السير. لكل سيارة في هذه الحارة مسافةٌ صغيرة كي تلتزم بالسرعة المطلوبة، وإما ستواجه حادثًا. إنَّ الفترة التي يقضيها قائد السيارة على هذا المنحدر تعادِل فترةَ إعدادِ الموظفين الجُدد في مؤسستك.
هذه هي الطريقة التي تعمل بها فترة الإعداد (في الواقع، دَعْنا أولًا نشرح الأسباب التي تعيق العمل في هذه الفترة). في العادة، يقابل الموظفون المحتملون مديريهم المستقبليين، ويحصلون منهم على ملخصٍ عامٍّ للمهام المطلوبة لتأدية وظائفهم. إذا نجح هؤلاء الموظفون في إقناع المدير والحصول على الوظيفة، فإنهم يحضرون في اليوم الأول دون معرفة ما عليهم فعله مباشَرةً، وهذا لحُسْن حظهم؛ لأنهم في العادة لا يجلسون على مكاتبهم إلا بعد فترة؛ ومن ثَمَّ، يذهب هؤلاء الموظفون إلى قسم الموارد البشرية ويملئون العديدَ من الاستمارات. يجلسون في قاعات المؤتمرات (لو كانوا محظوظين)، يشاهدون فيديو يعطيهم نظرةً عامة على عملية التدريب، ويجد الموظفون أنفسَهم مُحاصَرين بسيلٍ من المعلومات، معظمها ليس له علاقة مباشِرة بالمهام التي سيُطلَب منهم تأديتها قريبًا، ويجلسون مع أشخاص من أقسام أخرى، ولن يروا هؤلاء الأشخاص مجدَّدًا إلا فيما ندر. تبدو المحاضرة عامةً وغير مُمتِعة على الرغم من ضرورتها؛ إنَّ مثل هذه المحاضرة هي التعريف الدقيق لتعبير وحدةِ تفريغٍ معلوماتيٍّ.
وأخيرًا، يَخرج الموظفون الجُدد من مكتب الموارد البشرية وقد أصابهم دوَّارٌ شديد؛ ومن ثَمَّ يُحالون إلى أحد الأشخاص العاملين في قسمهم الجديد، وهنا يبدأ التلقين. يقابل الموظفون الكثيرَ والكثيرَ من الأشخاص؛ ولكونهم غرباء، فإن هؤلاء الأشخاص لا يتعاملون معهم بطريقة ودودة للغاية. ويُوجَّهون إلى مكاتبهم، وربما يحصلون على غداء مجاني خلال ذلك. يبدأ الموظفون الجُدد في استيعاب أنشطة المكان وسياساته وطبيعة الشخصيات التي سيتعاملون معها. يتراكم العمل على مكاتبهم، وقبل أن يسأل أحدهم نفسه قائلًا: «ما الذي دفعني إلى العمل هنا؟» سيدرك أنه قد أصبح غارِقًا تمامًا في العمل.
كنَّا نسمِّي اليومَ الأول يومَ الإعداد والتوجيه، لكن هذا اليوم هو يوم مُرهِق ومُربِك بالنسبة إلى الكثير من الموظفين الجُدد. في الواقع، بنهاية اليوم الأول، لم يكن ٩٦ بالمائة من الموظفين قد قرَّروا ما إذا كانوا سيستمرون في العمل لدى الشركة أم لا، ومع ذلك فإن ١٥ بالمائة فقط من الشركات، لديها عمليةٌ رسمية فعَّالة لإعداد الموظفين الجُدد وتهيئتهم للاضطلاع بمهام وظائفهم.
ثم يأتي دور الموظف الجديد كي يُرِي الشركةَ ما لديه. هل سينجح أم سيفشل؟ وعندما نقول يفشل، فإننا نعني ينسحب.
إنَّ هذه الممارسات هي المعادِل المؤسسي للممارسات المهنية التي يخضع لها الأفراد الجُدد في كليةٍ أو جامعة. يمكننا توضيح الأمر على نحوٍ أفضل.
تخيَّلْ ردَّ فعلِك لو خضعتَ لأيٍّ من التجارب التالية كموظف جديد في مرحلة الإعداد: قبل تعيينك، يخبرك المدير بكلِّ شيء عن المؤسسة وكلِّ ما عليك فعله كي تحقِّقَ النجاح فيها، ثم يشرح لك مديرُك المباشِر كلَّ شيء عن الفريق بالتفصيل، ويخبرك عن قِيَم الشركة ويعطيك أمثلةً على الأعمال والسلوكيات التي تجسِّد الأهدافَ الأساسية للمؤسسة. قبل أن تصل إلى الشركة في يوم عملك الأول، تتلقَّى هديةً من المؤسسة تعبِّر لك من خلالها عن ترحيبها بك شخصيًّا، وتمنحك إحساسًا بأنك ستكون مهمًّا بالنسبة إلى المؤسسة كفردٍ.
في اليوم الأول، تقابلك مديرتُك عند البوابة الأمامية. دَعْنا نفترض أن اسم مديرتك الجديدة هو باربارا. ستعطيك باربارا فكرةً عامة عن الأشياء التي تنتظرك في اليوم الأول؛ تطلب منك الذهاب إلى قسم الموارد البشرية لساعتين، وستقابلك بعدَها كي تصطحبك في جولةٍ في أنحاء المكان، ثم ستنضمُّ إليكما مجموعةٌ من زملائك لتناوُل الغداء.
في ظهر هذا اليوم، تجلس معك باربارا، لا بهدف أن تُمطِرك بوابل من مهام العمل؛ ولكن بهدف أن تتعرَّف على توقُّعاتك. تسألك باربارا عن أهدافك، وتُقِرُّ بأن العمل في وظيفة جديدة أمر مُرهِق، وتسألك عمَّا إذا كان ثمة طريقةٌ يمكنها أن تساعدك بها، ثم تتحدَّث عن الإرشاد والتدريب والمهام الأولية التي ستضعك على الطريق من أجل تحقيق بعض الانتصارات السهلة.
توضِّح باربارا كمَّ المعرفة التي يُتوقَّع منك أن تكتسبها خلال الأسابيع الأولى من العمل والمهارات التي سيكون من اللازم توافُرها فيك. ستكون كلُّ تصريحاتها وأسئلتها مستمَدَّةً من القِيَم الأساسية للمؤسسة، وستوضح لك أهميةَ كلِّ مهمةٍ من المهام التي ستؤديها بالنسبة إلى الشركة ككلٍّ.
لا تتوقَّف تجربةُ إعدادك للوظيفة عند اليوم الأول لك في العمل؛ حيث تتابع باربارا تقدُّمَك في العمل على فتراتٍ منتظِمةٍ، أو على الأقل كلَّ أسبوع، وتسلِّط الضوءَ على إنجازاتك المهمة، لا سيَّما تلك الأعمال التي تجسِّد المعاييرَ المؤسسية، كما يعرض عليك زملاؤك في العمل المساعدةَ بلا حرجٍ. تتزايد المسئوليات التي تُوكَل إليك، وتتلقَّى التقديرَ والمكافآتِ كلما أحرزتَ مزيدًا من النجاح في عملك.
كيف إذن سيكون ردُّ فعلِك إذا كانت هذه هي تجربتك عند تسلُّم العمل بوظيفة جديدة؟
لعلك تُشكِّك في مدى قابلية هذه التجربة للتطبيق على أرض الواقع؛ بالطبع تقول إن هذه التجربة قد تكون تجربةً مثاليةً، ولكن مؤسستك ليس لديها الوقت لتقديم مثل هذا الدعم الحثيث للموظفين الجُدد. وهنا سنردُّ ونقول: ليس لديكم الوقت لتقديم الدعم، ولكن لديكم الوقت للبحث عن موظفين جُدد وتعيينهم وتدريبهم والبحث عن آخَرين بعد أن يرحل هؤلاء، ثم تعيينهم وتدريبهم وتكرار العملية للمرة الثالثة عندما يرحل هؤلاء أيضًا، وهكذا؟
هل تبدو لك هذه الطريقة في التعامل مع الموظفين الجُدد طريقةً ناعمةً؟ كانت الشكوك نفسها ستراودنا إنْ لم نطَّلِع على الإحصائيات. إنَّ الموظفين الجُدد لا يتركون عملهم بسبب أعباء العمل أو عدد ساعات العمل أو قيمة الراتب، والأمر لا يتعلق كذلك بمساحة مكاتبهم أو المزايا المالية الإضافية التي يحصلون عليها؛ إنَّ الأمور التي تدفع الموظفين إلى الاستقالة هي طبيعة علاقتهم بالأشخاص الذين يعملون معهم وحقيقة شعورهم أثناء العمل. يكرِّر الموظفون العبارات نفسها (أثناء التقديم لوظيفة جديدة) فيقولون: «لم أشعر بالانتماء»، «لم أشعر أن ثمة مَنْ يقدِّرني»، «لم أشعر بالتوافق بيني وبين مديري.» يشعر هؤلاء الموظفون بأنهم أشخاص غير مرئيين.
يُلقي المديرون اللومَ في ذلك على قسم الموارد البشرية، ويردُّ قسم الموارد البشرية ويقول: «لقد أرسلتم إلينا فشلًا جديدًا، لماذا لا تستطيعون الاحتفاظ بأي شخص؟» وبما أن الجميع مختلفون حول الشخص المسئول عن المشكلة، فإن الشركة تلقي باللوم على الشخص المتقدِّم للوظيفة وتقول: «يوجد نقص حاد في الأشخاص الموهوبين.» وهكذا، يدور الجميع في حلقة مفرغة، وترتفع التكاليف، وتزداد نسبة دوران العمالة، ويُلقَى العبءُ كله على عاتق الموظف الجديد الذي كان في السابق متفائلًا بعمله.
دعونا نضع حدًّا لهذه المعركة الدائرة منذ عصور. هل يمكننا أن نفعل هذا؟
إنَّ إعداد الموظفين الجُدد هو وظيفة المدير. يحتاج الموظفون الجُدد إلى علاقات مستمرة؛ يريد هؤلاء الموظفون أن يشعروا بأن ثمة مَنْ يقدِّرهم ويدرك قيمتهم من أول يوم لهم في العمل، كما أنهم يتوقَّعون استمرارَ التواصُلِ مع مديريهم، ويرغبون في أن يشعروا بأنهم موضع ثقةٍ. إنَّ هؤلاء الموظفين يعتقدون أنه من العدل — بل من الواجب أيضًا — أن يكونوا مسئولين أمام الإدارة عن تحقيق الأهداف المطلوبة، ولكنهم يريدون أيضًا أن يتلقَّوْا التقديرَ من الإدارة عندما يؤدُّون عملهم بإخلاص.
قد يستطيع قسم الموارد البشرية أن يساعد في تحقيق الأمور المذكورة أعلاه، وبالتأكيد فإن هذا القسم يلعب دورًا كبيرًا في ذلك، ولكن أهم علاقة يقيمها الموظف في العمل، هي علاقته مع أفراد الفريق؛ ففي نهاية الأمر، ما من شخصٍ يترك عملَه بسبب أحد موظفي الموارد البشرية، أليس كذلك؟
لعلك تذكر رسمة ديلبرت الهزلية التي حصل فيها كلُّ موظف على كمبيوتر محمول، لكن الحواسيب كلها كانت مربوطة في المكاتب بسلاسل؟ (بالمناسبة، فكرة هذه الرسمة الهزلية أرسَلَها موظف كان قد شهد هذه القصة بنفسه.) إنَّ التفكير المتناقض، الذي يجعل المديرين يخشون من أن يسرق الموظفون الجُدد أجهزةَ الكمبيوتر المحمول، هو إحدى المشاكل الشائعة في عملية إعداد الموظفين الجُدد لمواكبة الأداء المطلوب؛ فنحن نريد من الموظفين الجُدد أن يبدءوا العملَ بسرعة، ولكننا نعيقهم عن ذلك بإعطائهم تعليمات غير ملائمة. نريد منهم أن يشعروا بالانتماء، ولكننا لا نساعدهم على الانخراط في العمل. نريد منهم أن يعملوا بجدٍّ وذكاء، ولكن عندما يؤدُّون عملهم على نحوٍ صحيحٍ لا نقدِّرهم؛ ومن ثَمَّ فهم لا يعلمون ما هي الجوانب التي نقدِّرها في الموظف. عندما ندرِّبهم في الأسابيع الأولى تدريبًا غير مُتقَن، فإننا ندرِّبهم على الفشل ونقودهم دون قصدٍ إلى باب الخروج من المؤسسة.
هل تذكرون قصة جيف الذي حصل على وظيفة أحلامه، ثم قدَّمَ استقالته لمديرته التي لم يكن يستطيع مقابلتَها؟ لحُسن الحظ، لم تنتهِ القصة عند هذا الحد؛ فبعد أن قدَّمَ جيف إشعارًا بالاستقالة قبل أسبوعين من تفعيلها، اتخذت المديرة إجراءً فوريًّا وقابلَتْه واستمعَتْ له وهو يقرُّ لها بما يشعر به من إحباطات ومخاوف، ثم غيَّرت الوضع. ولحُسن الحظ، بقي جيف في عمله.
قال جيف: «أدركتُ أنَّ العمل مع مديرةٍ لديها رغبة حقيقية في تحسين الأوضاع باستمرارٍ، وتصغي إليَّ، وتتَّخِذ إجراءاتٍ بشأن الأمور التي ذكرتُها، وتمنحني ما أحتاج من التقدير؛ هو أمر استثنائي ويعني الكثير بالنسبة إليَّ.»
-
توافُر المزيد من فُرَص التطوير.
-
زيادة الراتب والمزايا.
-
تقدير مساهماتهم على نحوٍ أفضل.
ولكن إذا كان لدينا مدير يرى جهودَ موظفيه ويقدِّرهم ويحتفي بهم، فمَنْ ذا الذي سيحتاج إلى مزايا مالية ترغمه على البقاء في عمله؟
(١-٢) قوة التغيير
إنَّ السر يكمن في التغيير؛ يشمل هذا التغيير تغييرَ المكتب بحيث يصبح مطابِقًا للصورة التي رسمها الموظفون عند تعيينهم، وتغييرَ الطريقة التي يتعامل بها جميع المديرين لديك مع موظفيهم، وتغييرَ مؤسستك لكي تصبح مكانًا لا يريد الموظفون الحاليون مغادرتَه أبدًا، ويحلم الموظفون السابقون بالعودة إليه.
نعم، يمكنك أن تعيد موظفيك الذين تركوا العمل في مؤسستك.
كل ما يتوجَّب عليك فعله هو أن تهيئ بيئةً يشعر فيها الموظفون بأنك تعاملهم كأفرادٍ مساهمين ومهمين في الفريق، وكأشخاص بالغين لا كأطفال في حاجةٍ إلى مَنْ يقودهم ويأخذ بأيديهم. وبالطبع، عليك ألَّا تعاملهم كخصومٍ يجب السيطرة عليهم وتقويض حركتهم. إنَّ الجميع تقريبًا يحضرون إلى عملهم وفي نفوسهم رغبة في بذل أقصى ما لديهم من جهد، ويَحْدُوهم الأمل على أن يشعروا بالفخر بما حقَّقوه من إنجازات. ولكن هذا الالتزام بالعمل سرعان ما يتلاشى، عندما نجد أنفسنا مُلزَمين بوقتٍ محدَّد ندخل فيه إلى دورة المياه، أو مُجبَرين على التعرُّض للتفتيش عندما نعبر من الأبواب، أو مُعامَلين بتجاهُل بعد كلِّ المساهمات التي قدَّمناها.
في أفضل المؤسسات وفِرَق العمل، تدرك الإدارةُ حقيقةَ أن الموظفين هم الذين ينجزون العمل وتحتفل بذلك، ويكون المديرون مدرَّبين على الاستماع إلى كل موظف والتعامُل مع كل موظف بالأسلوب الذي يلائمه؛ وفي المقابل، يشعر الموظفون بالالتزام والولاء.
لكن إذا كنتَ تقرأ هذا الكلام وتشعر بالحيرة لأنك لا تعلم السبيلَ إلى تكوين مؤسسة من هذا النوع، فاعلم أنك لستَ وحدك؛ فمعظم المديرين لم يتلقَّوْا التدريبَ اللازم لتحقيق هذا. خلال عملنا مع مديرين من كل أنحاء العالم، اعترَفَ العديدُ منهم على استحياءٍ بأنهم لا يعرفون كيف يحفِّزون الموظفين الذين يشرفون عليهم.
كيف إذن وصل هؤلاء إلى منصب المدير من الأساس؟ إنَّ الشخص الذي يصل إلى مثل هذا المنصب، دائمًا ما يصل إليه لكونه أفضلَ خبيرٍ في تشغيل آلات المصنع ومعداته، أو أقدمَ فني معامل في المؤسسة، أو لأنه المهندس الذي حصل أيضًا على ماجستير في إدارة الأعمال؛ ولكن هل تؤهِّلُك هذه الأمور كي تقود أشخاصًا وتحفِّزهم؟ الإجابة هي: لا، هذه الأشياء لن تؤهلك لهذا المنصب، تمامًا مثل رخصة القيادة التي لن تؤهِّلك لقيادة قطار الأنفاق في نيويورك.
وكما قال بيل نوبي الذي يعمل كمدير إداري لإدارة عمليات المؤسسة بشركة إكسيل إنيرجي: «منذ عام تقريبًا، أدركنا أن ثمة فجوةً؛ حيث كان الموظفون ينالون الترقية بسبب إنجازاتهم في العمل لا لأنهم مديرون جيدون؛ وذلك يعني أننا في حاجةٍ إلى أن نزوِّدهم بالأدوات والتدريب والتشجيع الذي يحتاجونه كي يصبحوا مديرين جيدين.»
وهذا كلام صحيح؛ فالمدير الجيد يجب أن تكون لديه الأدواتُ المناسبة لممارسة مهامِّ وظيفته.
(١-٣) أهمية التدريب
وما هي وظيفة المدير؟
إنَّ أهم وظيفة على الإطلاق لدى أي مدير هي أن يركِّز اهتمامه على الموظفين وإسهاماتهم. إنَّ أهمية هذه الوظيفة تفوق أهميةَ الميزانيات والمشاكل التقنية وتقديم المنتجات أو الخدمات الجديدة وإرضاء إدارة الشركة.
أدرك كينت موردوك، الرئيس التنفيذي المتقاعد لشركة أوه سي تانر، هذه الحقيقة بعد فترة قصيرة من توليه إدارة شركته العالمية. يقول كينت: «استغرق مني الأمرُ بعضَ الوقت كي أُدرِك المعنى الحقيقي لمنصبي كمدير. قضيتُ السنوات القليلة الأولى في التركيز على ميزانيات الشركة واستراتيجيات العمل والتقنيات المستخدَمة فيه، إلى أنْ أدركتُ أن أهم شيء يمكنني أن أفعله أنا (وأي مدير آخَر)، هو التركيز على الموظفين ووَضْع ثقافة العمل المناسبة من أجلهم؛ وهي ثقافة التقدير.»
في الحقيقة، إنَّ الأمر ليس مفاجِئًا بالنسبة إلينا؛ لأن مفهوم القيادة لدينا ولدى الكثيرين لا يعني إتقانَ أسرار مهنة الإدارة وحِيَلها، أو «تقمُّصَ» شخصية المدير. على العكس، إنَّ القدرة على القيادة هي الناتج الطبيعي لوجود علاقة صادقة أساسها الاحترام المتبادل بين الموظفين ومديريهم المباشِرين. ويشكِّل التقدير الصادق، الذي يحظى به الموظفون على نحوٍ منتظمٍ، جزءًا من هذه العلاقة. إنَّ هذه العلاقة هي ما يضمن للمؤسسة رؤيةَ نتائج إيجابية مستدامة على المدى الطويل؛ إنَّ مثل هذه العلاقة هي التي تمكِّن الموظفين من بذل كلِّ ما لديهم من أفكارٍ وجهودٍ ومواهب في عملهم؛ هذه هي العلاقة التي تجعل الموظفين أشخاصًا مرئيين.
سأل بيل نوبي، من شركة إكسيل إنيرجي، مستنكرًا: «إذا لم تسلِّط الضوء على السلوكيات المهنية المرغوب فيها، ولم تكن لديك برامجُ لتقدير الموظفين، وإذا كنتَ لا تُجرِي استطلاعًا تجمع فيه اقتراحاتِ الموظفين؛ فكيف ستتمكَّن إذن من تغيير وضْعِ شركتك؟ قد تتمكَّن من تغيير وضْعِ شركتك في ظل هذه الأوضاع، ولكن هذا التغيير لن يدوم طويلًا. إن تقدير الموظفين بأسلوب استراتيجي هو ما يجعل هذا التغييرَ يستمر.»
ما السبب إذن في أن التدريب على القيادة يركِّز على كل شيء ما عدا تقدير الموظفين؟
إنَّ السبب في ذلك يعود إلى أننا قد ضللنا عن هدفنا في منتصف الطريق، وبدأنا ننظر إلى الإدارة بوصفها القدرةَ على تحليل البيانات المالية، واتخاذ القرارات بناءً على هذا التحليل، وإدارة المشروعات المعقَّدة، وإعداد رسوم بيانية لسير الأعمال. بدأَتِ الشركات في أمريكا الشمالية في إنفاق مليارات الدولارات كلَّ عام على برامج تدريب المديرين التنفيذيين التي ركَّزَ معظمها على مهارات القيادة؛ ولكن المفارقة أن كل هذه النفقات التي أُنفِقت على برامج تدريب المديرين التنفيذيين لم تَعُدْ على الشركات الراعية لتلك البرامج إلا بمعدلاتٍ ضئيلة للغاية من عائدات الاستثمار، وهذه حقيقةٌ ليست بغائبة عن إدارة كل شركة من تلك الشركات.
ثمة سبب آخَر وراء إهمال التدريب على تقدير الموظفين، حتى في الشركات التي تتبنَّى مفهومَ التقدير؛ هذا السبب هو أن الإدارة العليا للشركة تعتقد أن التقدير يجب أن يحدث بطريقة فطرية كالتنفُّس ونموِّ الشعر.
ولكن الطريف في الأمر هو أن معظم الأمور في حياتنا لا تحدث بطريقة فطرية؛ على سبيل المثال: يحتاج المرء إلى تعلُّم أمور مثل تناوُل الأطعمة الصلبة أو النوم طوال الليل أو الكلام أو الكتابة أو ركوب الدراجة أو المشي أو الجلوس، والتقدير شأنه شأن كل هذه المهارات، هو مهارة يجب تعلُّمها، ونادرًا ما يمكن للمرء اكتسابُ القدرة على تقدير الموظفين من خلال خبرته المهنية، حتى إنْ كانت هذه الخبرة تصل إلى عشرة أعوام أو عشرين أو ثلاثين عامًا.
كما ترى، إنَّ المدة التي قضاها شخصٌ ما في عمله ليست مؤشرًا جيدًا على مهارة ذلك الشخص أو قدرته على الإدارة. يشرح ستيفن بي روبينز، مؤلِّف كتاب «الحقيقة وراء إدارة الموظفين»، الأمرَ كالتالي: «إنَّ خبرة العشرين عامًا ما هي غالبًا إلا عام واحد من الخبرة تكرَّر عشرين مرةً.»
في الواقع، إنَّ المعيار الوحيد الذي يقيس النجاحَ الإداري بدقةٍ، هو قدرة المدير على تبنِّي ثقافةِ عملٍ يستطيع الموظفون النجاحَ في ظلِّها؛ ثقافةٍ تجعلهم يشعرون بقيمتهم ويرغبون في البقاء، أو بعبارةٍ أخرى ثقافة تقوم على تقدير الموظفين.
وأول خطوة يمكن للمدير أن يتَّخِذها كي يتبنَّى ثقافةَ عملٍ تقوم على التقدير، هي أن يدرك حاجته إلى التدرُّب على تقدير الموظفين. كتب جون سي ماكسويل في كتابه «الخيار لك» فصلًا بعنوان «التطوُّرُ اختيارٌ»، وهذا العنوان يعجبنا لأنه يبدو وكأنه عظة مكوَّنة من كلمتين؛ فتطويرُ الذات هو بالفعل اختيار.
هذه هي الحكمة من وراء التدريب على تقدير الموظفين؛ فالتدريب هو اختيارٌ يرفع من مستواك وينقلك إلى المرحلة التالية؛ التدريب يولِّد نوعًا من الجذب والشد بين مستوانا الحالي والمستوى الذي نحتاج إلى أن نكون عليه؛ التدريب هو الذي يجعل المديرين يدركون مدى حاجتهم إلى إشعال الحماس لدى أقسامهم وفي نفوس موظفيهم.
من فترة قصيرة، تلقَّيْنا خطابًا من سيدة كانت قد أُجبِرت على حضور عرض تقديمي قمنا به في شركتها؛ اعترفَتِ السيدة بأنه كانت لديها شكوك بشأن الحضور إلى فعالية خاصة بالتدريب على تقدير الموظفين، ولكنها سمعَتْ شيئًا في أثناء العرض غيَّرَ رأيها وأسلوب إدارتها إلى الأبد.
تقول السيدة: «كنتم قد أشرتم في أثناء العرض إلى أن أهم وقت للاحتفال، هو الوقت الذي يبدو فيه أنْ ليس ثمة ما يدعونا للاحتفال. إنَّ الأمر مخالف للحَدْس ولكنه منطقي لسببٍ ما؛ أعتقد أن هذا الأمر قد ساعدنا على النهوض من نكباتنا. لقد حضرتُ مئات الفعاليات الخاصة بالتدريب على تقدير الموظفين على مرِّ الثلاثة والعشرين عامًا الماضية، ولكنني لم أتأثَّر بأيٍّ منها مثلما تأثَّرْتُ بفعاليتكم؛ لذا، أردتُ فقط أن أعبِّر لكم عن شكري على نصيحتكم الواقعية والعملية.»
وبعد الجملة الأخيرة أضافَتِ السيدةُ جملةً أخرى بين قوسَيْن، قالت فيها: «أرأيتم؟ لقد تعلمتُ أن أقدِّر الآخرين على الإسهامات التي قدَّموها بطريقة محددة وموجَّهة.»
وهكذا، يمكن لأي مدير من المديرين الذين يختارون بوعي منهم أن يطوِّروا من ذواتهم، أن يتعلَّم تقديرَ الآخرين.